أدب السجون محمود الورداني - العودة إلي القاهرة..

ربما كنا- عائشة وأنا- أول من يُقبض عليهما في الوادي الجديد بتهمة الشيوعية. وكنتُ قد ذكرتُ من قبل نُدرة الجريمة عموما والميل المسالم من جانب أهل الواحات وأغلب الوافدين، وهم عادة يأتون بحثا عن امتيازات وظيفية أو بسبب سهولة الحياة المعيشية، لذلك يبتعدون عادة عن المشاكل.
أما العقيد فما لبث أن اختفي، وأمضينا وقتا ثقيلا علي مقاعدنا فيما يشبه الصالة وحولنا المخبرون. كانوا هادئين ومندهشين، ربما كان هناك قدر قليل جدا من التعاطف، وعرضوا علينا أن يشتروا لنا طعاما من اجل الطريق، فأدركنا أن سفرنا سيطول، وكان الرائد الفظ قد اختفي أيضا.
أظن أن الساعة كانت قد تجاوزت الثالثة عصرا، عندما جاء نقيب بملابسه الرسمية وتسلّمنا من مقر أمن الدولة. لم يضع قيدا في أيدينا، لكنه كان حاسما وحريصا علي أن نهبط معه بهدوء. أمام المقر كانت هناك عربة لوري كبيرة وعدد من العساكر بالبنادق القديمة ربما تجاوزوا العشرين أمام اللوري.
رحت، أتطلع إلي الطريق. كان كل شئ يبدو عاديا، والناس القليلون يمضون هنا وهناك، ولا أحد ينظر إلي اللوري. لا أحد يشعر أو يهتم بنا.المثير للدهشة أن النقيب لم يلق بنا في المكان الخلفي المخصص للمساجين وسط جنود الحراسة، وطلب منا أن نجلس متجاورين بجوار السائق، ثم صعد هو وجلس بجانبي. في الطريق تجاذبنا أطراف الحديث. طبعا لم نثق فيه - عائشة وأنا- لكنني أميل الآن لأنه كان رجلا مهذبا بالفعل، ولابد أنه استأذن العقيد، أو ربما أن العقيد نفسه هو من طلب منه أن نجلس في المكان الأمامي من السيارة. قال لنا إنه ناصري، وحاول أن يشتبك معنا في أي كلام عن نشاطنا، وقلتُ أنا له إننا نقيم في الواحات منذ عام ولا نشاط لنا، وربما أن سبب القبض علينا أن المباحث عادت إلي دفاترها القديمة عندما كنا طلابا.
وجدتُ نفسي ثابتا ورابط الجأش كما يقال وكذلك عائشة، علي الرغم من أنها المرة الأولي بالنسبة لها، بينما أنا كنت قد تعرضت لتجربة قصيرة عندما قامت قوات الأمن بفض اعتصام جامعة القاهرة في يناير 1972 ( دائما يناير!) ولم أستطع أن أمنع نفسي من سؤال النقيب إلي أين يمضي بنا؟ لكنه تجاهل سؤالي وعاد يسألني هو عن آرائي في الوضع الحالي والسلام مع إسرائيل وما إلي ذلك، وتجاهلتُ بدوري أسئلته، ومع ذلك ظل مهذبا.
لم يتوقف اللوري إلا في بني سويف عندما تقدم الليل في كازينو علي النيل ليقضي العساكر حاجتهم، ثم واصلنا السير. أظن أن الطريق استغرق نحو تسع ساعات وربما أكثر قليلا. ثم شعرتُ أننا ندخل منطقة طرة، فقد كانت الأيام التي قضيتها في أعقاب فض الاعتصام في معهد أمناء الشرطة بطرة. وتأكدتُ من ذلك عندما توقفت السيارة أخيرا أمام باب السجن. طلب مني الضابط النزول، فاستدرتُ إلي عائشة واحتضنتها قائلاً» خللي بالك..»‬
كنت خائفا عليها بالطبع، وسألت السائق بصوت خافت إذا كان سيذهب بها إلي القناطر، فهزّ الرجل رأسه. هبطتُ في نهاية الأمر، ومدّ النقيب يده بالقيد الحديدي وقيدني، فاستدرت مرة أخري ملوحا لعائشة، وسرتُ معه إلي باب السجن.
دخلنا إلي مكتب المأمور الواسع المؤثث بأثاث فخم لكنه فظ مع ذلك. تمت الإجراءات في سهولة ويسر. كان الأمر عاديا جدا، ولم يوجه المأمور أي سؤال لي، بل لم يرفع عينيه ناحيتي، ثم فكّ النقيب القيد وابتسم لي قبل أن يستدير عائدا، بينما كان المأمور قد أمر شاويشا باصطحابي..
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل...



زمن القليوبي (78 ) العودة إلي القاهرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى