مروة التجاني - تيار الرومانتيكية - 1

تعددت تعريفات المذهب الرومانتيكي حسب وجهه نظر كل فيلسوف ومفكر حيث يقول ( ستاندال ) أن الرومانتيكي هو الحديث والمثير بينما الكلاسيكي هو القديم والممل ، بمعنى أنها مسألة فهم للقوى التي تحركك في حياتك الخاصة بمقابل نوع من الهروب إلى أمر تجاوزه الزمن ، لكن معاصره ( غوته ) يقول أن الرومانتيكية مرض إنها ضعيفة ، مريضة ، صيحة الحرب لتيار من الشعراء المهتاجين والكاثوليكيين المحافظين . فيما يرى ( نيتشة ) أنها ليست مرضاً بل علاجا ً ، ترياقاً لمرض . يقول ( هاينة ) أن الرومانتيكية هي زهرة الآلام التي انبثقت من دم المسيح وإعادة ايقاظ لشعر القرون الوسطى السائر في منامه ، قمم حالمة تطالعك بعيون عميقة الحزن لأطياف ضاحكة . ويعرفها البعض بأنها تمرد على الارستقراطية بعد عام 1789م فهي تعبير عن الطاقة والقوة لمحدثي النعمة ، إنها تعبير عن الطاقات الدافعة والحيوية للبرجوازية الجديدة ضد القيم القديمة الطيبة والمحافظة للمجتمع والتاريخ . إنها ليست تعبيراً عن الضعف ولا اليأس ، بل عن التفاؤل الوحشي . أما ( فردريك شليجل ) الرائد والبشير والنبي الأعظم للرومانتيكية فيقول إنه توجد في الأنسان رغبة رهيبة وغير مشبعة للتحليق نحو اللانهائي وتوق محموم لتحطيم الحدود الضيقة للفردية . فيما يرى ( شاتوبريان ) إنها البهجة السرية والتي لا توصف للروح وهي تلهو مع ذاتها ـ إنني أحكي أبد الدهر عن ذاتي . لكن جميع هذه التعريفات لم تثر أبداً ذلك الغضب النقدي والذي كان يمكن أن ينفجر على أي أحد قدم تعريفات أو تعميمات تعتبر عابثة وغير ذات صلة في أي مكان في العالم .

الرومانتيكية هي البدائي ، غير المتعلم ، إنها الصبا ، الأحساس الصاخب بالحياة للإنسان الطبيعي ، لكنها أيضاً الذبول ، الحمى ، المرض ، والانحلال ، مرض العصر ، السيدة الجميلة التي لا ترحم ، رقصة الموت ، بل الموت ذاته . إنها قبة ( شيلي ) الزجاجية المتعددة الألوان ، وهي أيضاً اشعاعه الأبيض للأبدية . إنها الاكتمال المضطرب والملئ بالزخم والفني للحياة ، التعدد الذي لا يستنفد ، الاضطراب ، العنف ، الصراع ، الفوضى ، ولكن أيضاً في الوقت ذاته السلام ، التوحد مع ( الأنا يكون ) العظيمة ، التناغم مع الطبيعة ، موسيقى الكواكب ، التلاشى في الروح الكلية ، إنها الغريب ، العجيب ، الشاذ ، الغامض ، الخارق ، الخرائب ، ضوء القمر ، القلاع المسحورة ، أبواق الصيد ، العفاريت ، العمالقة ، الكائنات الأسطورية ، المياه الساقطة ، الطاحونة القديمة ، الرعب الذي لا يسمى ، اللاعقلاني ، الذي لا يقال .

الرومانتيكية هي الهجوم الأول على التنوير الذي قام على ثلاث أعمدة أولها إن كافة الأسئلة الحقيقية يمكن الإجابة عليها ، وإذا كان هناك سؤال لا يمكن الإجابة عليه فهو ليس بسؤال ، ربما لم نكن نملك الإجابة عليه ، لكن أحداً ما سيفعل ، ربما كنا أكثر ضعفاً ، أو أكثر غباءً أو أكثر جهلاً من أن نكتشف الإجابة بأنفسنا وفي هذه الحالة لعل الإجابة تكون معروفة لأشخاص أكثر حكمة منا – للخبراء – لنوعٍ من النخبة . ثانياً إن كافة الإجابات قابلة لأن تعرف ، ويمكن اكتشافها بوسائل يمكن تعلمها وتعليمها للآخرين وتمكننا من معرفة ما يتألف العالم منه ، وما موقعنا منه وما علاقتنا بالبشر وعلاقتنا بالأشياء . ثالثاً أنه ينبغي لكافة الأجوبة أن تكون متسقة مع بعضها البعض لأنها إذا لم تكن متسقة فأن النتيجة ستكون هي الفوضى . هذه المقولات الثلاث هي الافتراضات المسبقة العامة للتراث الغربي وتعد بمثابة العمود الفقري وهو ما هاجمته الرومانتيكية بالتحديد . حيث مثلت مجالات الأخلاق والسياسة فوضى استثنائية كان من الواضح تماماً ، في ذلك الحين كما هو الآن ، أن الناس لم يعرفوا الأجوبة على جميع الأسئلة .

كان القرن الثامن عشر عهد الانتصارات العظيمة للعلم وكانت أعمق ثورة في العاطفة الإنسانية هي التي حدثت في ذلك الحين نتيجة لتدمير الأشكال القديمة وبالغت العقلانية كثيراً لدرجة بحثت معها العاطفة الإنسانية المقموعة عن مسار في اتجاهات أخرى . يرى الشاعر ( ويليام بليك ) أن الواقع هو كل حي لا يمكن تذوقه بالصيغ الرياضية وحدها ، ما رغب ( بليك ) فيه هو استعادة السيطرة على الجانب الروحاني والذي تجمد نتيجة للانحلال البشري والأفعال الفاسدة لقتلة الروح الإنسانية الذين يفتقدون إلى الخيال ويقول في إحدى قصائده : يا أطفال المستقبل ،
يا ن تقرأون هذه الورقة الغاضبة ،
اعلموا إنه في وقت سالف ،
كان ينظر إلى الحب ، الحب الرقيق ! على إنه جريمة .
وكان الحب بالنسبة إلى ( بليك ) هو الطبيعة .

للحركة الرومانتيكية آباء مؤسيين سنذكر نهم ( هيردر ) القادم من خلفية تقوية وكان بروسياً ومحتجاً على امبراطورية ( فردريك العظيم ) وتقوم دعائم فكره على ثلاث مرتكزات هي التعبيرية وفكرة الانتماء والمثُل الحقيقية . يرى ( هيردر ) أن أحد الوظائف الأساسية للبشر هي التعبير ، الكلام ، لذلك فأن كل ما يفعله الأنسان هو أن يعبر عن طبيعته وإذا لم يفعل فلأنه يكبح نفسه أو يقيدها أو يضع نوعاً من السلاسل على طاقاته . بالنسبة لـ( هيردر ) العمل الفني هو تعبير لشخص ما ، وهو دوماً صوت يحدثنا ، العمل الفني هو صوت شخص يكلم آخرين ، كل منتج بشري هو تعبير عن موقف من الحياة ، واعياً أو غير واع ، لصانعه . يؤكد ( هيردر ) إن كل إنسان ينتمي إلى جماعة وإذا ما جرى انتزاعه منها فسيشعر بالإغتراب وفقدان الوطن ويجوز لنا أن نقول إن فكرة الانتماء إلى وطن والإنتزاع من الجذور الطبيعية ، بل فكرة الجذور ذاتها هي من ابتكار ( هيردر ) إلى حد كبير . إذن كل شخص يرغب في التعبير عن نفسه يستخدم الكلمات ، وهي ليست من اختراعه بل عبرت إليه من خلال تدفق موروث من الصور التراثية ، وهذا التدفق تغذى بواسطة أشخاص آخرين عبروا عن ذواتهم في الماضي . لكل شخص الكثير من المشترك ، غير الملموس ، مع أشخاص آخرين وضعتهم الطبيعة في نوع من المجاورة له .

يرى ( هيردر ) أنه إذا كانت قيمة أية ثقافة تكمن في ما تسعى إليه هذه الثقافة فأن لديها مركز الجاذبية الخاص بها ، ونحن نحتاج إلى تحديد ما هو هذا المركز قبل أن نتمكن من فهم ما كان عليه أهلها . فمن غير المفيد أن تحكم على هذه الأشياء من خلال وجهة نظر تنتمي إلى قرن آخر أو ثقافة أخرى ، وإذا اضطررت لفعل ذلك فستدرك أن لكل عصر مثُلاً مختلفة وأن هذه المثُل كلها كانت مشروعة في زمانها ومكانها ويمكن لنا الإعجاب بها وتذوقها الآن . بذلك كان ( هيردر ) عن حق هو الأب والسلف لكل أولئك الرحالة ، والهواة ، الذين يتنقلون في أرجاء العالم ويتقصون كافة أشكال الحياة المنسية ، ويبتهجون لكل ما هو غريب ، غير معتاد وفطري ، ولم تمسه الحضارة .


مروة التجاني - تيار الرومانتيكية 1

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى