عبدالله البقالي - ابن المجهول.. قصة قصيرة

أمران كانا يشغلان بال الناس تلك الظهيرة . الكلمات القوية التي كانت تبث من مسجد القرية عبر المكبر , و السرعة الجنونية التي كانت سيارة الدرك تقطع بها الشارع المحفر .
لكن الزمن لم يكن وحده ما جمع بين الحدثين و ذلك أن الشاب المكبل داخل السيارة كان نقطة تقاطع أخرى بين من صنع الحدثين . وربما لهذا السبب كان يحس باشفاق أكبر على أولئك الجالسين في رحاب المسجد يتابعون موعظة السيد المهدي منهم على اولئك الذين تناثروا على طول الطريق و الذين كانوا يبذلون قصارى جهودهم ليتعرفوا على هوية المعتقل. لكن بالرغم من كل شئ , فقد انتابه احساس بارتياح نابع من كونه ليس وحده من خدع , و أنه لم أكثر غباء من الآخرين . غير أن هذا الشعور سرعان ما كان يتبدد حين كان يدرك أن لا سبيل لمقارنة بين خداع ينتهي بخسران شئ يمكن ان يعوض و آخر تكون حياة المرء فيه هي ما يضيع.
ينظر حواليه . يرصد حركة الدركيين الجالسين في الأمام .يستبق الزمن ليرسم الزهو الذي ستنطق به ملامحهما و هما يقدمانه لرئيسهما , و الذي من اجل الحصول على ثناء اكبر منه , سيؤكدان له أنهما لاقيا صعوبات لا تطاق , و أنهما عرضا نفسيهما للخطر من أجل القبض على هذا اللص ذي التطلعات الاجرامية الخطيرة .وعندما سيرتاب الرئيس فيما سيقولانه بعد أن يرى عمره اليافع و جسده النحيل , سينصحانه بأن لا ينخدع بمظهره .الرئيس سيهز رأسه بالموافقة , وسيشجعه صغره على مناداته بكلمات نابية ويصفعه ثم يدفع به الى الداخل وينتهي الامر بتقرير لا ينقصه غير توقيعه.
صوت السيد المهدي صار أكثر وضوحا بعد أن اقتربت السيارة من المسجد , لكن المنعرجات كانت تجعل الجمل تصل مبتورة .
انتابته رغبة في أن يولي الزمن الأدبار الى الوراء , لا ليصحح ما حدث , بل ليدخل المسجد و يطلب من الناس أن يسمعوا منه كلمة . كلمة واحدة لا غير .
يمتعض . يعب المرارة .مرارة قد تكون مفيذة الآن أكثر من أي وقت آخر , اذ ستجعل كل شئ بعد ذلك هينا .فلا استنطاقات الدرك , و لا الزنازن التي ستتلقفه بعد حين , و لا الظلمة التي ستلون عمره ستكون ذا شأن . لكن ثمة جزء من روحه يصرخ الآن و يتوسل معاندا صوت المكبر الذي كان يطغى على كل الأصوات.
صرخات باطنية كانت تكشف فراغا مهولا ابتدأ قديما حين تزحزح من رحم أمه . وتنامى حين اعتبرته مجرد عنوان لفضيحة يجب أن تطمس ,و تسارع مع تبني السيد المهدي له.
لا شك أن أمه كانت امرأة قوية , ربما تفوق شراسة السيد المهدي الذي يوصل صوته الان الى كل العالم. والا كيف قهرت احساس الامومة داخلها وتخلت عن جزء من كبدها ؟ هل كان ما سيواجهها لو احنفظت به أكبر مما يواجهه هو الآن ؟ ...
و اذا كان ذلك شيئا مقضيا فكيف عاشته لحظاتها الأخيرة معه ؟ هل ضمته لصدرها و بكت حتى بللت خرقه , وحين همت بالانصراف لم تتمالك نفسها فعادت و حملته من جديد أم أنها تسللت خلسة الى المستشفى و أودعته زاوية ما و انصرفت فرحة بالتخلص منه ؟..
ما عاد ذلك الآن مهما و لا مفيذا , و لأنها لا تستحق وقفته مهما كانت طريقة وداعها له .و لأنه عاش حياة سوية بعد ذلك .
هو نفسه لم يع حقيقته الا حين كبر . رفاقه هم من نبهوه الى ذلك .انتبه الى أنهم كانوا يخصونه بكلمات معينة بعد كل خصام . اعتقد في البدء أن تلك الكلمة شأنها شأن أي كلام يهدف منه متلفظه للاساءة الى شخص آخر . لكن ومثلما تتحول جمرة الى لهيب حارق , كبرت الكلمات. " ابن حرام "كم كره العبارة ..كم عانى و قاسى منها .. لم تكن كلمة . كانت أشبه بحصى تقذف بها بركة فتنطلق موجات في كل اتجاهات روحه . وفي عبورها كانت تدمر كل شئ سام فيها ... لم يكن يملك سوى أن يبكي . بكاؤه كان يكشف أن الحضن الذي كان يلقي بنفسه فيه لم يكن دافئا .. و الأصوات التي كانت تواسيه كانت تفتقد الى الحرارة.
وحده السيد المهدي كان قادرا على تهدئة كل المنغصات . كانت أشبه بنوبات الصرع تنتابه . يطوف كل الأحياء ..يدق كل البيوت ولا يمل من الشكوى . وحين كان يعود منهكا من حربه اليومية ويتراءى له الشرخ ماثلا في عينيه كان يضمه لصدره و يبكي معه.
انه يستطيع أن يتذكر كل ذلك الآن . فهل كان السيد المهدي يفعل كل ذلك عطفا منه عليه أم أن العبارة كانت تخترقه هو الآخر و تذكره بأنه رغم كل الأمجاد التي حازها فانه كان أقل قيمة من الناس الذين يصر على التميز عنهم ما دام أن سلالته مهددة بالانقراض ؟
انه يستطيع أن يسترجع كل ذلك كما يستطيع أت يتذكر كيف أن العبارة تحولت الى ما يشبه سدا مهددا بالانهيار , و ان اليسد المهدي قدم كل شئ كي لا يحدث ذلك , المال , الهدايا , اللعب وحين كانت تبدو العبارة عصية على الاقتلاع كان يجثو على ركبتيه و يبكي .ومن ثم كان يتحول الى راشد و يتحول هو الى طفل . ومن يومذاك تعلم أن يكتم آلام جراحه من أجل راحة السيد المهدي . فهل كان السيد المهدي يقوم بكل ما يقوم به من أجله أم أنه فقط كان يبحث عن مسكن لمرض أكد له الجميع أن لا شفاء له منه ؟
لكن المعجزة حدثت بعد ذلك . وبوابة تشرده النهائي فتحتها الزوجة بابتسامة طبعتها على ثغرها جعلت حطام السيد المهدي يتماسك ليشكل قمقما يسكنه مارد عظيم . المفاجأة كانت مذهلة أفقدت اليسد صوابه و احتاج الى وقت طويل كي يسترجع وعيه , وحين استفاق هرع الى زوجة و امام البطن توقف , مرر كفيه بحذر أشبه بالخشوع ثم رفع يديه الى السماء و استغرق في دعاء طويل . دعاء لم يعرف أي أنواع الأرواح شرحت روحه أثناءه . وحين استفاق كان انسانا آخر تماما لم ير وجهه بعد ذلك . و حتى حين كان يتحدث اليه , كان صوته يأتي كصياح تحمله الريح من بعيد .
الفرحة التي سرت في البيت جعلته يحس أنه مستهدف . فكر في ان يثبت نفسه . أن يستعيد موقعه . أن يستعيد تعاطف السيد المهدي . حاول أن يعاند هواجسه . اقتحم الغرفة كما كان يفعل لكن السيد المهدي لم يكن هناك .
جاءه صوت قوي لم يسمع بمثله من قبل .: اسمع , يجب أن تستأذن في الدخول أيها اللقيط ......
لم يسمع البقية .ارتج شئ ما داخله . اضطرب النبض , انحبست الانفاس بعد أن تحول الهواء الى أحجام صلبة تدافعت لتنحصر عند منعرج ما داخل حلقه فاختنق و بدا أنه هالك لا محالة.جحظت عيناه و احمرت وجنتاه وتصبب منه عرق غريب .
لم يفكر في البكاء لأنه كان يعرف أن آخر جدار كان يحمي ظهره قد تهاوى , و أن البساط كانت قد سحبت رحابها من حوله فلم يبق له الا الموطئ الذي يضع عليه قدميه . أية خطوة كانت تعني الاستقرار في عمق هاوية لا قرار لها .
تجلد ..أحس ان خلاياه تتصلب ..أن روحه تتخلى عن ما تبقى فيها من أشياء جميلة . رفع أخيرا وجهه.سأل نفسه من منهما لم يكن هو نفسه الذي كان من قبل ؟..من الذي غيبته الأقدار و نسجت آخر على شاكلته ونذرته كي يصنع فواجع صاحبه ؟
لم يكن الجواب مهما ولا مفيذا . مد خطوات واسعة للأمام , وقبالته امتد فراغ مهول يستدعيه بالحاح للضياع.


* منقول عن:
Zum Anzeigen anmelden oder registrieren
  • Like
التفاعلات: ليلى منير أورفه لي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى