محبوبة عطية خليفة - التكرة - الدنقة (2)

محبوبة خليفة: التِكْرَة - الدنقة (2)
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

وقفتْ تلتقط المشهد البانورامي المحيط بالشرفة الممتلئة بالصغيرات، والشابات، والنساء الكبيرات في السن، ثلاثة أجيال أو لنقل اربعة - إن جمعنا معهن أطفال العائلة - يتبادلن الحديث وينظرن بقلق لنقطة بعينها في البراح الممتد أمامهن، أما حفيدتها فأسرعت إلى العدسة لتقبض على لحظة تريدها ولن تفلتها هذه المرة…

كان البيت الصغير مزدحماً، والمناسبة مأدبة تقيمها إحدى سيدات العائلة للقادمة - بعد طول غياب - لهذه المدينة الطيبة المهمومة. يتناثر الحبور بين القلوب فتنتعش ويقبل الجميع على الطعام الشهي والأحاديث المتشابكة، هذه تحكي عن قصص ولديها مع مدارسهم، وأخرى عن عشق إبنها لمفاتيح السيارات - على صغر سنه - تقول: كان يميز موديل السيارة بنظرة لمفتاحها، الولد صغير فكيف ومتى عرف كل هذا…

واحدة تفتح حافظة بلاستيكية وتفاجيء القادمة الغالية (بالشماري)* فتقفز من مكانها وتلتقطها ملوحة بثمرتها تُريها لحفيدتها الصبية، وتتبعها بصيحة؛ (انظري هذا ماحكيتُ لك عنه، ورسمتُ لك صورته، وقارنتِه لي بالثمرة الامريكية، فرفضتُ المقارنة، ها هي تأملي وتذوقي خير طبيعتنا في الجبل الاخضر وعلى تلال البيضاء). تقترب الصبية وتشارك الجدة الجذلة فرحتهاوتشكر الخالة على هذه النِعَمْ وتكَبّدْ مشقَّة إحضارهاسعادةً وابتهاجاً-بهذه الزيارةالتي طال انتظارها…

ينتيهنَ من الطعام، وتدار أكواب الشاهي الأخضر المنكَّهْ بالنعناع والزهر، وتتواصل الحكايات عن الدنيا وماذا جرى بها بعد زواجها وتركِها لمدينتها وغيابها الذي طال، وطال كثيراً.. تتأملُ صوراً معلقة على الحائط، صورها من بينهن، فصاحبة البيت تحبها وتحب طلتها وجمالها وحنانها ومحبتها الظاهرة للجميع، وهي تبادلهاالمحبة والمشاعر العميقة والقلق على صحتها وبقائها وحدها بلا رفيق أو وَلَدْ كانت تود لو صاحبتها العمر كله، لو سافرت معها لبلاد الله التي زارتها، واستمتعتْ بها. كل هذه الأمنيات كانت مستحيلة التحقق، لكن شبابها ونزقها هو ما دفعها يوماً لتعرض على صاحبة المكان أن تبقى معها بعد زواجها، فكانت السيدة تُرَبِّتْ عليها ضاحكةً (لازلت صغيرة يافتاة، ولازال قلبك طري، وأحكامك وطلباتك مضحكة) فتغضب منها ولا تردْ…

هي اليوم في ضيافتها ومعها نساء العائلة، شقيقاتها وبنات أعمامها وأولادهن. غير أن الأجواء ليست نقية تماماً.. كانت الغيوم الداكنة تلف المدينة وتنذر بقادمٍ مبهم وغير متعين، لكن عوارضه كثيرة وتحدث بين الحين والحين، والناس في حيرة…

تقول إحدى الجالسات: (ليلة أمس لم ننم من أصوات الرصاص،كنا نسمعه عن بعد ويرعبنا فلا أحد منا يعرف مصدره ولا من يعارك من). سرى بعض قلق، ماذا يجري ولماذا؟ غير أن صاحبة الدعوة لم يسعدها هذا الحديث، وواصلتْ الاحتفال بالقادمة الغالية وها قد جاء وقت حبيبة القلب طبق (المثرودة)* الذي تتفنن السيدة في إعداده ولا ينافسها عليه أحد في تلك المدينة.. ضغطت على الضيفة أن تتناول منها كما عهدتها في شبابها غير أن العمر والبعد والقلق فعل فعلته فأنهك البدن واصبح يعمل بنصف طاقته. حاولت أن تشرح ذلك للمولمة، لكن بلا فائدة، فالحلفان على أشدّه والتهديد بالزعل إن لم تلبي رغبتها قائم فأذعنتْ وهي تعرف الضريبة التي ستدفعها مرغمةً.. وجاءت بعدها أكواب شاهي العشية معطرةً بالورد الدرناوي وبوَنَسِ قلوبٍ مشتاقة وبها توقٌ لمعرفة أخبار هذه القادمة بعد طول غياب. (لا جديد في سيرتها - هكذا حكتْ- جرى علينا مايجري على الناس في هذا البلد، فتحنا بيتنا، وحاولنا ان نعيش كما يعيش غيرنا، غير أن لمن يحكمنا رأي آخر فآثرنا الابتعاد فبلاد الله واسعةً والعبور إليها سهلاً وهكذا حدث. انجبنا وكبر أولادنا وتزوج من تزوج واصبحنا جدوداً وبينكن حفيدتي. حفيدتي التي تراقب المكان مذهولة)…

الصبية تحب مسقط رأس جدتها فهي تعرفه من حكاياتٍ كانت مقرّرة عليها كل يوم تقريباً، تعرف الوادي، وتعرف جبال درنة، وتعرف الفتايح والمغار،والجبيلة وسوق الظلام وحواريه البديعة،وتتخيل اندفاع الماء المبارك من الشلال إلى الوادي في مساره نحو البحر منذ آلاف السنين يبثُ الخير في ضفتيه، وتقطنُ حوله عائلات عزيزة ومعروفة…

كانت الجدة تقول لها (نحن أهل درنة نعرف بعضنا بعضاً وبالإسم)! فتبتسم الصبية مدّعية تصديقها، فتؤكد لها ماتقول وتواصل الصبية الإبتسام .مازالت المأدبة متواصلة تتخللها الحكايات والضحكات وبعض همهمة هنا وهناك .طرقٌ على باب البيت وجارة تدخل. هي صديقة قديمة لصاحبة البيت ممرضة في المستشفى الوحيد في المدينة، يقولون أنها تعمل - بالإضافة للتمريض - بتجارة مربحة ولمّا استفسَرتْ العائدة بعد غياب عرفت أنها كانت تخيط اللفّات الضخمة من الشاش الطبي وتصنع منه فوط ومماسح للبيوت!. ابتسمتْ مستغربةً هذه التجارة المشبوهة، ولم تعلق…

جلست السيدة وحكت هي الأخرى عن ليلة سهاد وعملٍ طويلة في المستشفى، فقدأُحضرت جثتين لشباب من المدينة والكثير من الجرحى. تقول: (كانت اجساد الموتى مثقوبة بالرصاص، والجرحى يعانون النزيف من جروحٍ مارأت عينها مثيلٌ لها منذ اشتغالها بذلك المكان)، تقول (كانوا يضمدون الجراح ويأتي من يقيد هؤلاء على أسرَّتِهم بالأصفاد)…

انزعجَتْ العائدة بعد الغياب الطويل وتركتْ الجلسة وتوجهتْ إلى الشرفة حيث سبقنها إلى هناك قريباتها وبناتهنَّ وبنات بناتهنَّ. كانت حفيدتها الصبية من بينهنَّ، فتوجهت إليها واضعةً يدها على كتفها محتضنة وموجهةً نظر الصغيرة وعدستها لنقطة بعينها هناك، في (باطن بومنصور) المواجهة للشرفة مباشرةً، مالت بالصبية يساراً إلى مكان تعرفه، والى بيوتٍ لازالت كما هي وقد خَلَتْ من قاطنيها. ثمة بيت بعينه أرادته في قلب العدسة أرادت أن تقبض الصبية على اللحظة ثم تعيد لجدتها المشاهد. تتسائل لما هذا المكان؟ فتجيب الجدة: (كانت هناك صديقة من دارفور كنا طفلتين، صداقتنا دامتْ ساعة من الزمان أو أقل. لكن ياطفلتي حتى وإن هزمنا المكان والزمان لازالت ثمة خفقة في القلب تخصها أتفهمينني؟). وتبتسم الصغيرة ابتسامة مجاملة.

محبوبة خليفة

* قصة قصيرة من جزئين. نشر الجزء الأول منها منذ عام بصحيفة ميادين.
* الشماري: فاكهة برية زهرية اللون توجد بالبيضاء والجبل الأخضر.
* المثرودة: نوع من الحلو وتشتهر به درنة وشرق ليبيا.

- راجع: محبوبة خليفة: التِكْرَة - الدنقة (1)
Assaqeefa Alleebiya

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى