ليلى منير أورفه لي - قراءة في رواية الأديب التونسي محمد بوحوش " تحت سماء تحترق"

في روايته تحت سماء تحترق، ينجح الرّوائي محمد بوحوش في شدّ انتباه القارئ منذ السّطر الأوّل فيها من خلال عنوان الفصل الأوّل " خبر وفاتها"، ولا يجعله ينتظر طويلاً ليعلم أن الرّاوي محمد بطل الرّواية، يستلم رسالة من السيّد "ألبرت وايلز" الذي ينقل إليه خبر وفاة ابنته سيمون التي سيرسلون إليه بقايا أشلائها المحترقة في صندوق من القاهرة؛ ويخبره أنها كانت تشعر بالقلق متوجّسة من مكروه قد يصيبها، فأوصت والدها أن يطلعه على أحوالها وأن يرسل له ملفاً إلكترونياً مهماً جداً تركته لديه واحتفظ به دون أن يعلم محتواه، في حال حدوث مكروه لها، وها هو ينفّذ وصيّة ابنته.

ويُدخل القارئ فوراً في الأحداث مستخدماً أسلوب الخطف خلفاً حيث يبني روايته بالاستناد إلى ملف الوصيّة، فيكتشف القارئ أن سيمون هي بطلة الرّواية الأساسيّة، وهي صحفيّة بريطانية في العشرينات من عمرها، تعمل في قسم التّحقيقات لصحيفة ""الحقيقة اللندنية " وتعمل أيضاً معدّة برامج تلفزيونية مع عدد من قنوات التلفزيون البريطانيّة، والتي من أجل كشف حقيقة ما يجري في دولة "داعش" تنتحل، مدفوعة بحماس الشّباب وما تحمله شخصيتها من صفات حبّ المغامرة وحبّ البحث عن الحقيقة بوعي مستند إلى ثقافة وعلم وعاطفة إنسانيّة نبيلة، تنتحل شخصيّة امرأة اعتنقت الإسلام وأصبح اسمها "مريم عمر جابر" وقد جاءت إلى الرقّة عاصمة دولة الخلافة، بجواز سفر مزوّر زوّدتها به الصّحيفة، للمشاركة في الجهاد كبريطانية مسلمة، من خلال عملها الصحفيّ لنقل صورة حقيقيّة عن واقع الأحداث من أجل نفي صفة الإرهاب عن هذه الدّولة الحديثة وإعطاء أوروبا والغرب والرّأي العام العالميّ صورة واقعيّة عنها.

وتدوم إقامتها في دولة الخلافة ثلاثة أشهر تجري خلالها تحقيقاتها الصحفيّة وترسلها لنشرها في الصّحيفة، التي عملت على نشر صورٍ لها في الصّحف ومواقع التواصل الاجتماعيّ تظهر فيها اعتناقها الإسلام مثلما تظهر ميلها إلى الفكر الدّاعشي، وأيضاً تجري لقاءات شخصيّة مع النّساء المجاهدات على اختلاف أنواع الجهاد الذي يجاهدنه، كمايصطحبها المجاهدون معهم لتوثيق معركة " تحرير" مدينة تلّ أبيض على الحدود السورية التركية، كما تطلب منها الصّحيفة إجراء لقاء تلفزيونيّ مع أمير دولة الخلافة " أبي بكر البغدادي" الغاية منه الوقوف على حقيقة نظام حكم الخلافة، وتستخدمها المخابرات البريطانيّة، كما تكتشف لاحقاً، كطعم لتفجير الأمير والقضاء عليه مضحيّة بها. وتمّ إحباط هذه المحاولة، دون علم منها، عبر تحذيرها من مسؤول المخابرات التركيّة بالطلب منها عدم اصطحاب هاتفها النقّال معها الذي تتعقبه حكومتها للاستدلال على مكانه. وتتوالى أحداث الرّواية إلى أن يتمّ إخراجها من الرقّة في سوريا إلى الموصل، وهناك تلتقي "بريجيت" امرأة بريطانية أخرى اعتنقت الإسلام وجاءت إلى الموصل لتعمل في التحليل النّفسي والإرشاد والدّعم النّفسي للمجاهدين نساءً ورجالاً، وقدّمت مساعدة كبيرة لسيمون في السّماح لها الكتابة عن بعض الحالات التي تعالجها كتقارير صحفية، ثم يتمّ إخراجها مع بريجيت من الموصل بعد تحريرها من الدّواعش على يد الجيش العراقيّ، وتكتشف لاحقاً أنها كانت جاسوسة أيضاً، ثم يتمّ نقلهما معاً إلى السّفارة البريطانيّة في بغداد ومنها تعودان إلى لندن وفيها تلتقي حبيبها محمد الذي رغب بتقييم الموقف معها باعتباره قد درّبها على التصرّف كمسلمة وزوّدها بالخبرات والمهارات اللاّزمة للتّعامل مع الإسلاميين، وهو الخبير في الجماعات الإسلاميّة، وقد جاء للقائها في مكتب رئيس تحرير الصّحيفة، الذي واجهته بحقيقة اكتشافها لخداعه وخداع حكومتها البريطانيّة التي كادت تودي بحياتها، وبعد قضاء عدّة أيام مع حبيبها في لندن، يعود هو إلى تونس وتذهب سيمون في رحلة استجمام إلى القاهرة حيث تجري حادثة تفجير مركب في النيل على متنه العديد من السّواح الأجانب.

الرّواية في تفاصيلها واقعيّة تماماً والأحداث التي بُنيت عليها حقيقيّة كذلك وتجري في أماكن حقيقيّة، كما أنها مواكبة للأحداث والعالم كلّه يتابع أحداثها كلّ لحظة عبر شاشات التلفزة العربية والعالمية ونشرات الأخبار ومواقع التواصل الاجتماعي، فلماذا يعنّي الروائي نفسه في كتابة رواية لأحداثٍ وثّقها التاريخ ووثقتها الأفلام الوثائقية، والمسلسلات التلفزيونية...؟!

الرّوائي الأديب محمد بوحوش تونسيّ مطَّلع على الأحداث، متابع للوقائع وعانى في تونس من بعض الأحداث الدّامية كالتفجيرات واغتيال الأدباء والمفكّرين السّياسيين، الناتجة عمّا سمّي " بالربيع العربي"، الذي انطلق أصلاً من تونس، كما أن الكشف عن وجود إرهابيين من تونس في سوريا ونساء تونسيّات أيضاً أتين سوريا لجهاد النكاح وسواه من أنواع الجهاد، أو ليصبحن استشهاديات أثّر به كثيراً، وهو أيضاً شاعرٌ من بلد أبو القاسم الشّابي شاعر الحياة والحريّة، فشعوره بالمسؤوليّة الأخلاقيّة والأدبيّة دفعه لكتابة هذه الرّواية، للأمانة التّاريخيّة، ولتعرية الأحداث وكشف الكثير من المخفي والمستور لمن ما يزالون يعيشون في أوهام " ثورة الربيع العربيّ، وأحلام دولة الخلافة والإسلام السّياسيّ".

وأنا كمواطنة سورية أعيش في سوريا وأعيش وقائع الحرب في حلب وسمعت شخصياً، بحكم طبيعة عملي في مجال الإرشاد النفسيّ والاجتماعيّ، من بعض الأشخاص الذين تمكّنوا من الهروب من منبج وجرابلس والرقة إلى حلب عن فظائع وأهوال أكثر بكثير ممّا ورد في الرّواية ومما عرض على شاشات التلفزة، شعرتُ بالامتنان للأديب محمد بوحوش، لذلك أكتب هذه القراءة الانطباعيّة عن الرّواية مدفوعة بإحساس ردّ الجميل أولاً، وثانياً لأنها عمل أدبي رائع يستحقّ الوقوف عنده، وأيضاً لظنّي بصعوبة وصول نسخ الرّواية إلى القرّاء في سوريا فقد وصلتني عبر البريد الإلكترونيّ.

الرّواية تقوم على روايتين متداخلتين فالرّاوي هو الروائيّ ذاته باسمه الحقيقيّ أحد الشّخصيّات الأساسيّة في الرّواية، بل الرّوايتين، فهو يبدأ بكتابة روايته التي جرت أحداثها استناداً إلى ذكرياته الشّخصية مع بطلة الرّواية سيمون، قبل بدء كتابة روايتها استناداً إلى المذكّرات اليوميّة التي وصلت إليه في الملف المرفق مع الرّسالة، التي وصلته من والدها تنفيذاً لوصيّتها، بعنوان" الحياة في منتهاها ترجمة وتحرير محمد بوحوش" بناء على رغبتها بدءاً من نهاية الفصل الثالث في روايته، حيث يبدأ الفصل الأوّل منها بعنوان " سيمون أو مريم في العاصمة إسطنبول" ويكتبها بلسان البطلة وينهيها بمشهد استلام نسخ الرّواية مطبوعة مظهراً صورة غلافها، ثم يكمل روايته " تحت سماء تحترق" ليجعل للحدث الذي بدأ فيه الرّواية، نهاية أخرى.

إن الحوار في هذه الرّواية هو الرّواية بذاتها لأنه يواكب التحوّلات المختلفة للحدث وللشخصيّات، وقد جاء على مستوى الحدث ومستوى الشّخصيّات الفكريّ والثقافيّ، فهو حوارٌ ثقافيّ سياسيّ عالي المستوى بين الصحفيّة وحبيبها وضابط المخابرات ورئيس الصحيفة وسواهم، وبسيط مع النّساء الجهاديات والسّائقين وسواهم من الشّخصيات العاديّة.

أما السّرد المرتكز على المونولوج الدّاخلي لجميع أبطال الرّواية فنجد فيه انسجاماً بين الشّخصيات ومنطوقها، فقد اعتمد عليه الرّوائيّ كوسيلة لإيضاح القضايا التي يطرحها على مستوى البعد الاجتماعيّ للأسرة التي أنتجت شخصيّات الرّواية، النّساء العربيّات أو الأجنبيات بمختلف جنسياتهنّ، سواء على مستوى الأسرة ومشاكلها أو على المستوى الاجتماعيّ وحريّة المرأة وعلاقتها بالرّجل، أو على المستوى الإنسانيّ وحرية الكائن التي يسعى لتحقيقها من حيث الاعتقاد الدّيني أو السياسيّ أو الفلسفيّ والعقائديّ أمام السّلطة النافذة، سواء كانت سلطة الرّجل، أب أو أخ أو صديق أو زوج أو سلطة ربّ العمل أو السّلطة السياسية. كما نجد فيه، كالحوار، تناسباً مع الّشخصيات في المستوى الثقافيّ والوضع الاجتماعيّ حيث فيه يكشف عن خبراتها الحياتيّة سواء عبر أسفارهم وتنقلهم عبر دول العالم أو عبر الصّراع النفسيّ الذي يعيشونه بسبب الازدواجية الأخلاقيّة التي تتعامل بها حكومات بلادهم، ومن خلاله يشرح الفهم للصراع الطبقيّ وعلاقة الاجتماعيّ بالثقافيّ والاقتصاديّ والسّياسيّ الذي يشكّل بدوره أداة للصّراع السّياسيّ الدوليّ بمستوياته المختلفة.

كما أن الرّواية في السّرد وفي الحوار لا تخلو من الوعظ والحكم في تفسير الواقع ومعاني الحياة والوجود والقيم ( ...ربما يكون المرء في حالة وهن، وقد يحضر العدم أحياناً حين يضيق علينا قميص الأيام والآلام، فما من أحد بمنأى عن قتامة هذا الوجود، لكن ثمّة ما لا يجوز، وهو ارتكاب الحماقات التي لا تكون إلاّ بفعل حماقة هذا العالم الباهت والمحبط، وتدنّي مستوى حصانتنا القيميّ والأخلاقيّ والإنسانيّ...)ص7

وكذلك التأمّلات الفلسفيّة والوجوديّة التي تظهر وعي وثقافة شخصيّات أبطال الرّواية، " ما يجمع الإنسانيّة هو أكثر وأفضل مما يفرّقها ويجعلها في حالة صراع لا جدوى منه، سوى تحقيق أهداف فئة قليلة تتحكّم في مقدرات الشّعوب وثرواتها" ص29 .

الشّعر الذي يحتفي بالحبّ والحياة والألم، حاضرٌ في الرّواية سواء عبر نصوص الشّعر أو أسماء بعض الشّعراء، بحيث جعل من الشّعر جزءاً من الحدث وكأنه رويٌ لحوار مفتوح على الآفاق، فهو من خلال الشّعر وقد وظفه في الحدث توظيفاً رائعاً، جعل من القصيدة أداةً لوصف الحالة النفسيّة لشخصيّات الرّواية عبر تفاعلها مع المكان، وأيضاً أداةً لإظهار البنية الفكريةّ والفلسفيّة والثقافيّة، فيطرح رؤيته وفلسفته الشخصية في الحياة بحسب ديوانه الشّعري ( ليس سوى أغنية) "أن الحياة هي مجرّد أغنية"، ثم في موقف آخر له في الرّواية يرى أن الحياة هي مجرّد " أفْ " وأيضاً يعبّر من خلال قصيدة يرسلها للبطلة، في الفصل السّادس أثناء تواجدها في الرقّة، باللغتين الفرنسيّة والعربيّة عن مفهوم الناس لله في الماضي حيث كان لفظ عبارة " الله أكبر" للتعبير عن الحبّ والإعجاب والفرح وقد تغيّر هذا المفهوم حيث صار لفظ هذه العبارة إشعاراً للقتل والموت ومبعثاً للخوف. وكذلك يظهر أيضاً أن الشّعر لغة الإنسانيّة جمعاء ولغة الثقافة الإنسانيّة يتذوّقها كلّ إنسان بنسبة وعيه وحسّه الإنسانيّ، فنجد بطلة الرّواية في قدرتها على تذوّق معلّقة امرؤ القيس في بداية الرّواية وقدرتها على استحضار الماضي وربطه بالحاضر عبر التّشابه بين الصّحراء التونسيّة وصحراء الكوفة حيث المطلق الشّاسع وحضور الحبّ والأحلام، تعبّر عن شخصية واسعة العلم والثقافة والخيال، قادرة على التّحليل والتّركيب بفهم عميق وشفّاف بآن واحد. ومن خلال الشّعر يلجأ أيضاً في الفصل الحادي عشر إلى إعادة التأمّل في الواقع عبر استحضار قصيدة " غريب على الخليج" للشّاعر بدر شاكر السيّاب، التي كانت للبطلة في لحظة الحدث بمثابة شربة الماء لعطشان في الصّحراء، فمن خلال تفاعلها مع القصيدة وفي زمن القحط حيث يحاصرها الموت من كل جانب، يُطلقُ قدرة مبهرة على ربط مدركات حسيّة ترتبط بالزّمكان ويستحضر فعاليتها الفعّالة إلى هذا الواقع المحبط ليعيد تشكيل المدركات ويبني منها عالماً متميزاً في جدّته وتركيبه بحيث خلق في ذات البطلة وعياً أعمق للحاضر لتتمكن من متابعة المسيرة، وهو بذلك أيضاً يتابع تنامي الشخصيّة الرئيسيّة في الرّواية ليجعلها على مستوى الحدث عبر تناميه، بل أكثر وعياً وإدراكاً للحدث لتتمكن من البقاء على الصّراط المستقيم فلا تميل لتبنّي موقفاً آخراً غير الحقيقة، الحقيقة وحدها.

كما أن الأديب الرّوائي بحذاقة ماهرة جعل من الرّقص لغة في الرّواية وحواراً بحد ذاته والجسد هو صفحات القراءة وتحديداً جسد البطلة فنجده يقرأ في تثنّي جسدها، وهي ترقص رقصها التعبيريّ وحركته، " ثنائية السموّ للكائن البشريّ وتوقه إلى معانقة المطلق والمستحيل، ثم انحداره إلى الحضيض والسّقوط، والجسد الرّاقص في حدّ ذاته كان يمثّل موسيقى صامتة أو خافتة" ص10

وهو بذلك جعل في الرّواية الرقصَ فلسفةً تتجسّد بمفاهيمها ومضامينها، فلسفة تقول الحياة فتمدحها بالحركة، وتهجوها بالخمول والسّكون. وهو كذلك ينقل إلينا زمكانيّة التّجربة الشعوريّة عبر الرّقص وكأن البطلة تتعبد من خلال إيقاع حركات الجسد المتثنّي في محراب الحبّ/الفراق وفي محراب الحياة/الموت، فقد جاء الرّقص في أكثر من واقعة في الرّواية لينقل إلينا هذه التّجربة، فحينما يكون واقع الفراق قد وصل بالروح حدّ الاختناق والفناء، يصعّد الجسد عبر الرّقص أنّات الشوق ليفني الفناء ويحيي قدرة الخلق في الرّوح المتّقدة بالشغف والألم؛ وحينما تكون الحياة على حافّة الموت يأتي الرّقص على إيقاع الموسيقى الداخليّة للرّوح ليرسم لوحةً للرّجاء والأمل والاستمراريّة، ويُشرِعُ لها نافذة للضّوء وباباً للحياة.

كما أنّه من خلال تحرّك الشّخصيّات وتنقّلها في فضاء المكان بين العديد من الدّول، يصف بوضوح تشابك العلاقات المخابراتية، غير الخافية أقلّه على المواطن السّوري، بين تركيا وبريطانيا وداعش والعديد من دول العالم المعنيّة بالصّراع في تلك المنطقة.

وينهي الرّواية بحلم يرى فيه نفسه طائراً عملاقاً يحوم حول غابة تحترق وحبيبته سيمون في وسطها تستغيث به لينقذها فيطير فوق سعير اللّهب وينجح أخيراً بالتقاطها بجناحه والطيران بعيداً مفكّراً في أيّ أرض يحطّ فينجوان معاً.

والحلم من الناحية النفسيّة دلالته واضحة لا لبس فيها الرّجل هو الطائر العملاق، ولعلّه طائر الفينيق الذي يتجدّد بلهيب النّار وهو رمز سوريا الفينيقية،( وهو التونسيّ القرطاجنيّ المدينة التي بناها الفينيقيّون السّوريون) الجناحين الضّخمين هما رمز العظمة والقوّة والسموّ، كما أنّهما رمز الحماية والأمومة والدفء فجميع الطيور تحتضن صغارها تحت جناحيها، الغابة رمز الحياة، النّار واللّهب هنا رمز الجحيم ومثوى الأموات، الذي يفلح مثل جلجامش من الوصول إليه مدفوعاً بالحبّ كما ينجح في إنقاذ المرأة الحبيبة حارسة الحياة ثم طائراً بها باحثاً عن أرض جديدة مثل نوح الذي نجا من الطوفان ليبدأ حياة جديدة.

والرّاوي لا ينهي الرّواية هنا تاركاً للقارئ مجالاً للتأمّل والتّأويل، وتفسير حلمه، بل يجسّد حلمه على أرض الواقع فتأتي الحبيبة إليه عند السّاعة السّابعة، وكما أغمي عليه عند باب بيته في مطلع الرّواية عند تلقّي خبر موتها المفجع ليستفيق ويبدأ حياة على الورق في رواية " الحياة في منتهاها" تروي أحداث الحرب والدّمار والموت، فإنه يغمى عليه ثانية على عتبة الباب نفسه عند رؤية الحبيبة أمامه نابضة بالحياة تعده ببدء جديد للحياة فيتضح معنى عنوان روايتها الحياة في منتهاها، كما يتضح أيضاً معنى عنوان روايته تحت سماء تحترق، بل يمتزج العنوانان بمعنى واحد فالسّماء مهما احترقت وأمطرت ناراً فإنّ هذا حدث عارض زائل وأنَّ من طبْعِ السّماء المطر ومَنْحِ الخصب والحياة للأرض ويختم روايته بتعبير جميل يعبر عن إحساسه بأنه "منزرحٌ" أي أنه فرح حزين في آن واحد، يعيش الشّعورين معاً في تناغم وتكامل مثل دائرة الحياة الين واليانغ.

إنّ هذه الخاتمة الجميلة وعودة بطلة الرّواية إلى الحياة غير منسجمة مع منطق الجاسوسيّة الذي بنيت عليه الرّواية ولا مع واقع العمل المخابراتيّ، حيث من المنطقيّ أن يتمّ التخلّص منها لأنّها وصلت لحقائق فظيعة جعلتها تصف حكومتها بصفة الدّاعشية أو الإرهابية وهو واقع غير خفيّ على أحد مهما لبست تلك الدّول من أقنعة الإنسانيّة ومن القفّازات البيضاء التي تختفي خلفها لتحقيق مصالحها وأطماعها مهما كانت الوسائل المستخدمة لتحقيقها.

لكن هذه الخاتمة منسجمة تماماً مع رؤية الكاتب وآماله وشفافيته وطموحاته بمستقبل أجمل، ومع الرّسالة التي يريد توجيهها من روايته إلى القارئ العربيّ، فهو قد أنقذها من الموت في الموصل وأنهى مهمّتها الصحفيّة عند تحرير الموصل على أيدي الجيش العراقيّ، وفي هذا إشارة إلى بداية النّهاية على المستوى العسكريّ والسياسيّ لدولة الخلافة الإسلاميّة الطفرة، وإلى استعادة الحكومة الوطنية زمام الأمور وتولّي شؤونها وتحرير أرضها من الإرهاب، وهذا الأمل كذلك من أجل سوريا أيضاً التي استعادت جزءاً كبيراً من أرضها وما زالت مستمرة في تطهيرها منهم.

كما أن عودتها إلى الحياة حيث كان يجب أن تموت إشارة إلى تفتّح الوعي لدى الأوروبيين وانكشاف الحقائق لديهم استناداً إلى الوقائع الملموسة بعيداً عن الفبركة الإعلامية والتضليل المعلوماتيّ للحقائق، وبدء نضال المثقفين منهم في بلادهم ضدّ دناءة حكوماتهم وفضح ضلوعها في المؤامرات التي تحاك ضدّ الشرق العربي عامّة وسوريا والعراق خاصّة.

وكذلك عودتها إلى حبيبها في تونس حيث بدأ "الرّبيع العربيّ" في الواقع، وحيث بدأت أحداث الرّواية إشارة إلى أن الحبّ ولا شيء سواه هو بدء الحياة الجديدة المأمولة وأن الانسجام والتناغم والتآلف بين الشّرق والغرب هو مسار بدء الإنسانيّة الجديدة السّائرة على درب الوعي واحترام إنسانيّة الإنسان.

إذن نجد أن هذه الرّواية توثّق صلتها بالبيئة الزّمكانية وتعطي صورة عن الواقع في تشابك علاقاته الثقافيّة والاجتماعيّة والاقتصاديّة والسّياسيّة، ولتأكيد هذه الصلة ضمنّها بعض الصور الفوتوغرافية التي زادت من واقعية الحياة في الرواية وأكدت توثيقها بانسجام مع أسلوب التقارير الصحفية الذي بنيت عليه الرواية. كما أنّها توثّق صلتها بالأديب الروائيّ وتعطي صورة عنه وعن توجّهه الفكريّ الاجتماعيّ الثقافيّ السّياسيّ، وأيضاً رؤيته للمستقبل انطلاقاً من آماله ومن الواقع الرّاهن ومن صيرورة التّاريخ الإنسانيّ، وبذلك فهذه الرّواية هي نتاج تشابك تلك الصّلات والعلاقات فيما بينهما.


- محمد بوحوش أديب تونسي يكتب الشعر والقصة والرواية[1]

2- تحت سماء تحترق، دار الاتحاد للنشر والتوزيع – تونس – 249 صفحة من القطع الصغير، الطبعة الأولى،2017


3- ليلى منير أورفه لي: شاعرة سورية

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى