محمد زفزاف - السابع..

قالت نوارة:
- لا بد أن نجلب جوقا في حفلة النساء تلك لأنه لا يمكن أن تحلو حفلة بدون طرب ورقص.
قال أحمد:
- لو طلبت مني الزوجة الأولى ذلك لما حققت لها هذه الرغبة، أنت تعرفين المكنة التي تحتلينها في قلبي.
نوارة تبلغ الثانية والعشرين، صغيرة الحجم، أنفها أقرب إلى أن يكون أفطس، غير أن ما يغطي على ذلك تورد وجنتيها ووجود ذلك الخال قرب الأنف عند الحنك الأيسر. جسدها لا يبدو ذا بال، لكنها عندما تتعرى تصبح امرأة حقيقية بين يدي الرجل، أي رجل، لذيذة شكل لا يمكن تصوره مثل فاكهة ناضجة في غير موسمها. لذلك قال أحمد:
- تعرفين أيضا أنني ألبي كل طلباتك. لكن جوقا من الرجال لا أتصوره بين مجموعة من النساء.
- و أنا أيضا لا أتصور جوقا من النساء بين مجموعة من النساء.
- سوف أحضر لك جوقا من العمي. كثير من الحفلات النسوية يحضرها جوق من العمي.
حك أحمد تحت إبطه. تفرس فيها بنظرات جد حادة. تأمل جسدها الصغير الحجم اللذيذ مثل فاكهة في غير موسمها، هذا الجسد الذي يغطيه زغب أصهب مثل زغب الخوخ. لا يمكن لجوق من الرجال أن يغني أمام امرأة مثل هذه، لكن لا بأس إذا كانوا عميا.
قال نوارة:
- هذا ولدنا الأول، ويجب أن يكون احتفالنا سابعه احتفالا يغلق أفواه النساء والرجال معا. و أنت تعرف أن الناس يتحدثون حتى عن الأشياء التي لم يروها ولم يسمعوا بها.
- إذا جلبنا جوقا من العمي فإنه لا يمكن لأحد أن يقول شيئا.
- كثير من الناس يقيمون حفلات يختلط فيها النساء بالرجال.
- أنا لست من أولئك الناس.
تظاهرت بالغضب، شعر هو بذلك لكنه لا يستطيع أن يفعل أكثر مما يفكر فيه. هذا قراره حتى ولو كان يموت من أجل زغب الخوخ. نوارة أرادت، وأحمد أراد، غير أن أحمد أراد ما لم ترده نوارة.
ثم سُمعت الزغاريد والتصفيقات، ودخل جوق العمي متماسكين مثل عربات القطار، واصطفوا في مكان معين. احتكت أفخاذ بعضهم بأفخاذ بعض النساء، ومنهن من تجنبن ذلك ومنهن من رغبن في دفئه. هذا سابع سوف يغلق الأفواه: أفواه النساء وأفواه الرجال، خصوصا فم مينة زوجة عبد القادر، فم منانة وفاطمة الحسناوية و خدوج بنت الأصمك، ويغلق كابينة رحمة زوجة العربي الهيش. لذلك حاولت نوارة أن تبدو كما لو لم تخرج قط من حالة النفاس والولادة، حتى لا يقال بأنها ضعيفة وأنه ليس بمقدورها أن تنجب دزينة من الأطفال كما تنجب كل نساء البراريك. وعندما ارتفعت الزغاريد والتصفيقات زغردت هي الأخرى واضعة كفها فوق شفتيها العليا التي ظهر فوقها تقاطع خطوط حناء، في حين كانت اليد الأخرى تحضن الصبي فوق خذيها. و عندما زغردت أخرجت ثديها وحاولت أن تلمه عبثا للطفل الذي كان يحرك عبثا يديه شبه مغمض العينين. وقالت رحمة زوجة العربي الهيش:
- الله يحفظه لأمه وأبيه.
- لم أرد سوى أن أنبهك لأن لي تجربة في الأمر وأم لخمسة أبناء و بنات.
و قالت منانة التي التقطت الحديث رغم أنها كانت تصفق وترشف الشاي:
-لم تقل لك غير الحق.
نهضت امرأة من أقصى البراكة وتخطت أقدام بعض النساء وتقدمت نحو الأعمى صاحب التعريجة الذي كان يغني بصوته المبحوح الذي نخره الكيف، وعلقت له بين طاقيته وجبهته ورقة من خمسة دراهم. اضطرب عف الأعمى وأوشكت كلمات الأغنية أن تضطرب في فمه كذلك، لكنه استعاد الإيقاع، بل رفع صوته أكث وأخذ يضرب على جلد التعريجة بحماس. فعلت نساء أخريات مثل المرأة الأولى، وفي نفس الوقت كن يزررن نوارة والصبي. نهضت امرأة فقيرة واقتربت منها وقدمت لها طوبة سكر:
- يا ابنتي يا نوارة اقبلي هذه الزرورة، في عهدنا لم نكن نقدم سوى السكر. عصركم تبدل، ما كنا نعرف الفلوس.
وتراجعت العجوز إلى مكانها. حتى لو كان معها ما كانت لتدمها كزرورة لأن الفلوس تفلس، ولذلك قيل الله يفلسك. ثم خبطت العجوز على فخذيها العجفاوين وقالت للتي تجلس بالقرب منها:
- إنها صغيرة ومسكينة، لكن تبدو أنها من النوع الذي يعيش له الأولاد.
وقالت المرأة المتوسطة العمر التي كانت تجلس قربها:
- تقدمي إلى الوسط حتى نراك.
- لا أستطيع أن أرقص مع رجل.
-إنه مجرد أعمى، و فوق ذلك فهو عجوز.
- عيب أن تراقص امرأة رجلا.
- كل شيء عندكن عيب، نحن في الدوار نراقص الرجال.
- لا شك في ذلك، لأنك منصورية، المنصورية لا تخجل حتى من أولادها.
وقفت المنصورية وتخطت بعض الأفخاذ والأقدام و الرؤوس، أصبحت قبالة الأعمى في الوسعة الصغيرة، مدت ذراعيها في الفضاء، وأخذت تدك الأرض بقدميها. زغردت بعض النساء مشجعات لها. ارتفع صوت الأعمى وازدادت ضربات أنامله على التعريجة قوة. كانت التعريجة تحت إبطه تكاد تختفي وراء ثوب قشابته، ومع ذلك كان يسمع له صوت حاد. الأعمى صاحب الكمنجة يساعده بترديده لازمة أغنية عن الحصاد والحب والمرأة التي لا تهتم به لأنه مجرد خماس. شعرت نوارة بالبول الساخن يتسرب إلى جسدها. اعتبرت ذلك طبيعيا فتحملته، أخذت تحرك هي الأخرى جسدها الواهن. لاحظت ذلك امرأة فقالت لها:
- لا تحاولي أن ترقصي، الحرارة شديدة. سوف تفسدين الوالدة إذا فعلت. زوجك ينتظر منك أولادا آخرين. تعالي اجلسي.
جلست نوارة عند الباب، واستمرت المنصورية في الرقص، والأعمى ينحني عند عجيزتها وقد أصابه نوع من الحال، يضرب بعنف على التعريجة وصوته المبحوح يخترق أخشاب البراكة. نهضت امرأة أخرى وأخذت ترقص وقد نزعت عن شعرها الأكرت منديلها المزوق، ألقت المنديل في حجر إحدى النساء، ظلت ترقص في مكانها. وقف أعمى آخر كان يضع نظارتين، وتوجه نحو الوسعة الصغيرة وسط البراكة. داس المكان كالتيس، أخذ يرقص مع المنصورية والأعمى صاحب التعريجة، ويردد لازمة الأغنية، لكن صوته كان شبيها بالعواء. نفس اللازمة كانت تردد من طرف أفواه أخرى، أفواه نساء يبرن ورجال لا يبصرون.
وقال امرأة توجد قرب الباب لنوارة:
- لا شك أن زوجك سيشرب زجاجتين من النبيذ هذه الليلة.
- لم يعد يشرب، ولكنه عوضه بالكيف. الكيف أرخص يا أختي.
- أهاه ! مثل زوجي ! لكن الكيف يجعل الرجال كسلاء ويفقدون فحولتهم.
- طبعا، إذا كانت المرأة لا تعرف كيف تستحلب الثور. أقصد إذا أنهكت. أما أنا فما أزال صغيرة وقادرة على استحلاب ثور عمره ثمانون سنة.
- هنيئا لك يا أختي. ثم إن سي أحمد يبدو رجلا فحلا. وهذا العزري الذي في أحضانك لا بد أنه سوف يشبهه.
- الله وحده يعلم بذلك.
أخذت تهدهد الصبي، وتنظر إلى وجهه المغطى بخرق، ثم قبلت الخرقة الملفوفة فوق رأسه وهي تقول:
- الفحل اليوم هو الذي يعرف القراءة، أتمنى أن يتعلم حتى يحصل على شهادات.
- معك حق. لكن إذا لم يطردوه من المدرسة. لقد طردوا كل أبنائي.
- شكيكو ! (وضربت عند خشب البراكة وتفلت في التراب).
قالت المرأة:
- ألف شكيكو وشكيكو. لكنها الحكومة.
لم تسمعها نوارة لأن الزغاريد كانت تشق الفضاء، والأصوات تتعالى وتتحدث أو تتغنى ! وشعرت أنها حققت كل شيء. لقد أغلقت الأفواه. ينقص شيء: المشوي والضلعة ! لكن مازال الدهر طويلا عريضا. وفي المرة القادمة سوف يستمر السابع سبعة أيام وسبع ليال بكاملها

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى