حسام حسين عبد العزيز - إبراهيم درغوثي والتّأسيس الجديد للسّرد المهجّن..

ليس من الحكمة في شيء أن نتجاوز سمة بارزة في الخطاب السردي عند الروائي التونسي إبراهيم درغوثي، تأخذ وضعية الخلفية أو الظلال، كما لو أن الماضي بجل تفاصيله قد أصبح خشبة مسرح لمجموعة من أبطال عرض مقصود في ذاته، يُلح على قريحة المبدع كي يقوم بإسقاط الآن على هذا الماضي أو العكس، من خلال رغبة عارمة في استجلاء شيء ما...
هؤلاء الأبطال يمثلون هذا الحاضر تمثيلا معبرا، ليس فقط كتفاعل درامي يشكل اللبنة الأساسية لأي نسق روائي، بل كأداة للتعبير عن الخيط الفكري والشعوري الذي يريده الكاتب في لحظة مخاض روايته، وعلى الدرجة نفسها يريد من خلال هذا التمازج تسديد سهام الفكرة النهائية التي تتخذ طريقها للهدف(دوائر التلقي المعنية بالرواية ككيان أدبي و كنسق فكري).
في حقيقة الأمر لا نستطيع الإجابة عن سؤال لطالما صادفنا ونحن نطالع هذه النوعية من الكتابات... لماذا ينجح التاريخ أو التراث أو الموروث مهما اختلفت روافده في ملء فراغات الآن؟ هل هو دفء الماضي أو الأسطورة قياسا على جليدية اللحظة الراهنة؟ أم هو الماضي الملاذ الذي يكتسب قيمته من خلال حاضر مفعم بالتجهم والإحباط وكل تداعيات الحيرة؟؟
إن الرواية كنسق بنائي، مهما حاولت حركة التطوير التي تنزع إلى تماهي الأزمنة وتداخلها، ربما لم تنجح بالكلية في أن تلغي سيولة النهر السردي الذي يتنامى من الماضي المنبع مهما اختلفت المناطق السردية التي انبثقت منه، مرورا بمجرى الحاضر وتفاصيله، ووصولا إلى ما يمكن اعتباره استشرافا للمستقبل أو تمثيله من منطلق نبوءة.
التاريخ كنسق معلوماتي قد تم في زمن سابق يأخذ سمت القداسة في عقيدة المحبين له، ولا يعنيني هنا دارسوه، لا عن تجاهل في حقيقة الأمر، لكن لكوننا نتكلم تحديدا عن إبداع ينفلت حتما من كل مسميات أحكام القيمة. ومن هنا نجد أن التاريخ يأخذ إلى حد كبير قيمة الأعراف السائدة بغض النظر عن مفاهيم القداسة التي كثيرا ما تغلف شكل تعاطينا للتاريخ وللعُرف على الدرجة نفسها. فنحن في كثير من الأحيان لا نمتلك جرأة تصحيح التاريخ، ولا يأخذنا التفاؤل في مراجعة عرف قد صار مع الزمن في حلة القانون. من هنا نستطيع أن نقول في حسم:
إن التاريخ قد يحمل تراثا فكريا من الممكن أن يظهر جليا في ثنايا تفاصيله والعكس ليس صحيحا دائما، بمعنى أن التراث الفكري الذي تواتر عبر الزمن في رحلة الوصول إلى مرافئ التجليات الإنسانية المتفاعلة معه على هامش الآن، ليس بالضرورة تاريخا، على اعتبار أن التراث الفكري ينمو تلقائيا من خلال حركة الزمن من جهة، والتفاعلات الإنسانية من جهة أخرى، وهو قد يصوب ذاته تلقائيا، بينما يظل التاريخ على الدوام حقيقة مرجعية قابلة للنظر واستلهام العبر والدروس من خلال قيمتها الواضحة كوثيقة أو مستند يحمل بين طياته علامات مضيئة فارقة تأخذ شكل المصوب والكاشف والمحلل لحركة الإنسان على محك اللحظة الراهنة والتي قد تعاني من الضبابية والانغلاق.
التاريخ غالبا ما يرتبط بحدث قد تم الانتهاء منه بالفعل، أي أنه بالضرورة ماض تبلورت مواقف شخوصه وتداعيات أحداثه، وإن لم تتبلور نتائجه بشكل حاسم في كثير من الأحيان، بل أن حاضر الشعوب قد يتشكل من خلال منعطفات تاريخية سابقة، كان لها من التأثير الذي لا يمكن الانفلات منه بأي حال من الأحوال على واقع اللحظة الراهنة.
التاريخ على محك البنية التحتية في ثقافة أي شعب ليس مجرد كتاب أصفرت أوراقه، ويحمل من رائحة الماضي تلك الرائحة المميزة لكل قديم تقع عليه أيدينا، بل هو على الدوام ومهما اختلف المحتوى، يحمل من السحر و الدفء الكثير، حتى وإن انطوت بعض صفحاته على مآسي مُبكية، لذا فهو يتمثل سمت المعلم ومُصدر جلال العبرة والعظة باقتدار كما أنه ليس سيلا من أحداث وتجارب بشرية بقدر ما هو رصد بهي لصورة من تفاعلات البشر مع السلطة الزمكانية التي أفرزت الكثير من الدروس والمواقف. وهذا المعطى تحديدا ركيزة لا يمكن الانفلات منها ونحن بصدد قراءة مبدعنا إبراهيم درغوثي في حقيقة الأمر.
مما لا شك فيه أن الرجل يدرك يقينا أن الزمن معنى هلامي إلى درجة، وهنا أقصد الزمن على محك الرواية المتطورة تحديدا، لأن ارتفاع طبقات الصدأ في صلب الأمم هو ذاته الذي يعمق النظرة إلى تاريخ هذه الأمة في محاولة التوصل إلى رصد ما مرت به من منعطفات جديرة بالتأمل، وهنا تقترب الوشائج التي تجعل من التاريخ كونه تاريخا قد سُجل وأخذ سمت التراث الإنساني الذي تنامى في رحلة البحث عن هوية في ظلال متأرجحة من واقع آني تغلب عليه كل آيات الضبابية والسيولة، ربما من ضحالة التفكير الآن، أو من خلال سوء التأويل لنتائج الحدث التاريخي في شكل تماسه مع واقع حياة الشعوب على تداعيات قانون اللحظة. في هذه المسافة المقطوعة بين الماضي والآن، من الممكن أن نعتبر أن الرجل قد حل ضيفا على هذا الماضي أو يحمل رسالة منه، أو أنه يحمل وظيفة سفير لهذا (الآن) والذي يريد بدوره أن يوقع أوراق اعتماده للحظة ما على قدر من الدفء .
إن الرواية عموما - وقد أتحمل في سبيل إبداء هذا الرأي انتقادا عارما- جزء من التاريخ، دون أن يكون التاريخ بمعناه الأكاديمي مادة أساسية لها، اللهم إلا إذا أراد الروائي هذا أثناء عملية الخلق الفني لها. ربما هنا من الجدير بنا أن نقول: إن فعل الكتابة ذاته جزء لا يتجزأ من تاريخ مبدعها، وكذلك الرواية في جل تفاصيلها نموذج مصغر لتاريخ يتضمن أحداثها بالجملة. فلغة الخطاب السردي سواء كانت على محك الوصف أو الرصد أو التحليل تتحرك طوليا شاء الروائي أم أبى، فالفعل حركة، والحركة بنت الزمن ولاشك، وطالما تم إنجاز هذا السرد في الزمن مهما بدا هلاميا أو متشظيا، تبقى ظلاله موجودة بالقوة والفعل.
من هنا نعترف للسيد (درغوثي) أنه لم يشأ وهو يستلهم هذا التاريخ والتراث بعينه أن يقدح في الحاضر، رغم أحقية الحاضر بذلك، بل إننا على محك سرد يجوز اعتباره إعادة الغائب، ويخص مبدعنا هنا بشكل شديد الخصوصية، ربما لا نكاد نشعر بهذا الحاضر من فرط تمثيل الماضي ذاته سواء كان تاريخا أو موروثا، بل قد نصل مع التعمق في القراءة إلى أن نتهم مبدعنا تهمة حميدة إلى درجة أن نعتبر ما يقوم بسرده هو عصرنة هذا الماضي في جدلية تقترب من كونها مدافعة لهذا الحاضر، صراع جبابرة إذا جاز التعبير، كي نصل لثمرة تعيد لهذا التبعثر بعضا من اتزان، وربما قد نجد ما يمكن اعتباره الحاضر الممتد رجوعا لجذوره، ومن ثم إعادة ترتيب بيت المرجعية.
في البدء كانت الثقة:
في حقيقة الأمر، على ظلال رواية {الدراويش يعودون إلى المنفى}، نستطيع بكل ثقة أن نعترف لمبدعها بمساحة كبيرة من القدرة على صناعة رواية تشبه إلى حد كبير ملحمة مصغرة، وهذا الرأي ليس وليد وجهة نظر قد تبدو انطباعية، ولكن من خلال عملية تفتيت للنص الروائي سنجد أن هذا التوصيف لم يكن مبالغا فيه.
بيد أن الشيء الكبير الذي تصدره لي الرواية كنسق سردي في الأساس يتمثل في جلال الثقة وهيبة الطرح، وبالمكانة نفسها درجة التماس الفاعل مع التاريخ سواء مع شخوصه أو تفاصيل أحداثه. لا يوجد ما يبرهن على صدق ما نلمسه هنا أصدق من تلك المقدمة الرائعة والمثيرة التي تتأرجح بين العديد من المضامين، يقين الكاتب أن القادم من تفاصيل سرده يؤسس لمشروع كتابة أسطورية أو خيالية إذا جاز التعبير إلى درجة، والتي لم ينكرها من خلال تلك المقدمة الشيقة بالفعل، بل ويعترف يقينا إنه حتما يكتب ما يُملى عليه من قبل درويش عائد، يهدده إن لم يفعل بأنه من القدرة على أن يعيده للقرن الرابع الهجري ويدعي عليه أنه من القرامطة ويستحق القتل، وإمعانا في تشجعيه، فقد رشح له بعض الكتب التي تعينه على أن يبدأ تلك الرواية التي يُراد كتابتها من قبل هذا الدرويش وألا .
وبالوقوف عند عناوين الكتب التي تم ترشيحها{ ألف ليلة وليلة- وفيات الأعيان- تاريخ الإسلام- وغيرها} نستطيع أن نلتمس شكل السرد القادم لا محالة، وتقنيات العرض التي ستكتسب قيمتها من قيمة الذات المبدعة يقينا، لأن رواية بهذا المنحى التي اتخذته لنفسها، ودون أدنى مبالغة تعبير جدا صادق عن ثقة يجوز اعتبارها خارقة لدرجة أن تتواصل مع طرح روائي على هذه الشاكلة، لكن وتلك آية أخرى، وجدنا أن الرواية تحتفي احتفاء غريبا بالحاضر أو على أقل بتقدير الماضي القريب، في جرأة غريبة على إحداث تمازج تكمن عبقريته في أنه لم يشعرنا بغرابة السرد رغم ما يتخلله من أمور غرائبية إلى درجة كبيرة، وجدنا في حقيقة الأمر كرنفالا من واقع مؤسطر، وخيال مُوَّقع، خرافة، مرويات وتراث، نهضت جميعا كمفردات خالقة لسرد محرض على الانتباه لهذا الكم العارم من الوثوب والانحرافات السردية التي لن تحتفل بالزمن في مجراه الطبيعي.
إن من يسعى إلى تأصيل مفهوم السرد المُهجن عليه أن ينظر لهذه الرواية بعين الاعتبار، فالسرد لم ينبثق فقط من مجرد تقنيات حديثة على الدوام، بل طاف بنا السارد على كل ما هو متاح من فنون السرد القديمة، دون أن يمكث مع هذه الفنون... فقط هي مصافحة عابرة ومن ثم رحل إلى أدواته الخاصة التي تستمد وقودها من تقنيات سرد متطور يليق بالرواية الحديثة، فوجدنا التداعي، والتذكر، الرموز والسخرية، متانة البناء اللغوي المعبر والدال، تفاعل الشخصيات واستبيان حركة المؤثرات التي تغلف سلوكهم الظاهر والمخفي.
في حقيقة الأمر وقبل ولوج فضاء هذا النص الروائي، أجد نفسي عائدا إلى الغلاف، لأقف مجددا عند عتبة العنوان الذي اختاره الرجل لروايته كنقطة انطلاق لهذه الملحمة السردية إذا جاز التعبير.
في البدء نعترف بحقيقتين مهمتين:
الأولى: إن صعوبة مهمة الروائي تتمثل في رهانه دائما على مستوى معين من الافتراضات: افتراض وصول الخطاب الروائي إلى مرافئ تلق تستطيع استجلاء قيمة النص... وعلى صعيد آخر، الافتراض الأساسي أن النص كله كحالة منتمية إلى ساردها قد أنجز ما يتمناه. تلك مجموعة افتراضات وعلاقات متشابكة لا يمكن حسمها بأمر بات، لكن تبقى رواية بهذا الشكل الواقع بين أيدينا حتما كتابة القلب الشجاع.
الثانية: اليقين الحاسم أن الرواية الآن كنسق أدبي صارت تحتفل بجماليات خاصة، تسعى إلى تدعيم عناصر الكتابة الحداثية ولتأسيس نص يمثل وعي صاحبه تمثيلا صريحا، نص ليس محكوما بالأنساق ولا الشخصيات ولكن بإيقاع الإنشاء، بل وعلى صعيد آخر نرى إيمانا عميقا لا يتراجع عن بسط معطيات سرد هي في حقيقتها تهكم واضح وسخرية من الشكل التقليدي للإبداع الروائي. تتجلى الرواية وكأنها لعبة محببة تسمح بأريحية التحكم في إيقاعها، كما تتيح التبديل والحذف... رواية على حد تعبير (بارت) تلعب اللغة فيها دورها المعجمي متقدمة على عناصر معينة في بنية النص الروائي.
من هنا جاء العنوان كمحاولة مبدئية لتحديد الإطار العام لاستراتيجية النص الروائي كعمل متكامل، عنوان يحمل قيمة إعلامية تصوب خصوصيته لضرب هدفين لم ينفك السارد عن مطاردتهما: تحقيق الاتصال الاجتماعي كهدف من جهة، وفي ذات اللحظة تحقيق اتصال اجتماعي جمالي من جهة أخرى، بمعنى تحقيق هدف برجماتي يرتكز على دعم وشائج الإبداع والدائرة الاجتماعية المعنية بالنص في تداخل منتج وهادف، وهذا لا يتحقق من خلال أسلوبية القص ولغته وتشكيلاته وحسب، بل من خلال إعلام هذه التشكيلات اللغوية وكأنها حلقة دمج تتوسط بين جملة هذه الأسلوبيات والدائرة الاجتماعية في زمن مخاض النص السردي.
بإعادة النظر إلى هذا العنوان نرى أن مبدعنا قد ابتعد منذ اللحظة الأولى عن عنوان يحمل بعضا من الشاعرية المراوغة أو الإيهام، بل نراه قد قرر واستنادا إلى شكل المقدمة التي سبقت الرواية أن يفجر من خلال عتبة العنوان معنى الخبر.
{ الدراويش/ يعودون/ إلى المنفى}..
سأعود إلى الوراء، وسأفترض أن معلم اللغة العربية في تعليمي الأولي قد طلب منّي أعراب هذه الجملة ولكن ليس على محك النحو وحده.
الدراويش: مبتدأ المأساة وغرائبية الأحداث، وجدلية الطرح الأيدلوجي والطرح المضاد.
يعودون: مضارع مشفوع بالهزيمة وثبوت الانتكاسة والانسحاب، مع الإقرار بأن هناك ثمة أمل حتى ولو بدا بعيدا.
إلى المنفى: ظرف المكان المناسب والقادر على احتواء دهشة غير القادرين على استيعاب ذلك التشابك والتداخل الحادث بين مفردات الحضارة والناس عبر الزمن الهلامي المتخبط.
أشهد لهذا الأعراب بأنه مضحك إلى درجة ومدعاة للسخرية، لكن ربما يغفر لي السارد هذا الهذيان الذي فرضته على ذائقتي فرضا تلك الأجواء التي تسللت عبر الرواية طولا وعرضا لتعيث في أجوائها السخرية والغرائبية والتي اشتملت عليها الأحداث بالكلية، فحسبي أن أرى "رونالد ريجان" إمبراطورا على عملة ذهبية ضُربت في عهد الخليفة الناصر لدين الله في يد هذا الدرويش.
أعترف أن المعضلة الأساسية في هذه الرواية أنها جعلتنا، ونحن في طريقنا بصدد التعامل مع أطروحتها، لا نقدر على رؤية التاريخ في لحظات ضباب مقصودة، كما أننا على الدرجة نفسها لم نعد نرى الواقع من فرط تمثله في مسوخ هي إن لم تكن تخص الشخصيات على وجه التحديد، فإنها تتعلق بالأفكار والمعتقدات وشكل الرؤية. والغريب حدوث ذلك رغم حرص السارد اللامتناهي على أن يعطينا صورة مظفرة لهذا التمازج بين التاريخ والواقع، مضافا إلى ذلك تصدير أجواء خاصة من اغتراب الواقع بمفرداته، وهنا أقصد الواقع العربي في مختلف مناحيه الثقافية والاجتماعية والسياسية، وليس واقع هذه القرية على وجه الخصوص، فالزمن لم يعد زمنا بالمعنى، والسرد يمارس طوافا غير مستقيم، طوافا منحرفا اكتسب مشروعيته من عدم استقامة الأوضاع في جملتها (الصراع الاجتماعي بين القيم). وفي زعمي أن أبرز ما يمكن أن تقدمه هذه الرواية هو صراع سكون العقل وانغلاقه على ما سبق وأن آمن به أمام مفردات الضجيج والهوس الذي يُمارس من حضارات قادمة.
التأسيس المعكوس للبطل الإشكالي:
من الضروري أن نمر مبدئيا على {جورج لوكاش} حين قرر أن الانتقال من مرحلة البطل الملحمي إلى البطل الروائي قد بدأت مع صعود البرجوازية الأوربية، بعد أن مات إكلينيكيا البطل الأسطوري في أخريات القرون الوسطى. لكن من الأكيد أن البطل تحول بالفعل بعد الثورة الصناعية إلى بطل مأزوم، يسير خلف القيم المختبئة، ويعاني من وقائع عالم منحط.
دارت عجلة الزمن ولم يعد الأدب ممارسة جمالية وحسب، إذ صار يمثل دعوة صريحة لإعادة اكتشاف الحلول الممكنة لمشكلات لا يمكن إنكارها، أفرزها واقع بالغ التعقيد. بل هو ذهب أبعد من ذلك مع تيارات الفكر الوجودي ساعيا لاكتشاف الإنسان ذاته، وإنقاذه من مفاسد الحضارة ونفض غبار وركام التخلف والتغييب.
بينما يظل البطل الإشكالي هو ذلك المثقف الذي استطاع هضم منتج الثقافة الغربية وحاول بدوره تطويع هذه الثقافة في خدمة مجتمعه، ولكنه واجه العديد من الصعوبات من خلال سلطة المجتمع التقليدية ومن بيدهم السلطة الزمنية في مجابهة طرحه النهضوي، راح يدون معاناته معرضا بعالم يفتقر لأي قيمة جديرة بالتقديس.
مما لا شك فيه أن هذا البطل الإشكالي قد ذاق هزيمة لا يمكن الانفلات من عمق تأثيرها المُحطِم فعلا، لكنه على كل الأحوال لم يفتر عزمه، ولم يفقد للحظة احترامه لحلمه في تأسيس العالم المثالي كما يرى ويؤمن. هو ربما هزمته تفاصيل ذاك المارد العاتي ( المجتمع المتجمد) ولكنه استمر في احترام حلمه في التغيير.
من هنا يمكن أن نسجل إرهاصة تمنحنا إياها هذه الرواية الاستثنائية بالفعل، فالدرويش هنا لم يكن ممن أحسنوا هضم عناصر الثقافة الغربية وأراد إعادة تأسيس واقعه بمقتضاها. ولكنه مُحمل بتراث فكره الخاص المستمد من جذوره هو. حمله في يقينه كسيف وكدرع، وحاول أن يصنع لأهل هذه القرية العتاد المشابه لعدته. إنه لم يستفز المجتمع بجملة أفكار يريد تأسيسها على واقع الأرض وحسب، بل أعاد التنظير للفكر المقاوم. إن عناصر إشكاليته لم تكن تهدف إلى تدمير البنية التحتية لثقافة هذه القرية، ولم تكن على الدرجة نفسها حديث المثقف النخبوي صاحب الاتجاهات المؤدلجة. هو ارتدى طواعية ثوب الدرويش بما له من دلالات المواجيد والرؤى التي تستطيع الانسلال لما هو أبعد من مدركات الآخرين الذين تبهرهم ظواهر الأشياء. ولكنه ظل يمارس سعيه الإصلاحي بممارسات طقوسية تنأى بنفسها عن ذاك الضمير الجمعي، وتبث أحاديث التغيير في صورة خطاب مجذوب. من هنا، بدا الدرغوثي وكأنه يحكم عليه مبدئيا بالزوال، بل كان يريد التثوير قبل التأسيس، إحداث اليقظة بديلا عن الاستسلام لهذا ال فرنسوا مارتال. ولكن تظل معطياته غير متسقة مع ما يريده على واقع الأرض.
ولأن مرجعية الرواية ترتكز على هذا المعنى بالقوة والفعل، كانت جدلية البطل الإشكالي في صورة معكوسة بجلاء مؤجج، ثائر ومضطرب، هو بالضرورة- الدرويش- لم يستحضر الحضارة وعناصرها، بل ناب عنه من حملها طوعا في جعبته وهو يحل على هذه القرية. إن ذلك الفرنسي على محك الصدام قد اختزل رحلة طويلة كان من المفترض أن يقطعها الدرويش كبطل إشكالي في بلاد الفرنسي، يغترف من مضامين ثقافته ومن ثم يُعيد الدرويش تصديرها لقومه حين عودته. بل ظهر الدرويش كالقدر، والفرنسي كذلك بدا قدرا محتوما، عليه أن يواجه هذا المنفي المغترب، والقادم بلغة أخرى تستنفر همم المتقاعسين المنتظرين خلاصا غير معلوم المصدر حتى آخر لحظة.
وقع(فرانسوا مارتال) في غرام القرية وأحبها، ولكنه يستنكف أن يبقى غريبا. لابد من أن يعيد صياغة الجغرافيا بما يملكه من تاريخ وتراث فكري مفعم بالعناصر والأيدلوجيات التي تخصه. ربما لم يكن يرى من فعل مقاوم لمشروعه؛ فالقرية في ثبات والكل مهيأ لأن يتلقى/ يستقبل. لكن بزوغ الصراع رغم غرائبية تفاصيله مع درويش الغريب، كان بالفعل صراعا قدريا. ومن ثم تطور صراع البطل الإشكالي في ممارسة صراع متعدد الجبهات: مقاومة التغريب، سطوة حضارة تريد أن تبتلع كل شيء، تأليب أهل القرية على زمرة المواليين للفرنسي وطبقة البرجوازيين من تجار وسياسيين... لم يكن الدرويش هو "دونكيشوت" هذه القرية في الحقيقة رغم امتعاضي عموما من قيمة "دونكيشوت" كما وصلت للثقافة العربية باعتباره شخصا مخبولا يصارع طواحين الهواء. بل يمكن القول أن درويش (إبراهيم درغوثي) كان مختلفا عن درويش "سيرفانتس"، إذ حتى عندما اختفى (مارتال) وانتحر لم يمنحنا السارد يقين انسحابه، ولم نصطدم بكتلة سردية أو حتى عبارة قد تغرينا بأنه قد أصابه التعب فقرر أن يُهادن. إن أصحاب النفوس العظيمة حتى وإن بدوا لنا في ثوب دراويش أو مجاذيب ضعفاء، يكون اختفاؤهم عادة من أجل تطوير آليات نضالهم لكل الصور السلبية التي تؤرقهم عموما. ولكن، وتلك آية أخرى، أراد الدرغوثي موتا تدميريا على أمل أن يكون هذا التدمير مدعاة لبناء جديد.
لم يكن الصدام عقائديا في كل مراحله، لكن آليات ترجمته كفعل مقاوم هي المحك حتى وهو يمارس حالة الانسحاب إلى الكهف معاقبا الأهالي على ما كان منهم من ضعف وتراجع. كان السرد ومعطياته العقلية، ومن خلال وعي حاضر بقوة، يعطي بارقة أمل.
{ و يضم درويش الأطفال إلى صدره ثم يصلي و إياهم صلاة "الوداع".
و رأيت المطر يهطل مدرارا، فيغسل رجلي درويش، و تخمد نار جهنم المشتعلة فيهما منذ الأزل.
و يقوم.
يتكئ على عصاه، و يفتح الطريق.
و الأطفال يسيرون وراءه.
كان يقول لهم:
" لا تلتفتوا أبدا إلى الخلف يا أولادي حتى لا تتحولوا إلى قردة أو تتخطفكم الشياطين و تمسخكم تماثيل من الحجر}.
ربما من الجدير بنا أن نعترف للسيد درغوثي بحقيقة تؤيد أن الرجل كمرجعية فكرية رغم تلك الأجواء العابثة والسرد الملتف حول سيولة الأوضاع والضجيج والتخبط، وتردي شكل الاستقبال لكل ما هو غربي وسلبي في آن عند الكثيرين من أهل هذه القرية، لكنه كان يوجه أبصارنا لضوء ما في نهاية النفق السردي. الأمر الذي انعكس بدوره على شخصية بطله الإشكالي وأكسبه سمات ربما لا تنطوي عليها سمة البطل الإشكالي في صورته المعتادة. كان بطله، بالضرورة، يعاني من أجل تثبيت الناس وتحفيزهم على المقاومة، ولكنه لم يصبح مثلهم. لم نرَه ينكسر بوضوح من أطروحته والأطروحات المضادة. كانوا قاب قوسين أو أدنى من أن يجعلوا الجميع رغم عظيم حيلهم يتساوون في الدنس، لكن من الغريب أن يظل رهان البطل الإشكالي مستندا على أمله في صغار القرية وليس في ثوابت المرجعية، فالمناخ لم يكن يغري باختبار مرجعيات في الحقيقة نظرا لسطوة العبث الكائن... الرهان على الفطرة المستقيمة الطاهرة أكثر الأنماط الإنسانية تشبثا بالدرويش... الصغار الذين لم يكن العروج عليهم من منطلق تماس يعكس غرائبية الدرويش، فلقد كانت كل طقوسه غريبة على الجميع، ولكنهم كانوا يحبونه ويستجيبون لطائراته الورقية الملونة. هم بالضرورة آخر ما تبقى له من أمل يحفظ له الاستمرارية حتى لو انقلب منفيا من حظيرة كل الأنماط السلبية التي حدت به إلى أن يدفنهم معه في ذاك الكهف.
في حقيقة الأمر، وجود البطل الإشكالي في سرد انطوى على هذا الكم من المفارقات والسخرية، والتضمينات التراثية، والأحداث الملتبسة، والأزمنة المتشظية، وعدم التورط في تفجير المكان بشكل محدد بالأحداث المسرودة، كل ذلك جعل من هذا البطل يحمل في يمينه دورقا بالماء المثلج بقصد إحداث يقظة طال أمد انتظارها، وفي يده الأخرى إدانة مريرة لسطوة البرجوازية والاستغلال، ووحشية الممارسات التي تتجه للإنسان بالشكل الذي يؤيد إحساسه العارم بالضياع والغربة.
الوعي الروائي المتطرف
من أبرز القيم الجمالية في هذه الرواية من حيث بنائها الكلي، أننا نستطيع الإمساك بالعديد من لحظات الوعي الذي يجوز توصيفه بالمتطرف، وليس أدل على ذلك من تلك التراتبية العجيبة للغة النص وتنوعها، الأمر الذي خلق تعددية لسانية بمستويات مختلفة...
والتنور يفور
وصافرات السفينة تعوي
ودرويش ينادي
يا أولاد الكلب
" من كل زوجين اثنين"
من هنا ندرك يقينا تحطم نوايا الكاتب عبر جميع مستويات اللغة التي ينطوي عليها فعل السرد، ولا نستطيع أن نربط بين ذات السارد وتفاصيل لغته المسرودة. وكأن الكاتب لا يمتلك لغة خاصة يمكن الوقوف عليها، ولكنه في كل الأحوال يحكم قبضته على مستويات أسلوبيته التي انبثق منها السرد.
ليس سهلا أن ندرك منذ الوهلة الأولى مقدرة السارد ولكنها تعبر عن نفسها تعبيرا جدا واضحا من خلال هذه القطيعة الحادة بين لغة السرد كما يريدها، وبين بعض أنماط اللغة ذات الأبعاد الاجتماعية والأيدلوجية. نحن نراه قد آمن منذ اللحظة الأولى بأن سردا بهذا الشكل يقوم برصد واقع ملتبس يحتوي على كل أشكال التغريب والتشتت والضياع والغموض والنفعية، لا يمكن أن يحتفل بلغة قد تبدو تنظيرية، بل من الطبيعي أن تظل لغة بهذا الشكل تحمل في داخلها بذور انهيارها أمام واقع وتفاصيل هذا السرد.
في منعطف مفصلي في هذه الرواية ..
" لمست بأصابعي كتل الظلام اللزجة، وتذوقتها بلساني
كانت الرائحة كريهة رغم عطر الزهور الفائح في كل مكان
وكنت وحيدا
صاحب الشرطة اكتفى بسماع أقوال المقتول (فرنسوا مارتال المنتحر) ولم يسألني رأيي
لماذا لم يشك لحظة واحدة بأنني قد أكون القاتل"
من المؤكد أنه لولا دراسة الفلسفة، لما استوقفني هذا السياق السردي الغريب بالفعل، ولاسيما أن الضد الحاسم الذي يشكل اللبنة الأساسية لصراع أبطال هذه الرواية هو صراع لم يكن من السهل التنبؤ بنهايته التي أسفر عنها سرد مبدعنا: التوثب للموت في ذاك الكهف الذي اختاره الدرويش وحشد له الناس، انتحار فرانسوا مارتال ذاك الفرنسي الذي ناصب الدرويش العداء.
مما لاشك فيه أن هذا الصراع في حقيقته كان أيدلوجيا في الكثير من تفاصيله، حتى وإن تم تغليفه بهذا التكنيك السردي الغرائبي والمُهجن. لكن مرور الرواية دون أن تعطينا ملمحا أو عدة ملامح لعقيدة هذه العبقرية الروائية الكامنة خلف السرد لم يكن سهلا، فرغم كل ما اشتملت عليه هذه الرواية، أزعم أن هذا المنعطف تحديدا هو أكثر منعطفات الرواية تفجيرا للسؤال... لماذا انتهى بطلا الصراع على هذا النحو؟
هذا السؤال يحفز بشكل كبير تناسل الأسئلة تباعا. لماذا الانسحاب أو الاختفاء ولماذا الانتحار؟ لماذا لم ينجح الدرويش في حسم معركته وقتل ذلك الفرنسي؟
بغض النظر عن النتائج التي سأحصل عليها من خلال محاولة الإجابة على ذاك السؤال الذي فرضه فرضا هذا السياق والذي لا أدري إن كان سيتطابق مع أطروحة الرجل، حسبي أن أشهد من خلال ثنايا هذه المحاولة بعبقرية التحريض التي بثها في ذلك السرد وما انطوى عليه من دلالات.
أعترف بشعور غريب فعلا انتابني وأنا أقرأ هذا المقطع السردي. ربما للمرة الثانية أو الثالثة، أجدني أحس بأنني أراني أقف أمام سطوة العقل الروائي إذا جاز التعبير. وجدت الكاتب قد بدأ بالانسلال إلى صلب الفكرة المراد طرحها، وما كان السابق لهذا المنعطف سوى تقدمة لحالة سرد استطاع الكاتب فيها تحقيق ذاته ووجهة نظره داخل خطابه ولغته. انطلق بجرأة للتماس الفاعل مع تفاصيل ما يرويه، واشتقاق ظلال نظرية تكمن خلف سرد يريد واقعيا أن يبلور ولو النزر القليل من مأساة تضغطه بشدة لحظة مخاض إبداعه، ولكنه وبحرفية شديدة سرعان ما يعود إلى نفسه في كل لحظة كي لا ينفصل عن حقيقته كسارد واع بحقيقة الفرق الجوهري بين كينونة الكاتب كمظلة مرجعية والقائم بالسرد والخاضع طوعا لمتطلبات الحكي، في إشارة لا يمكن الانفلات من عظيم معناها لرجل يدرك بالضرورة أن لحظة السرد تتجه عموما لمخاطبة مستويات الغيري الدلالي والتعبيري، وجدنا السارد في حكيه ووجدنا ما أصطلح على تسميته الكاتب المفترض والذي ينطلق على ظلال اللغة الأدبية، وفي كل لحظة من السرد تكون مرتبطة مرة بروح السارد، ومرة بروح ذاك الكاتب المفترض، طرح ضد طرح؛ وجهة نظر ووجهة نظر مضادة.
إن هذا الاتصال الحواري بين لغتين داخل بناء السرد كان علامة فارقة داخل الرواية كبناء كلي يدل الدلالة الحاسمة على وعي الدرغوثي بأيدولوجيا الطرح الروائي برمته. منه استطاع تجهيز المناخ الملائم للنية الأساسية التي تعتمل في دواخله ومنتهى الهدف من الرواية ككل، فتحقق له التميز والمفارقة في كل لحظة. لم نشعر أنه موجود بالكلية داخل لغة السارد، ولا داخل اللغة الأدبية، لكنه تعاطى اللغتين بحيادية منقطعة النظير، وبشكل لم يمنحنا يقينا إلى أي اتجاه يميل الرجل. وظل، وتلك آية أخرى على الصعيد اللساني، طرفا جديدا لا يشترك في الخصومة والمجابهة. وبدا وكأنه متحرر من لغة وحيدة تصبغ النص بجمود لا يشكل هدفا لمبدعنا داخل بنائه السردي. ولكننا لم ننفلت للحظة من لغة ممتعضة هي تلك اللغة الوصفية للقرية على محك الممارسات والأخلاقيات المنهارة.
إن مجرد الالتفاف حول النص الروائي لاكتشاف السؤال ليس عبثا صبيانيا من دوائر التلقي. إن هو إلا سعي جاد إلى رصد إشارة أو إيماءة أنتجها النص. من منطلق وجهة نظري الخاصة، أحسب أن العالم الروائي الذي صاغه "درغوثي" في هذا الجزء وربما في أجزاء أخرى داخل المتن الروائي قد يبدو محرضا لأهم ما يشغل السارد. ربما وجدنا السؤال كحقيقة ملموسة، ولكننا ضمنيا نشارك الروائي نفس الحالة من الحيرة النبيلة، ليس فقط على منحى الوصول إلى إجابة، بل على مستوى الإحساس العارم بالتبعثر والافتقاد للاتزان الحادث بين متجابهين، كل منهما مؤمن بما يعتقده إيمانا يجوز اعتباره متطرفا. لكن إذا افترضنا –جدلا- أن النهاية المرسومة روائيا لصراع الدرويش/ مارتال تمثل سؤالا قد أخذ سمت الحجر المُلقى في بحيرة راكدة، من شأنه صناعة دوائر تتسع بداية من مركزها، فإننا سندرك أن هذه الكتابة في حقيقتها لم تعترف للحظة بسكون التاريخ لأن الشخصيتين المتصارعتين رمزان، وليسا شخصيتين تنموان دراميا لخدمة هدف أبعد من القيم الدلالية لوجودهما كرمز. ربما استطاعت تقنيات السرد رصد وتحليل مفردات التبعثر الحادث ولكنها لم تتجاوز قيمة الفعل الإرادي من أجل التغيير، حتى وإن اعترضته معوقات الجمود والسلوكيات الشاذة والنفعية والمنحرفة، فشواهد الانتكاسة المجلوبة من التراث التاريخي لم تكن لتبرير الآن المنتكس، وشواهد الازدهار على الدرجة نفسها لم تكن للتسرية، إنما وُجدت كضامن مبدئي على عدم الشك من قبل السارد في زوال هذه الصور السلبية التي تعترض أحداثه المروية والتي تعكس حالة من حالات الرجوع والاستسلام والتأخر.
لا أحمل في يميني صكوك المصادرة على نية الراوي، لكن ظني أن الراوي هو ظل هذا الدرويش، أو الامتداد الطبيعي له إلا أنه مازال مقيما على هامش التغريبة. كتب أطروحته الروائية لأنه لا يريد في الحقيقة أن يذهب إلى الكهف وينتظر موته.
إن الضامن لمشروعية السؤال هو ذاته الضامن لحقيقة الدرويش وفرانسوا مارتال كرمزين في مجابهة. رمزان على درجة عالية من الثبات والرسوخ، لا يتحقق لهما الفناء، نظرا لما يحملانه من دلالات معنوية تشكل اتجاهاتهما الفكرية، ولكنهما قد يختفيان أو يندثران، ويظل الأتباع على الدرب سائرين.
إن الدرويش كنمط إنساني، بعيدا عن آليات الرمز الذي انطوى عليها الخطاب الروائي، هو المعادل الموضوعي للطبقة العظمى المسحوقة في أي مجتمع. هو الفقير المعدم والتجسيد الحي للمنفي داخل حظيرة وطنه، لكن غربته تأمل، والبقاء على الهامش عنده إما من أجل بلورة رؤية تأتي في كثير من الأحيان مغايرة (حلول عبقرية جاهزة لواقع متردي)، أو رغبة في التسامي عن الانزلاق إلى عبثية المجموعة.
إن الانسحاب والانتظار للموت داخل هذا الكهف حل رمزي هو الآخر للخروج من تيه طال أمده. ولكنه في حقيقته يحمل في باطنه معنى الاحتجاج الشريف. كشفت عنه تفاصيل سرد غرائبي يعكس بجلاء غربة صاحبه التمرد والامتعاض والمجابهة. سرد من الجائز أن نعترف بأنه قد خلق نفقا هلاميا مظلما، ولكنه لم يصادر على وميض من نور في نهاية هذا النفق، يعكس أملا أو رغبة مخلصة في إدراكه، أو أن يدركه غيره من القادمين بعده.
إن إشكالية موت الرمز إشكالية ملتبسة في الحقيقة، فقيمة الرمز على محك التفاعل تتناسب طرديا مع كم ما يحمله الرمز من دلالات. فإن اتسمت بالثراء كان التفاعل شديدا ومنتجا، وإن كان فقيرا في دلالاته فلا شك في أنه سيخلق تفاعلا فاترا. بيد أنه في كل الأحوال لا يمكن الحسم بيقينية موت الرمز الذي قد يعلوه الصدأ والركام، أو يختفي في رحلة البحث عن هوية وجذور جديرة بالتقديس، لكنه يظل على الدوام ذلك الوميض السحري الذي يراود مخيلة البعض في أزمنة التبعثر والضبابية.
لم أسع في هذا المنعطف لاستبطان مفكرة الرجل كسارد مقتدر، لكن زعمي أن جدلية الحل الروائي التي اختارت انسحاب الدرويش ومن ثم الولوج للكهف وتدشين الناس لانتظار موتها لا تدفعنا إلى اليقينية بموت الرمز وما يحمله من دلالات. إن اختيار الموت لم يكن انسحابا سلبيا من معترك المجابهة على الراجح؛ بل هي في حقيقتها إرهاصة التنظير من قبل الدرويش ذاته لمسألة الحياة والموت. تنظير تأسست أبعاده على دعائم تكتسب خصوصيتها من خصوصية مرجعياته كرجل ذي مواجيد صوفية. فالموت قرار قد اتخذته هذه القرية عندما تنازلت طوعا أو كرها من أجل حسابات نفعية ودنيوية متدنية، وأن تضمين رغبته مع رغباتهم كي ينتظروا موتهم داخل الكهف هي بالفعل فكرة صوفية تنشد خلاصه هو في الأساس، استجابة لعاطفة دينية على درجة من الثبات واليقين، وإيمان ضمني أن روحه أبدية، وأن موته المتوقع ليس موتا لما آمن به وحاول بثه في يقين الناس. دوره مستمر لأنه دور يحمل في ذاته مشروعية نجاحه، شريطة أن ينسحب أهل هذه القرية الذين لا يستحقون الحياة على منحى كونها مكافأة. يموتون كي لا يشكلوا إعاقة للنور المأمول. من هنا نكتشف أن الولوج للكهف من أجل الموت حل رمزي هو الآخر، يعكس دلالات الاستجداء من قبل الدرويش لطوفان لا يختلف كثيرا عن طوفان نوح. يموت كل معسكر الكفر الذي عاث في الأرض فسادا واستسلاما من أجل مجتمع مؤمن مضيء. يموت معهم ذاك الدرويش طواعية من فرط ثقته بأن هذه القرية بعد موتهم ستكون مهيأة لأن تستقر فيها سفينة الذين يستحقون الحياة فعلا.
لكن الرمز المضاد قد انتحر حسبما أراد خالق الحالة الروائية، فهل فرانسوا مارتال عصيٌ على القتل كرمز؟ ولماذا اُختير له هذا المصير؟
بلا شك أن ثراء الدلالة هو اليقين الذي يعبر بوضوح عن عميق رؤية قد يجوز اعتبارها استثنائية بالفعل. ويقين المرجعية الفكرية التي اختارت له هذه النهاية يقين إحاطة بكل تداعيات اللحظة. موت الرمز في شخصية فرانسوا مارتال ذاك الرجل الذي ولج هذه القرية كي يفرض أجندته الفكرية والذي سعى لتصدير كل ألوان المفاسد التي من شأنها تضليل وتدمير هذه القرية لن يموت سوى موت مجاني ربما، موت قدري يثير الدهشة أكثر مما يثير الشفقة التي لا مجال لها في يقين النورانيين الذين مازالت كلمات الدرويش وأفكاره تراود ذاكرتهم. إن المناخ العام على واقع الأرض في هذه القرية لا يستطيع أن يدخل في صراع تتحقق في الغلبة على حساب واحد من المتصارعين. انتصار حاسم يأتي فوق جثة الآخر، ربما سيتحقق ذات يوم، لكن على المدى المنظور لا يوجد ما يؤيد نهاية بهذا الشكل الدموي، فالغرب الذي يحمله الفرنسي على كاهله، رمز لصولجان حضارة عاتية، تمتلك الأيدولوجيا المصحوبة بكل أدوات التنكيل والدمار، لذا لن تموت بفعل زوالها النهائي من خلال مجابهتها من قبل حضارة أخرى تناصبها الضدية لمعظم ما تطرحه من مرجعيات، لكن يظل الأغرب أن يختار لهذا الرمز نهاية الانتحار في إشارة ضمنية إلى التورط في حالة إحباط واسعة تكشف رغم النجاحات الظاهرية عن فشل عارم في بسط معطيات أجندتها، وحين أقول إحباط أعنيها ولاشك، لأن فعل الانتحار في واحدة من معطياته يعود لإحباط ويأس قد أحاط بشخصية المنتحر، أو ربما أفرزت قريحة السارد إشكالية الخطأ التاريخي الذي يمارسه الغرب، ودائما ما يقع فيه عندما تسول له نفسه استفزاز هذه الحضارة في أرضها، والتي تأتي غالبا شواهد التاريخ لتؤكد أن هذه المحاولات هي في حقيقتها انتحار غير مبرر في أرض العرب، أو هو ذاك اليقين من قبل السارد في أطروحة (سارتر) الذي أسس على ضوئها فلسفته الوجودية حين أشار إلى أن الحضارة الأوروبية لن تزول لمجرد أنها تعرضت لمن يسعى لتدميرها وإنما الحضارة في حال اكتمالها على حساب المعنى الإنساني ستبدأ في الزوال لأنها حتما في هذه اللحظة تحمل في داخلها بذور انهيارها، فيما يمكن وصفه انتحارا للمعنى الحضاري الذي فشل في أن يستمر.
الثالوث ليس مقدسا دائما :
لكم أتعب مثلث (الزمان- المكان- الشخصيات) نقاد الرواية الآن، ومؤكد على ظلال "الدراويش يعودون إلى المنفى"، يجب أن نعترف بالكثير من آيات التعب، ولكنه ليس تعبا بقدر ما هو انعكاس لتعب السارد الذي أراد أن يمنحنا كل آيات التبعثر الحادث على حيز هذه القرية.
إن ما قرأناه في فضاء الرواية وما أشتمل عليه من أدوات وأسلوبية هي ولاشك كتابة أزمة بكل ما تحمل الكلمة من معنى، فالنص الروائي الآن على محك الإبداع لن يستطيع بأي حال من الأحوال أن ينفصل كليا عن وقائع أزمة موجودة، بل سيبقى من معايير نجاح الرواية درجة تماسها مع رصد هذا الواقع المأزوم وما ينطوي عليها من تفاصيل، والتعبير – مهما اختلفت درجاته- عن أزمة الإنسان.
قبل الولوج للحديث عن هذا المثلث، نشهد بأن هذه الرواية تحمل من عناصر إبداعها مظاهرة احتفالية بالتفاصيل والأشياء والكثير من مفردات الحياة التي يتعاطاها الناس على ظلال هذه القرية. هي تفاصيل بالفعل ولكنها تعبر عن فاعلية غريبة توضح حركة هذه الأشياء وبيان تأثيرها على الناس داخل بناء النص. لكن الملفت هو التأكيد الصريح على كاريزما هذه التفاصيل والأشياء وبشكل مقصود في الحقيقة ليتحقق معنى الزوال الإنساني والانسحاق كي تبدو شخوص النص وكأنها أشباح فارغة من أي محتوى. رغبة موجودة لدى الراوي والواقع القائم عليه السرد يبرر وجودها، وليست افتئاتا على شخوص النص، فهم كمرجعية مهمشون وضائعون أمام سطوة هذه الأشياء وما تحيله من دلالات رمزية تعكس حالة التفسخ العارم الذي يعيشون فيه.
{وجوه الرجال كالحة.
و الدكاكين ملأى بالسلع.
أشرطة مسجلة لمادونا و هيام يونس و مرسال خليفة و الشيخ إمام والشيخ العفريت و عبد الباسط عبد الصمد.
و " كاساتات " فيديو : كرة قدم و فخذا سعاد حسني و " كاراتي " و صدر ليلى علوي و مذابح الهنود الحمر..
و علب كوكا كولا تزين الواجهات ..
و تلفزيونات ملونة تبث برامج قنوات فرنسية و أمريكية.}
إن الاهتمام المبالغ فيه من قبل الراوي بهذه التفاصيل لم يكن بقصدية التأكيد على عنصري المجتمع الروائي: الناس والبيئة المحيطة، البشر والتفاصيل كحركة من حركات التفاعل التي يكشف عنها نسيج الحكي، بل كانت تعبر عن مدلول الزوال البشري أمام عناصر حضارة وأشياء تعرض بضاعتها بشكل فج، ولكنها على صعيد البناء الروائي خلقت معنيين على درجة كبيرة من الأهمية: أصابت دوائر التلقي بالامتعاض من الوضع العام التي تعيشه القرية، وفي ذات الوقت كشفت عن ضبابية وتعقيدات تغلف شكل علاقة الناس بمفردات عالمها.
من أكثر المفردات دوارانا على ميزان الإحصاء ( قِدر/ مسدس/ محفظة جلد/ السوق/ الحشيش/ الخمر/ الكؤوس/ الإبريق/ كوكاكولا/ الفرش.
لاحظنا اختفاء كل الذوات في مقابل سطوة الأشياء والتفاصيل التي لم تعد هامشية في حياة البشر بقدر ما أصبحت دليلا على سيطرة ماديات ابتلعت البشر وأعاقت كل لحظات التفكير من أجل تغيير هذا الواقع المتردي.
إن لعبة الزمن في هذه الرواية إذا جاز لنا أن نسميها لعبة، انطوت على معالجة تجريدية إلى حد كبير، فمن الصعب بمكان أن نحدد بدقة في أي زمن يُصب فعل السرد بما انطوى عليه من تفاصيل غرائبية، وما أشتمل عليه من تمازج جدا فاعل في مستويات البنية الدلالية للتراكيب التراثية والحديثة، والتي عبرت بجلاء على تداخل الأزمنة وسيولتها، وعدم القدرة على ربط الكتلة السردية بإطار زمني يحدد مشروعية وجودها داخل بناء النص.
إن محاولة تجريد الزمن والسعي إلى إبراز جموده، هو بالضرورة نوع من الثورة على مفهوم التتابع والحركة، والطعن في مقولة المنطق التي من شأنها تغليف الحدث الروائي بشيء من الانتظامية، وهذا لم يحدث في الحقيقة، نظرا للجو العام الذي سيطر على تفاصيل السرد، فالمناخ العام سيطرت عليه كل آيات الغرابة، وطبائع القصص المؤسطرة والخرافية و المُطعمة بالخيال، وكأننا أمام رغبة مقصودة من السارد تتيح لنا قراءة رواية هي في حقيقتها قصة شفاهية قديمة، جملة هذه الحكايات بأحداثها وشخوصها ورموزها تضافرت مع الحكاية المتخيلة، وكأن الرجل يشحذ همم الذاكرة الجمعية لتعيد تشكيل الحكاية الماضية وحسن إسقاطها على الواقع المعيش. ومن خلال هذا القصد يتم شحن الحكاية المتخيلة بقوة ضغط تمكنها من الانسلال داخل هذه الحياة فنعتقد معه أنها واقعية أو تكاد. وربما ذاك الذي يفسر سطوة الراوي وحضور التفاصيل والوصف والاسترسال، والانحرافات السردية.
الغريب، وجدنا ما يُلمح إلى أن الماضي ذاته الذي استقى منه شواهده التاريخية كي تحضر للسرد على محك اللحظة الآنية، قد بدا وكأنه هو الآخر ماض ملتبس، تفاصيله هي الأخرى لم تخضع لمحاكمة منصفة. وعلى الجانب الآخر من النهر وجدنا الحاضر ذاته حافلا بكل مظاهر الفوضى والضجيج والالتباس والافتقار العارم لأي منطقية. حاضر تبدو مفرداته أكبر من أن توضع في إطار زمني محدد به بعض من نظام هو في الأساس غير متحقق واقعيا.
لكن ورغم كل هذا يظل الزمن التي انبثقت منه الأحداث، زمن على درجة من التحديد الدلالي الذي انبثق منه فعل السرد في المطلق، تاريخ حرب الخليج الثانية تحديدا، وكأن هذا التاريخ بعينه هو وقود السرد برمته كحدث يشكل منعطف هام في تاريخ الواقع الأممي بالكلية وليس واقع هذه القرية التي هي مرآة تعكس الأزمة بتفاصيلها المعقدة.
إننا إذا اعتبرنا هذا الحدث بعينه الخيط الأول للإمساك بالزمن في الرواية، لكنا بمثابة من يريد اختزال النص الروائي في نص دعائي يشبه إلى حد كبير بيان إخباري وتوضيح تداعياته. بل من الجدير بنا أن نعتبر هذا الخيط هو اختزال للزمن العربي كله أو في الكثير من منعطفاته، في تاريخ قريب الأثر بالواقع الحالي.
إن مرجعية الزمن في هذه الرواية بحق وكأنها إعادة تفجير لزمن راكد وجامد، فإن كان التاريخ قد يصاب بطبقات الصدأ والركام فإن الوقوف عند هذا الحدث كقوة دفع منتجة لهذا النص تبدو لي وكأنها تفجير لدلالات أنتجتها أحداث تاريخية متكررة. ولا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون العيب في ضعف الذاكرة الجمعية التي لا تستطيع الربط بين حركات التاريخ المتتابعة في دائرة لا تنتهي، وما كانت كيمياء هذا السرد الكاره الممتعض لتفاصيل هذا القرية النائمة إلا تعبير عن سأم في حقيقة الأمر. من هنا نكتشف أن هذا الزمن المرجعي نفسه هو في حد ذاته زمن رمزي يختزل ما حدث في الماضي البعيد أو القريب على السواء، وكأن الناس تتحرك في ثنايا هذا الزمن بلا حركة، ومن فرط التكرار، حدث ما يشبه ثبات عناصر هذا الزمن، وثبات شكل التعاطي مع مفرداته. إن أهمية ما يمكن الوقوف عليه في آلية بنفس هذا الشكل هي الاعتراف الصريح بجمود الماضي والحاضر. ليس جمودا منطلقا من ذاته بقدر ما هو جمود العناصر البشرية التي لا تتفاعل معه بالشكل الذي من شأنه خلق إرادة الفعل الساعي للتغير.
إن إشكالية الزمن كإطار مرجعي استند على حرب الخليج لم يكن في حقيقته سوى حيلة فنية من السارد –رغم أهمية هذا التاريخ- تدعوه إلى تثبيت أركان المأساة التي يحيلها حدث كهذا لزمن على درجة من الوضوح، ولكنه في ذات الوقت قد اتخذ من دلالاته مسرحا لزمن مراد لذاته لم يتحقق بعد داخل المتن الروائي. بمعنى أن هذا الحدث ظل بطلا ثانويا في عرض مسرحي ليس ثمة فيه بطل محوري، يعطي للأحداث المسرودة إطارا منطقيا. إن هذا الحدث نفسه قد بدا كحدث متواتر يحدث كل يوم على واقع الأرض، ولا يختلف كثيرا عن تلك الأحداث القادمة من رحم التاريخ في جملة ما يحمله من دلالات مماثلة لبشاعة الحدث الذي قد يبدو كعتبة انطلق منها السرد. إننا لو سألنا أنفسنا عن تلك المساحة التي شغلها هذا الحدث داخل السرد لوجدنا أنه وميض فسفوري لم يكن ليعلن عن نفسه كحدث ولكنه حدث كسائر الأحداث التي ينفتح عليها النص من الزمن الماضي سواء البعيد منه أو القريب، ولكنه يختلف عن هذه الأحداث في وجوده كعلامة دالة على مناخ التحريض الذي خلق النص من جهة، وأعطى الإحساس العام بدائرية حركة الزمن ذاته.
لعلني أمارس ضربا من مبالغة إذا قلت: إن السارد هو الممثل الحقيقي للزمن في معناه، هو المتحدث الرسمي نيابة عنه في معناه الهلامي المتشظي ومن خلال هيمنته كسارد مقتدر، فهو موجود على الدوام يصف ويسترسل ويعلق وأحيانا كثيرة يوقف مجرى السرد من أجل المرور على حادث لا يبدو في كثير من الأحيان مقحما ولكنه على منحى البناء الكلي مفعم بالدلالة. والأشد من هذا أثرا أنه وحده الذي ينتخب الزمن الذي يريد التماس مع أحداثه.
حتى عند الرصد التفصيلي السارد لثنائية الليل والنهار التي تعيشها هذه القرية وجدناها ثنائية محترقة إذا جاز التعبير. ظرفان على درجة كبيرة من العبثية فالنهار كائن أصم لا يتحقق ضجيجه وحركته إلا من خلال السارد الذي يندفع لتوصيف ما بها من ممارسات غير ممنطقة. والدرويش الفرد العائش على هامش التغريبة يمارس تفاصيله الغرائبية والطقوسية ويعرضها على أناس يقبعون في اللازمن أصلا.
إن ضبابية الزمن أو نفيه أو عدم التورط في تحديده بإطار مرجعي بدا لي وكأنه، في حقيقة الأمر، لا يعدو أن يكون رغبة السارد في الانتقام من أهل هذه القرية التي استباحت لنفسها أن تنفي حقيقتها في ظل هذا الوضع المنهار. كما أنها وبدم بارد قامت بنفي هذا الدرويش من تلك الحياة التي حسب نفسه قادرا على تغييرها بما يملكه من يقين مقاوم، بينما ظل الليل مرتعا لآلام هذا الدرويش من جهة، ومسرحا مفعما بكل ألوان الصخب والمجون والمؤامرات.
إن جلال الثقة وهيبة الطرح عند الدرغوثي تغريني بالقول: إن تغييب أي حدث من الممكن اعتباره مركزيا في متن الرواية مع الحرص على تماهي الأزمنة وتداخلها بهذا الشكل الذي تحقق من منطلق انحرافات سردية متكررة كانت بدورها طموحا مشروعا للحديث عن أزمة تتسم بالشمولية لواقع الإنسان العربي. هي ربما سعت لتغييب الزمن حقا، لكنها لم تتوقف لحظة عن تعريته وفضحه، واستجلاء مثالبه. زمن بلا يقين واضح مترع بالاستكانة والإذعان، يغلف الغموض والعشوائية وانعدام التفاعل والغياب أفعاله، زمن بلا أسماء( رجل/ امرأة/ تاجر) من هنا نجزم بزوال الحركة وبالتالي انعدام الزمنية، وتآكل حاد للذاكرة، تحول فيه الدرويش لحالة عارضة، نتوء في جسد متهاو، يستثير الشك والدهشة والتفسيرات الساذجة. لذا لم يكن بدعا أن يتراجع الزمن الحدثي الذي من شأنه أن يساعدنا على أي رصد للفعل ورد الفعل داخل إطار الزمن.
مسرحة المكان :
إن التحدث عن المكان الروائي عند" درغوثي" ورغم ما سبق وأن قلناه عن الأزمنة المتداخلة، يستدعي أن تبقى الخلفية الفنية لآليات الدوران حول مفهوم المكان الروائي حاضرة بقوة.
مما لاشك فيه أن مسألة المكان (آثر السارد أن يرتكز على هذه القرية) مسألة قد تبدو في كثير من الأحيان إشكالية فعلا، وهذا لم يكن محض عبث بقدر ما كانت رغبة حاضرة للتخديم على الفكرة الرئيسية التي تتجه للطعن في هذا المكان من جهة، والعمل على خلق مناخ يساعد السرد الغرائبي المُطعم بالخيال والأسطورة والإيهام بالواقعية من جهة أخرى.
إن القرية في حقيقتها هي التي حققت ما يمكن تسميته بمركزية الأحداث. باتت كالمسرح الذي ينطلق منه النص بالقوة والفعل. في إشارة إلى كون القادم من أحداث حتى وإن أتصف بالعبثية والغرائبية، فإنه يستند على أرضية من واقع؛ أنا لو حاولت أن استنطق مبدعنا حول هذا المعنى لقال:
إنما اختزلت تلك الرقعة الممتدة من المحيط إلى الخليج في هذه القرية. أنا لو تورطت في توصيفها جغرافيا لكنت كمن يقوم بتحليل رموز هي في حقيقتها واضحة وضوح اليقين الذي أبحث عنه، والذي ضاع في لحظة من لحظات غريبة لتاريخ غلف الرمز برمته. بل أنا أقوم بتوصيف حفنة من المتغيرات التي أحالت ذاك الإقليم، المتناهي المحدودية كجغرافيا ولكنه عظيم المساحة، إلى مرموز دال على شمولية الكارثة التي تحولت إلى كابوس.
ورغم يقين السارد في رمزية المكان، وتلك الرغبة في اختزاله داخل حدود هذه القرية، وجدنا أن السرد في الكثير من منعطفاته يقوم برصد واع لتلك التأثيرات الإنسانية وغيرها سواء بالسلب أو الإيجاب وبطريقة أعطت معنى الصياغة والتشكيل لهذا المكان، بغض النظر عن فحوى هذا التشكيل والذي جاء في معظمه مدمرا ونافيا للانتظامية ومؤكدا لكل آيات الحيرة والضبابية والالتباس. وكأن السارد يعيد بعض الاعتبار للفعل الإنساني( السلبي والمشوه غالبا) كونه ليس محايدا. وفي ذات الوقت ضرب بمقولة حيادية المكان كثابت متجمد إلى درجة عرض الحائط، من فرط التشويه الذي يمارس على ظلاله.
ربما أعلنت تقنيات السرد، في جرأة لها ما يبررها، الطعن- مؤقتا ولعلة خاصة به- في مقولة أبدية الزمان ولاسيما في هذه الرواية التي نحن بصددها، على اعتبار أن الأمكنة لا أبدية لها، الزمن يتحرك بينما المكان ثابت على الدوام نظرا لمحدوديته، لكن ذلك لا يغرينا بأن نندفع وراء تصور أن المكان في هذه الرواية كان متحركا بالكلية بينما الزمن ثابت ودائري. على اعتبار أن السرد ومضامينه التي تفجرها الحكايات الواردة داخل أنساق السرد تعلن في امتعاض : ما أشبه الليلة بالبارحة. بل يمكن لنا أن نقولها غير هيابين: إن المكان كان العنصر الوحيد داخل بناء الرواية الذي لم يكن سهلا الانفلات من الإحساس بتغيراته المستمرة على محك السرد الكاشف: تغيرات قد تبدو محدودة إذا ما قورنت بتغير الأنماط السلوكية للبشر في جنباته، والتي انطلقت بوعي مدروس للتفاصيل داخل المكان في كليته والمكان داخل عناصره المنتخبة بعناية داخل الفعل السردي، لكنها كانت تصف كرغبة روائية، وتعري ذاك التشويه الذي طرأ على المكان وبفعل الزمن في نهاية الأمر.
إننا لو قمنا بتطبيق مبدأ روائي يكتسب قيمته من قيمة حركة لاعب الترابيز الذي ينتقل بمهارة بين حبل الصورة السردية التي تتجه إلى عرض الأشياء في حال حركتها، وحبل الصورة الوصفية التي تعرض الأشياء في حال الثبات، لوجدنا هذا المكان الذي يرتكز عليه فعل السرد قد أعطانا مشهدا كليا ثلاثي الأبعاد. والذي جاء تعاطي الروائي له بنفس ذات النظرة الثلاثية.
ربما يكتنف الحديث بعض من غموض، لكن من الممكن أن نبدأ من عتبة الخبرة التي تقف كمرجعية روائية تصبغ عنصري الوصف والسرد بقيمة الفعل المستبطن لما ورائيات المكان، وهي تقف بدورها كحقيقة مجابهة، لا تتحدث عن نفسها من منطلق حركة شخوصها، بل من خلال السارد ذاته.
إن خلخلة الواقع المعيش بالقصص التاريخية والخيالية والوقائع الغريبة في حد ذاتها قد خلقت مكانا ظاهريا على بساط الرواية يبدو كمسرح يمكن عرض الخطوط العريضة لمضامين السرد وما أنطوى عليه من رموز ودلالات(بعد أول).
من الضروري أن أتوقف، إذ من المؤكد أن دعاة الاقتصاد في الوصف( كي لا نصادر على خيال المتلقي) سيقفون موقفا مضادا للدرغوثي، لكن أستطيع الدفاع عن هذا الاسترسال في الوصف{ الليل/ المجون/ جلسات الكيف/ الجنس/ اللواط/ الخمر/ الانبهار/ حركة الاستهلاك}تفاصيل جاءت كمحاولة لعمل ما يمكن اعتباره(zoom in) لهذا الواقع المتفسخ والضبابي والذي يقف منكسرا مستسلما لمفردات حضارة مدمرة ابتلعت جماليات هذه القرية.
إن هذا البعد كان مسرحا لواقع مغيب وعبثي، وطالما كان كذلك فمن الضروري أن ينبثق منه بعد ثان يمثل كواليس هذا المسرح الذي يمكن توصيفه بالواقع السفلي لحياة شخوص هذا العرض، وبقصدية تكثيف البشاعة والضياع والحيرة. هو واقع ذو صفة ضاغطة بكل مفرداته، منفر، يمثله معسكر يناصب الدرويش العداء لمجرد جهله بحقيقة مراده منهم. البعدان ظلا بطول الرواية وعرضها يتبادلان المواقع كي يعبرا عن حياة الناس وما فيها من تناقض وغرابة وابتذال.
إننا لو أمعنا النظر في هذين البعدين لوجدنا أن البعد الأول أكثر جمودا من البعد الثاني، ولعلة واضحة في نفس السارد. فالأول يغيب فيه التفاعل الإيجابي بشكل حاسم، بينما الثاني يمور بالتغيرات الجذرية، وبهبوط حاد متسارع لكل القيم والأخلاقيات.
{والجمال يربت على الفخذين الشقراوين ..
ويمارس العادة السرية جهارا فيسيل لعابه على الرمل .
والسنام يعلو و يهبط .
والسراب يحول الصحراء إلى سرير كبير .
وتقطر اللذة من عيني السائحة الأمريكية.
ويربت الرجل على فخذيها بحنان ، فلا تخجل .}
لا أريد التورط في سفسطات فلسفية، لكن حسبي ثراء النص الذي يدفعني لها شئت أم أبيت، فزعمي أن التماس الوصفي الذي ذكر الجبل والنخل والأحجار لم يكن عبثا، بل جاء تأكيدا لمقولة المكان المعياري الذي يستنكف الراوي من أن يجعل منه عرضة للعبث مثلما حدث لباقي مكونات القرية. لكن تظل المفارقة في جعل هذه المفردات ترميزا لحقائق هي بذاتها يقينية، وكأن الإشارة لهذه الجمادات بالثبات والرسوخ كانت في يقين شخوص هذا الواقع مسألة تحتاج لتأكيد، في دلالة مرعبة عن مدى التخبط.
من هنا نصل للبعد الثالث الذي ينحسر في رمزية الارتفاع على محك المكان والمكانة، زاوية الجيلاني المستوية فوق تل، وبيت "مارتال" المستوي فوق هضبة.
هل يمكن أن يكون ارتفاع الزاوية والبيت ارتفاعا جدليا كنقطتين يشرفان على القرية؟
إن تجسيد مقولة الارتفاع التي اختارت للزاوية تلا وللبيت هضبة، هي في حقيقتها قدح في شكل تعاطي الناس لمفهوم المكان والمكانة معا، ففي حسابات الجغرافيا ربما لا يوجد ثمة فرق واضح بين التل والهضبة، فالاثنان ليسا بالغي الارتفاع، لكن ربما علينا أن نسأل يقين الناس في هذا الجو المضطرب عن رأيهم.
إن تفاصيل الممارسات الصوفية والمواجيد والذكر تراجعت في نظر هؤلاء. وإن ظل مرتفعا في يقين المؤمنين به وهم قلة، فبقاء الزاوية على (تل) ليس سقوطا إلا في عقيدة هؤلاء الضائعين. وبقاء بيت"مارتال" على الهضبة ليس سوى ارتفاع لقيم التراجع والابتذال والذي يستمد فوقيته من إيمان الناس وتكالبهم على هذا الكم من الموبقات.
إن وعي الراوي يدرك تداعيات أزمنة الهزيمة التي تنحسر فيها الرؤية اليقينية حتى تكاد أن تزول. تنهار القيم والبناء الاجتماعي ومعهما المعايير الجمالية. يختفي الإبداع وينتشر التقليد الأعمى، وتهتز الشخصية من جذورها، ويتجسد معنى الضياع والحيرة في أبشع صورهما، يفقد الناس كل معنى يحقق لهم صلة متزنة بعالمهم، في إرهاصة تشي بعدم القدرة على أي بناء من شأنه تعمير خرائب الأرض والضمائر. إن معسكر الضلال المحيط بالدرويش والذي تراجع لحساب (مارتال) القادم بصولجان حضارته، دعاه غروره وخضوع البشر واستسلامهم إلى أن يبني بيته في مجابهة زاوية للدراويش. منه، ينطلق لصناعة تغريبة هؤلاء الناس واستعبادهم. خلق لهم فيه مناخا منحطا ومقززا، مما دعا القابضين على جمر يقينهم إلى أن يستوي بهم المقام في كهف فوق جبل، لا لكي يعصمهم، ولا فرارا بدينهم، ولكن من أجل موت سيأتي بمستقبل جديد يعيد لهذه الخرائب بعضا من العمران.
{و صار منزل الفرنسي محجا للأهالي، يطوفون حوله، و يتبركون بأحجاره. حتى الكبار : شيوخ القبائل، و قادة الجند، و كبار التجار جرتهم رائحة " الكيف " إلى هناك، فجاءوا زرافات، وحطوا الرحال داخل حديقة القصر.}
ربما أنا بصدد ممارسة جنوني المعتاد، لكن الصدق يحتم عليَّ أن أعترف بشيء قد يوحي بدلالة بإمكانها أن تساعدنا في بلورة فكرة عقلانية إلى درجة لتفسير هذا المكان كمنطلق للحدث الروائي، وكرمز محمل بالدلالات في آن، فملفوظ (قرية) استوقفني فعلا، هو مجلوب ولا شك من ذاكرة تراثية يدركها مبدعنا بشكل كبير. القرآن أفرد لهذا اللفظ دلالات أنتجتها السياقات التي ورد فيها. هذه السياقات هي أبعد ما تكون عن تحديد مفهوم القرية وبيان خصوصيتها، وهي التي من شأنها استخلاص معنى حقيقتها كمساحة جغرافية يقطنها جمع من الناس؛ أذكر منها( أو كالذي مر على قرية) و( لو أن أهل القرى آمنوا) و( وضرب الله مثلا قرية) و( وإذا أردنا أن نهلك قرية أمرنا مترفيها).
بالضرورة، لن أتحدث عن (قرية) من منطلق المعالجة المعجمية، والتي تسير معظم مترادفاتها في طريق الاستقرار، والإحسان.
أزعم أن الوقوف عند مصطلح قرية، سيخلق سؤالا لماذا لم تكن مدينة؟
في حقيقة الأمر، أرى أن اختيار ال "قرية" تحديدا يرتكز على ثلاثة محاور.
الأول: إن حقيقة القرية كمساحة تتسم بالمحدودية، ويسكنها عدد محدود من الناس. العلاقات الاجتماعية تكون فيها على درجة كبيرة من الاتصال والحميمية، إذا ما قورنت بتفاصيل السرد الذي جاء على لسان الراوي والذي من شأنه أن يخلق حالة من حالات الصدمة لدوائر التلقي والتي قد تسأل في لحظة ما... ما أبشع الذي نسمع! أفي هذه المساحة الصغيرة تكمن كل هذه الألوان العبثية والحيرة والانحلال؟!
آلية مقصودة من الراوي أضفت قتاما قد يبدو أكبر بكثير من أن تتحمله قرية بهذا الحجم؛ يتجه للتأكيد على خطورة الوضع بوجه عام.
الثاني: إن عبقرية الشعور الإنساني بمعنى القرية ولاسيما للذين نشؤوا فيها، تجعل منها معنى قريبا جدا من وجدانهم، يحملونه في ضمائرهم كمرادف لمعنى الفطرة والبراءة، ومؤكد أن إقامة سرد مفعم بهذه التفاصيل هو بدوره إقرار بأن الفطرة ذاتها تعاني انتكاسة عظيمة الخطر.
الثالث: إن تفسخ مجتمع المدينة لما تشتمل عليه من زحام وضجيج وعلاقات اجتماعية متوترة، مبنية على علاقات نفعية في الأساس تحكمها المصلحة، قد يبدو مبررا في أحايين كثيرة، لكن القرية تظل في مدلولها تحمل سمت الضد الحاسم لواقع المدينة، البراءة والبكارة والهدوء، الإخاء والتعاون، الروابط الاجتماعية المتينة والمتزنة، الضمير الجمعي الذي يُشعرك بأن الناس في ظلها قد اجتمعت على قلب رجل واحد، لكن مع آليات سرد كالذي رأيناه فمن المؤكد أن معنى الضدية مع ما هو كائن في واقع المدينة قد انتفى كليا، بل والأشد قسوة هو طرح سؤال من قبيل: إن كان كل هذا يحدث على ظلال قرية... فما بالنا بما يحدث في المدينة؟ في إشارة جدا واضحة لحالة عارمة من ضياع، على مستوى كل الأقاليم، لا يمكن تحديده.
ربما قد طال هذياني في هذا المنعطف، لكن المقام يغريني بأن أقول: إن مرجعية لفظة قرية كمكان، جاءت منطلقة من دلالات قرآنية في الكثير من مضامين الدلالة التي تتجه لأحقية هذه القرية بالعذاب الذي ينتظرها جزاء وفاقا، فلفظة قرية في كثير من السياقات القرآنية مقرونة بالخواء على عروشها، أو بالتعرض للويل والثبور نتيجة أفعالها التي جاءت ضد الطبيعة والنواميس. وما كان سرد الدرغوثي هنا وفي كثير من منعطفاته إلا للحديث عن ضلال وفسق مترفيها، وما كان الولوج للكهف انتظارا للموت سوى استجداء لطوفان جديد يطهر الأرض ويفتح الباب للأمل المتمثل في معنى الطفولة، ومن يطعن- جدلا- في هذا فليسأل الرواية.
الدكتاتور يشاهد كرنفال القشور من منصة السرد:
في البدء اعتذر عن هذا العنوان وما سيأتي لاحقا للتعبير عن الإحالات التي فجرها لديَّ، وأنا أطالع الدراويش يعودون إلى المنفى، فالإبداع من وجهة نظري الخاصة ممارسة ديكتاتورية إلى درجة كبيرة، ولكنها في لحظة توقفه عندما يعتقد المبدع أنه قد أنجز الهدف أو يكاد، يفسح لنا الطريق إلى مضامين النص الروائي كي نمارس ديمقراطية كنا ننشدها.
من الصدق بمكان أن نعترف بهيمنة الدرغوثي كسارد إشكالي في الحقيقة، وما كان طوافه في أركان روايته إلا لتأكيد العديد من المعاني، الظاهر منها والمخفي والذي يبدو على محك السرد آية من آيات العمق، يدرك يقينا أن الصدمات الكهربائية التي تضمنت الكثير من تفاصيله حتى وإن بدت قاسية، إلا أنها ضرب من علاج، لذا بدا صوته هو الأعلى على الإطلاق، وإن كان قد سمح ببعض من نفحات الرحمة أن يوكل أمر بعض المناطق السردية إلى أصوات أخرى تنوب عنه.
من المؤكد أن السارد هنا لم يكن سوى حقيقة لا تختلف كثيرا عن حقائق واقعه التي قام عليها بفعل السرد، فهو في حد ذاته آية من آيات التشظي والحيرة، لذا بدا لي في الكثير من مفاصل الرواية وكأنه مرتبك، يرثي بدموع يكتمها برباطة جأش، يقدح في تجريح قاسي، يائس إلى درجة، ويستجدي حلما مغايرا يكسر هذا الجمود. السارد هو كل هذا الجمع، مارس سطوته بالتحدث نيابة عنهم في طعن واضح وإشارة لعجزهم حتى عن إبداء مواطن ضعفهم وترديهم.
إن مركزية الصوت السردي الواحد في أغلبه، ومن ثم السماح لدرويش أو "مارتال" أن يعربا عن صوتيهما، لم يكونا بدعة أو افتئاتا على الحقيقة. فالزمن احتفالية بالهذيان والاستسلام وتبدل القيم وبالتالي يتراجع الفعل ورد الفعل. ينزوي الإنسان ولا يبقى سوى العبث والتراجع؛ تستحيل الشخصيات إلى كتل متحركة فارغة من معناها، تتحرك بلا انتظام، تثرثر وتعلن عن جهلها بدهشة، تدخل طواعية في زمرة الأشياء التي تتحرك قدريا وليس بفعل إرادة عاقلة وقادرة على مجابهة متغيرات واقعها.
أشهد للراوي هنا أنه من الذكاء المتطرف الذي أستطاع به أن يصوغ خدعة فنية إذا جاز التعبير، تتمثل في تغطية الجمود بمرونة فعل السرد. فرغم هذا الزخم الشديد من سرد مُطعم بالأسطورة والمتخيل والواقعي، كان الواقع الباطني لشخوص النص واقعا متجمدا إلى درجة، يتأرجح بين جمود المرجعية، أو الجمود من فرط الفشل في هزيمة الأجندة المضادة. بالفعل، عندما أصف ذكاء الراوي بالمتطرف فأنا أعني هذا يقينا. فإن سلمنا جدلا بأن فرنسوا مارتال هو علة هذا التراجع، وشكلت استجابة الناس عاملا مساعدا، فأني قد أرصد جائزة لمن يستطيع أن يضع أيدينا على مبدأ السببية والحتمية الذي يغلف أحداث هذه الرواية في جملتها. لم يكن سهلا أن يتورط الدرغوثي في بسط معطيات سرده على مبدأين لا يمكن تحققها بوضوح في واقع قام بتوصيف تفاصيله بهذا الشكل، لأن زوال السببية والحتمية هو المعبر بجلاء عن غياب الفعل الإرادي، بالإضافة إلى زوال المعيارية أو القانون الذي من شأنه ضبط حياة الناس على واقع هذه الأرض، وهذا في حد ذاته هدف يؤكده السارد بضراوة، لكن قد يكون كهف الموت هو الحتمية الوحيدة.
أحذر من يقف عند هذا الرأي ويحاول أن يربط بين هذه الرغبة والأطروحة الماركسية التي تؤمن بالجدلية التاريخية، والتي تصف حركة التاريخ بالحتمية والصرامة وتغييب فعل الإرادة التي من شأنها تغييره أو حتى التحكم في إيقاع حركته، حتى لو انتخبنا من النص شواهد دالة على ذلك؛ فلو لم نر كتلة سردية تحمل سمت السبب، وكتلة سردية لاحقة تأتي كنتيجة لها، أو اعتمدنا على اهتزاز النظرة الواثقة من قبل السارد في وجود من يملك على مسرح الحاضر المعيش من يستطيع التغيير، فليس هذا مدعاة لأن نربط هذا بالأطروحة الماركسية. وأزعم أن هذا، في حد ذاته، اختزال لقيمة أكبر من قيمة الطرح الماركسي ذاته، ترتكز على يقين أكبر يرى أن فعل التغيير يرتبط بمعطيات هي بالضرورة ليست متحققة. وإذا عولنا على( درويش/ مارتال) فهما في الأساس شخصيتان طقوسيتان في الحقيقة؛ لا يمكن تحديد أيدلوجياتهما ومستويات فعليّهما الإرادي إلا من خلال ممارسات، إما مبتورة، أو تواجه إعاقة من مصدر ما، الأمر الذي يجعلنا نشعر دون أن نظلمهما كرمزين أنهما متعادلان تقريبا.
إن الاقتصاد الواضح في ذكر أسماء شخصيات الرواية كان إشارة واضحة إلى أن الكل متشابهون{ الخلق/ الرجال/ النساء / الأطفال/ السياح} وأن الثلاثي المحوري الذين يرتكز عليهم سير الأحداث وهم على الترتيب( درويش/ فرانسوا مارتال/ نمرة) هم الذين يحققون للسرد هيكلية الحكاية، أما باقي الشخوص، سواء كانوا زمرة الفقراء المواليين للدرويش، أو طبقة الكبار والتجار حاشية الفرنسي مارتال، فهم لا يعدون أن يكونوا صورا متحركة تنتفي عنها أي ظلال يمكن رصدها اللهم إلا جملة ما تتأثر به، كلٌ حسب ما يسير خلفه من مرجعيات وإن اجتمعوا جميعا على كيمياء العجز والانبهار السلبي.
من أبرز المعاني التي قد نصل لها مع قراءة هذه الرواية، أن منظومة سلوك شخصيات الرواية كلها سلوكيات ظاهرية وخاضعة للرصد، انبرى فعل السرد لكشفها جملة وتفصيلا، لذا كان من الطبيعي جدا ألا نرى كتابة ترتكز على مخبوء، مما يخدم آليات سرد يتجه للفضح والتعرية. ولم نجد على الدرجة نفسها سردا يتكأ على لاوعي الشخصيات. فلم نر كتلة سردية بعينها انطلقت لتوصيف المنحى السيكولوجي لشخصية ما أو تحليلها( اللهم إلا في خوف وتوجس مارتال من درويش) في إشارة جدا واضحة لإبراز سطحيتها، فلا يوجد مسافة مقطوعة بين التفكير في الفعل وتنفيذه. مما يعطي دلالات قوية على الانحطاط والرعونة وقصر النظر وانسحاق الحياء، وغياب المرجعية الأخلاقية، سلوك منحرف لا يكترث بالنتائج.
عندي إيمان أن مبدعنا سيسامحني حتما إذا قلت: إن التماس مع شخصيات هذه الرواية في حقيقته حديث ينطوي على أطروحة فلسفية، لأننا إذا وضعنا شخصيات النص الروائي في مواجهة ذاتها من جهة، ومواجهة عالمها من جهة أخرى لوجدنا أننا بالفعل أمام سارد قد آل على نفسه أن يبقى للنهاية قاضيا عادلا، يستنكف من أن يحاكم شخوص نصه محاكمة غير منصفة، لا يهدف إلى العدل ظاهريا بقدر ما يسعى إلى تنظير حلم ينتمي لشخوص غير ذات الشخوص، لأن تأسيس شخصيات الرواية على النحو الذي وجدناه، لا يمكن بأي حال من الأحوال أن يكون تأسيسا عبثيا، ولاسيما أن الشخصيات، كتجسيد للحركة في المكان، كانت موظفة كرمز كثيف في معناه ومضامينه وتأويله، لذا فعندما نقول إن الحديث عن الشخصيات المحورية تحديدا أطروحة فلسفية قام السارد بالتخديم عليها ببراعة، فهذا بلا شك حق يجب أن نرده لمبدعنا.
في حقيقة الأمر طبيعة التفكير الفلسفي مجهدة فعلا. هي ترتكز على تأملات عقلية عميقة تنتقل من مفردات جزئية وصولا لحكم كلي عام. وطالما شهدنا بأن تأسيس شخصيات النص استمد وقوده من رمز. فلابد لهذا الرمز أن يكون منبثقا من رؤية تحدد الإطار العام لهذه الشخصيات. ترصد حركتها في المكان، ومن ثم نستطيع تقييم وجودها التقييم المنصف وبالتالي تمنحنا اليقين الحاسم الذي نستطيع من خلاله محاكمتها بشكل منصف.
فلو بحثنا في كيمياء التأسيس وجمعنا معطياتنا، لوجدنا أن المعطى الأول يرتكز على مقولة الثنائيات:
ثنائية الصوت ( الحدة/ الخفوت)
ثنائية الوجود( الحضور/ الغياب)
ثنائية التأثير( الإيجابي / السلبي)
إن تقدمة هذه الرواية قد منحتنا يقينا مفاده أن صاحب الصوت الأعلى هو السارد في الحقيقة، وبداية فصلها الأول والذي استند على استهلال معروف في فن المقامة ب "حدثني"، كان إشارة مُبطنة بهيمنته على السرد حتى وإن بدا بعيدا عن الإشكالية المتضمنة فيه كرجل يروي ما يُملى عليه من قبل درويش عائد.
لذا حمل في يمينه صيحة التعرية والفضح والامتعاض والسخرية، وحمل في يسراه صكوك البراءة؛ وكأنه يسرد دون أن يتهم بالمسئولية عما يسرده. ها هي الأحداث كما رويت لي وإنما أنا ناقلها إليكم، وإن أردتم ربطها بواقعكم واستقام الأمر فهذا جُل ما أتمناه.
لكن ظلت حرفية الكتابة تتداخل حتما مع قيمته كسارد، فهو بالضرورة يكتب من منطلق صرخة رافضة وممتعضة، إذن لمن تمنح هذه الصرخة إن أراد أن يجعل غيره يطلقها؟
مما لاشك فيه أن طبيعة السارد ذاتها قد بدت لي كقيمة ملتبسة هي الأخرى، فهل إذا اعتبرنا السارد نفسه رمزا نجافي الحقيقة في شيء؟
إن تتبع هذا المعنى لا يستند على الفراغ، وإنما يستمد مشروعية وجوده من قيمة فعل السرد نفسه الذي تغلَّف بالعديد من الرموز. فالسارد في أبسط دلالاته مواطن عربي يحيا التغريبة بكل تفاصيلها، فإن أرتفع صوته، فالواقع الضاغط هو الدافع الذي حدا بالرجل أن يخرج عن صمته أمام هذا الكم من التداعيات المؤسفة التي تحدث على مظلة الواقع الأممي( قيمة الأدب الأبرز) لكن على الراجح بدا لي أن تدافع الأصوات على مستويات الحدة والصراخ ما كانت قادرة على أن تجعلها مسموعة. لذا بدا الخفوت وكأنه ضرورة. حتى الرمز الوحيد الذي يستند على يقين وحق يسمحان له بأن يطلقها مدوية( درويش) لم يكن صوته سوى خفوت يقترب من الهمس، وحتى عندما أرتفع الصوت كان من أجل تدشين سفينة الهرب. معنى الانسحاق والزوال كان يستدعي ذلك فعلا، فضجيج الناس وصراعهم وتكالبهم على ماديات ومنافع استهلاكية غير أخلاقية غالبا، كان بدوره أداة لقمع صوت الدرويش حتى وإن كان مرتفعا، فرغم ملحمية الأحداث لكنه لم يكن بطلا ملحميا يجسد معنى البطل القاهر.
لم يكن السارد محتاجا لأن يطبق على روايته مقولة تكلم يا هذا حتى أراك لأن المأساة مكررة وواضحة ولها من الجذور ما يجعلها في قيمة اليقين بالنسبة له؛ إنما هو يصرخ في وجه ضجيج السلبيات التي أتت أعنف وأكثر وأبشع وما كان خفوت صوت الدرويش سوى ضعف، وما كان خفوت صوت (مارتال) سوى خفوت متآمر، وسوسة إذا جاز التعبير، تكشف عن عمق المؤامرة التي تحاك ضد هذا الواقع الذي يسعى السارد لأن يوقظه بصرخته. ربما لست محتاجا لأن أتحدث عن صوت الناس، فلقد بدا لي ضجيجا، مفرداته متداخلة ولكنها تصب في اتجاه واحد، جعلها غير واضحة وخافتة... عبث وتخبط وحيرة... صورة الناس في هذا الواقع مؤلمة وفاجعة، وممارساتهم اغتالت ما يصدرون من أصوات... إيقاع أفعالهم إيقاع متسارع للزوال، تكالب محموم عبرت عنه جمل سردية بعينها وكأنها تلهث مثلهم على ماديات متدنية، ورغم ذاك الضجيج بدا الجمود، بدت أطياف من جو خانق يغلف مستويات الحركة في المكان والتي كانت دائرية في تعبير عن سرمدية المأساة أو تكاد.
إننا لو عدنا لما سبق وأن قلناه عن مسرحة هذا الواقع الذي تم عليه فعل السرد، لأدركنا أن ثنائية الحضور والغياب كانت إرهاصة الفعل الإرادي الذي ينتمي بالكلية للدرغوثي، فخيوط اللعبة السردية ضربت هدفين:
الأول: هدف قريب يرتكز على تغييب متعمد لقدرات العنصر البشري على التغيير، لأن المقام مقام رصد لحالة روائية تنطوي على كارثة تصريحا وتلميحا، مكمن الخروج منها جاء في صورة رؤية استشرافية يكسوها التفاؤل والأمل، تتمثل في مستقبل الطفولة القادمة من بعد حالة السرد وما انطوى عليه من تفاصيل، وهي قد توقفت عند حدود هذا الأمل .
الثاني: هدف بعيد، يرتكز على أهم ما تصبو إليه روح الروائي في بلورة معنى حاسم، يعكس لدوائر التلقي الحقيقة المرعبة التي تقول: إن ما تمنيت أن يصل لكم عبر روايتي الوصف المنصف لهذا الواقع الذي بدا لكم في حكايتي. إننا غائبون غائبون غائبون، وإن الحضور الوحيد المتحقق في هذا السرد هو حضور تراجعكم.
ليست مبالغة إذا اندفعنا وراء الإقرار بغياب الجميع إلا راوي المأساة، وأن مسرح هذا الواقع بلا أبطال في الحقيقة. حتى من يمتلك اليقين تحطم حلمه على صخرة هذا الغياب، فاستحق أن يندثر.
وحضور الفرنسي نفسه كمرموز دال، لم يكن حضورا بقدر ما كان انعكاسا لحضور حضارته التي يحملها في يقينه، وحضور المأساة ممثلة في ذاك الجمع الذي استجاب له، فجعل الحياة في ظل هذا التراجع قميئة ولا تستحق.
أتوقع أن يكون هذا التحليل طعنا في درويش الحكاية، على اعتبار حضوره المكثف بطول الرواية وعرضها. نعم، لكن عن أي حضور نتحدث والرجل يتنفس الفقر. أتى من منفاه ليحيا في منفى أشد قسوة مما كان يظن. يتحرك بمضامين الغرائبية والخرافة، والعجائب، ومع هذا لم يقنع. يحمل بطبيعته آليات الرفض لكل ما يحيط به من تفاصيل. خرج على الناس بثقافته الخاصة فبدا خارجا بعملة ورقية قد تم إلغاؤها من زمن قديم قدم مأساته. إن التماس الفاعل مع الدرويش كمرموز هو بالضرورة انعكاس حقيقي لمدلول أزمة المثقف عموما.
في ظل أجواء على هذه الشاكلة، هل من الممكن استجلاء قيمة الثنائية التي ترتكز على مقولة التأثير. السلبي أو الإيجابي؟
أزعم أن الرواية بكاملها، ودون التورط في نعت مبدعها بشيء من القتام أو امتطاء صهوة جواد الانسحاب الذي جاءت الرواية لتبرره- لا مطلقا- ولكنها رواية ولاشك تمثل احتفالية بكل العناصر السلبية. حسبي إعلانها الصريح عن انكسارنا أمام مفردات طوفان الحضارة الوافدة، بل واستسلامنا لها، وفشل دعاة التغيير إلى حين.
سيكون من نافلة القول ربما إذا سعينا إلى تحليل إشكالية القيمة المعيارية لأدوار الشخصيات داخل متن الرواية، والتي يمكن اختزالها على ثنائية النجاح/ الفشل، وكي نكون مدركين من الوهلة الأولى لقيمة هذه المسألة، قد نحتاج إلى استنطاق الرواية كحقيقة ملموسة تجلس بين أيدينا، وبالشكل الذي يساعدنا إلى حد كبير على معرفة معدل الدرجات التي وضعها الدرغوثي لشخوص روايته والتي جاءت على هامش امتحان كان عسيرا وصعبا.
لكن واسمحوا لي على سبيل الدعابة أن أسأل. هل كان الامتحان تحريريا أم شفويا؟
ربما سيسأل أحدكم وما جدوى الفرق؟ سأقول : إن الرواية كمعنى وكمبنى قد نجحت تحريريا وشفويا في أن تبث من خلال رموزها مجتمعة مأساة العربي نجاحا قد يبدو لي محرضا على الغثيان، وحققت شعورا مؤلما ولاسيما إذا صادفت قارئا استثنائيا وأعني المثقف تحديدا. النجاح يخص بالكلية خالق الحالة الروائية الذي نجح في بث تفاصيل المأساة بهذا الشكل، فكل القصص المجلوبة من التراث التاريخي لهذه الأمة تحركت على مستويات النجاح والفشل وإن بدت المآسي أكثر. وعلى منحى الأسلوبية التي غلفت السرد وجدنا لغة جدا معبرة عن شخوص وأحداث الحكاية. ورغم تماسها مع مضامين سلبية في الحكي ولكنها لم تنزلق لمنحى المبتذل.
إننا لو ذهبنا إلى الوقوف في منطقة البين بين، وهنا أقصد الكاتب والسارد، لوجدنا أن جوهر الامتحان كان متجها لصياغة سؤال جدلي إلى درجة. إذا كانت القضية تتمثل في صراع إرادة يرتكز على يقين الرمزين المتجابهين ( درويش/ مارتال)، فهنا يكمن السؤال.. من المنتصر في نهاية المطاف؟
ربما الآن أستطيع أن أجيب على سؤال ما الفرق بين كون الامتحان تحريريا أو شفويا؟
في معرض الإجابة عن هذا السؤال مؤكد سأفقد الكثير من موضوعيتي إذا قلت: كيف لروائي أن يكون محملا بقضية هي ولاشك قضية مصير، ويستطيع أن يصمم رواية تعرض تفاصيل في غاية الالتباس والشك والغربة والهزيمة، وأن ينسج صراعا، مسألة حسمه ليست بيد أبطاله؟
من الضروري بمكان أن نعترف إننا نقف أمام روائي عبقري، يدرك أن الرواية الآن ليس منوطا بعهدتها أن تمنحنا نهايات مقبولة، بقدر ما تقدم التحريض على أن نعيد اكتشاف عالمنا. وأننا لو أعدنا تنظير وقوفه كمرجعية فكرية بين روحه ككاتب وشغفه بالسرد على هذا النحو الذي رأيناه، لأدركنا من الوهلة الأولى أن قيمة الفعل الروائي كانت تسعى لشيء ربما أبعد من تفجير الرموز واستنطاق دلالتها فيما يخدم النتاج الكلي للنص. إن الامتحان التحريري وهنا أقصد بنيات وتمفصلات النص الروائي كأدوات للتعبير عن فواجع هذه الأمة وما يحدث فيها من تداعيات، مع الاعتراف بكونها رموزا لم تكن بالضرورة رموزا عصية على الفهم والتحليل ومن ثم استنطاق قيمها الدلالية، بل يجوز لنا أن نربط بين تفاصيل السرد وكأنه إلى حد كبير تقرير إخباري تعرضه أحدى الفضائيات، أشتد ساعد الرواي في صياغته رمزا حرصا على أصحاب القلوب الضعيفة، الذين يشاهدون تفاصيل مذبحتهم بأمهات عيونهم يوميا.
بينما ظل الاختبار الشفوي ابنا شرعيا للخرس، خرس الوقائع وخرس الدهشة التي تتابع تفاصيل ما يحدث وهنا سنقف أمام الرواية ولاسيما الفصلين الأخيرين منها، لنتأكد من أن الاتكاء على الرمز لم يغتل العفوية التي بدت في قمة البهاء كما أنه استطاع بث أزمة كارثية بكل ما تحمل الكلمة من معنى.
إن ثنائية الصراع إذا ظلت للنهاية تتمحور على( درويش/ مارتال) لما تمكنا من استكشاف قيمة الكاتب كروائي استثنائي يريد أن يضفي بعدا جديدا لمأساة قد تبدو مكررة، دار بها التاريخ الأممي، ولم ينفك من عظيم أثرها في كل مراحله.
إن الثلث الأخير، بل ربما الثلث إلا قليلا، هو ذاته الذي أنطلق منه لتوصيف الدرغوثي كعبقرية روائية، لأننا في هذا الجزء تحديدا سنجد تنظيرا جديدا لفعل الحكي، يخص هذه النوعية من الكتابات، بل وسنجد أعادة نظر جديدة لمفهوم الأداء اللساني داخل لغة السرد، كي تتحقق ذاتيته الخاصة بعيدا عن الخطابات السردية القادمة من التاريخ أو المُطعمة ببعضه والتي بدأ منها نصه.
إن الرواية في بدايتها كانت لتجريب الرمز المستغلق نسبيا( درويش يمد رجليه تحت قدر والنار تحرق قدميه) وظل هذا الرمز للنهاية يواجهنا كحقيقة تريد الخلاص، مرة على محك الدلالة، ومرة على محك وجوده كحقيقة سردية قالها النص، وامتدت عبر الأحداث إلى حين.
كان منطق تفجير الرموز فيما بعد محايدا ورحيما، ولم نشعر بالجهد أو المعاناة في التعرف على المعنى والمضامين واكتشاف حجمها التأثيري. بل كانت ميكانيزمات السرد التي أُنتج فيها هي الضامن على مشروعية ما نصل إليه من دلالات. إنتاج ينأى بنفسه عن عشوائية التحليل، بل أزعم إننا لم نمارس حدوسا استثنائية كي ندرك مضامين الرموز ودلالتها.
وحين بدأ الصراع بين الرمزين( درويش/ مارتال) أدرك الدرغوثي بروح روائي محترف أن النص ربما سينزلق في مهاوي الاعتيادية، وعلى الدرجة نفسها لم يشأ أن يتجاوزه لأن هذا بدوره ربما سيساعد في اغتيال الحكاية ذاتها، وهو لا يريد أن يلغي حقيقته الأبرز كراو للأحداث، من هنا اضطرت سفينة السرد أن ترسو عند مرفأ الرمزين كطبائع وظيفية تمارس أدوارا تبلور أصل الحكاية( نهار فيه الدرويش يتلمس فعل الإيقاظ للقرية) و( ليل مارتال حيث المؤامرات والمجون). من هنا أدعو من قرأ أو يقرأ هذه الرواية أن يتلمس تلك المظاهرة السميائية التي ارتكزت أبعادها على محاور أربعة.
* جمل سردية وصفية لا تتطلب مجهودا لاستنباط دلالاتها.
* جمل سردية إخبارية لنتائج باب السؤال عن أسبابها موصد، ليس بسبب وجود تعتيم مقصود ولكن لكونها تأصيلا عاما لظواهر اجتماعية أفرزها النص كحقائق مجردة.
* غياب المرجعية وسطوة نسق السرد في إطار القشور لواقع تتبدى مظاهر ثقافته فيما يظهر من أفعال البشر كانعكاس لطرح (مارتال) وليس من منطلق ثقافة تخصه.
*اختفاء فرضية التوقف القدري أو الإرادي لأحداث الأنساق المسرودة أو مجرد التفكير فيه، والذي عبر عنه بجلاء سطوة غير عادية للفعل المضارع الدال على الاستمرار، رغم أن السرد معظمه من الخارج.
استنادا إلى هذه المحاور سنجد أن الدرغوثي كان واعيا لحقيقة سميائية مفادها: إن وعيه كان يرى أن ثمة فرقا واضحا بين الممارسات اللسانية والكلام ذاته. بمعنى أن الضرورة الروائية كانت تستوجب الطواف بالسرد من منطلق أنساق للغة أفرزها اللسان، وليس من خلال تأليف إرادي لأحداث الرواية، على اعتبار أن الممارسات اللسانية في حقيقتها تنتمي لمنظومة اجتماعية على درجة من الثبات( سمة متحققة واقعيا داخل المتن الروائي) بينما يبقى فعل التأليف فعلا إراديا متحررا من سطوة النسق ولو حاولنا تطبيق هذه المقولة على منحى مستويات الوصف ذاتها والتي تحمل الجملة الروائية مسئوليتها، لرأينا أنها بالتبعية مستندة على حقائق لسانية، فلقد أنجزت الجملة على هذا المحك قيمتها الدلالية والصوتية.
{وجمال مذبوحة.
وجمال مذبوحة.
ويفوح الشواء ..
شواء لحم الرجال.
عذرا مرة أخرى ... جعلني الوزن أغلط .
أقصد : فاح شواء لحم الجمال}
ولكنها نجحت باقتدار في أن تفصم عرى الصداقة مع بنيات السرد المُهجن أو الشواهد التاريخية داخل السياق المسرود.
إننا لو أوقفنا أنفسنا أمام هذا المدخل لأدركنا حقيقة رؤية الراوي للقيمة الوظيفية لأحداث التاريخ داخل البناء الروائي، فلم يكن التاريخ حاضرا كمجرد شواهد تبرر حاضر الفعل الروائي وما ينطوي عليه من أحداث، ولم يكن لإنعاش ذاكرة التلقي، رغم أحقية التاريخ بهذا الدور، وإنما وروده داخل هذه السياقات هو ولاشك قدح لسطحية النظرة للموروث التاريخي ذاته، في إشارة جدا معبرة عن عجزنا عن تبرير التاريخ أو محاكمته، وبالتالي الإشارة إلى عجز آخر يتجه إلى تأكيد يقين الراوي في عدم جاهزية الناس لأن تستخلص منه العبرة. لذا لم نجد سياقا تاريخيا وفي أعقابه سياق يحمل وجهة نظر فيه. بل وجدنا أن السياق التاريخي نفسه قد بدا وكأنه ممارسة لسانية هو الآخر، وليس نسقا تأليفيا يعرض الحدث ومفاصله وتعليقا من الراوي عليه.
ربما من سيقرأ هذه الحديث سيتخذ منه تكأة لأن ينعت الراوي بأنه قد راح في سرده مدعوما بيقين الممارسة اللسانية- إذا صحت رؤيتي- نائيا بنفسه عن الكلام كنسق تأليفي منتم له. وهذا للحق مردود عليه.
وسنضطر قبل الطعن في هذا الظن أن نجيب على سؤال البعد الشفوي في اختبار الرواية. لقد قلت منذ قليل: إن الحالة الروائية قد نجحت تحريريا في بسط الفكرة الرئيسية التي تعتمل في وجدان خالقها. ولكنها على المنحى الشفوي ورغم سيطرة الأداء اللساني على سياقاتها السردية ولكنها نجحت نجاحا بطعم الفشل، والسبب قالته (نمرة) في باب كامل بتوقيعها. فكل ما قيل على مستويات المعالجة اللسانية لأنساق السرد، جاءت هي في هذا الفصل لتدلل على مشروعية وجودها كرمز للأرض العربية التي تبحث عن مخلص، لتثبت من خلاله أن كل السابق لهذا المونولوج البديع الذي جاء في خواتيم الرواية وكأنه رد عملي على ديماجوجية كل منطق تحدث عن نفسه، سواء(مارتال) أو حتى( درويش) الذي فشل بدوره في إقناعها بأحقيته فيها، كمحب يريد استخلاصها لنفسه. فمازال في يقينها هو ذلك العربي الذي لم يراجع معطيات التغيير، ولم يستطع أن يجابه هذه الحضارة الوافدة التي تريد ابتلاعه. جاء بآليات ومرجعيات إن لم تكن بالية فهي على الأقل غير متسقة مع وقائع الحياة الراهنة.
أنا الجميلة دوما.
العاشقة دوما.
المعشوقة دوما.
أنا الحبلي بكل ما تشتهي الأنفس و تلذ الأعين.
أنا التي تعطي و لا تمنن.
أنا التي تجوع و لا تشتكي.
أنا التي...( عفوا لن أقول كل شيء ).
ولا يفوتنا أن نذكر في هذا المنعطف أن القطيعة بين الكاتب والراوي في سياق هذا المونولوج لم تكن حادة، بل على العكس، فقد اقتربت فيه الوشائج بشكل مخيف، لم يكن درغوثي من خلالها سوى المعبر الحقيقي عن أزمته التي هي أزمة كل المثقفين... يحاكمهم ويحاكم نفسه معهم.
لذا سأرد على من يطعن في لغة السرد التي سارت على لسانيات العوام فأقول:
إن التمركز على هذا المستوى لم يكن إيهاما بالواقعية كما يظن مبدئيا البعض، ولم تكن للتدليل على الخط الأساسي لرجل يسرد ما يُملى عليه. إن هذين التفسيرين ظالمين لو نتخذهما مدخلا لمعرفة السبب، بل أقولها متحملا في هذا أي انتقاد وحتى لو كان الدرغوثي- جدلا- لم يكن يقصده. إن استخدام لغة سردية تستند على تأليف لم تكن هدفا يسعى إليه السارد، فلا التاريخ كحقيقة مرجعية يتحمل أن يُمارس فيه نسق تأليفي يعطي دلالات إضافية لأحداثه( حتى الآن على الأقل) ولا الواقع القائم عليه السرد يمنح الراوي صلاحيات التأليف عليه من فرط تبعثره وتشظيه، ومناخ الحيرة الذي يغلف حركته. وحتى لو قمنا بمحاكمة شخوصه سميائيا لأن اللغة قد أنجزت دورها على هذا المنحى، فإننا سنجد أن هؤلاء الشخوص إذا سلمنا بأنهم ذوات ممكنة تم خلقها في إطار موضوع، لكنها بالضرورة لم تكن ذوات محققة لأهدافها داخل البناء السردي. شخوص لم توكل لها أية مهمة( على الأقل في هذا النص) بل إننا على مستوى سميائية الأسلوب يمكننا الإقرار بإرهاصة الراوي الذي فطن لهذا فجعل من السمة اللسانية تأكيدا جدا حاسما لمفهوم التعادلية في متن الرواية. الأمر الذي بدا ظاهرا لغياب ذلك التضافر بين عناصر التفاعل بين الشخصيات والمهام. غياب مبرر نظرا لمرجعية الحالة التي تسيطر على خالق النص. لذا تراجع نسق التأليف لحساب الممارسات اللسانية( حكي أو وصف مسرد) في تأكيد لغياب أي ظواهر عميقة تستحق الرصد والتحليل.
ومضات
مما لاشك فيه أن هذه النوعية من الروايات تبقى اللغة فيها صولجان السارد. فالحركة الروائية رغم دائريتها، والتفاعل المحدود والمحتوم بين العناصر يحتاج بالفعل إلى لغة تبني أنساق سردية ذات طبيعة دلالية تجسد المعنى وتضفي المزيد من السخرية والتهكم والغرائبية.
اللعب بإيقاع الجملة السردية ذاته، والذي بدا كتجسيد للحركة البطيئة نسبيا، سرعان ما بدأ في اللهاث من أجل تكثيف معنى الانهيار والنهاية وكذلك الدوران حول المزج الواضح بين الأساليب الحديثة والمستجلبة من التراث مع التصرف في بعض أجزائها بنية إحداث صدمة من نوع ما للذاكرة لخلق شعور معين بالقلق الصادم.
لست أدري تحديدا إلى أي اتجاه من الممكن أن يُنسب أسلوب الدرغوثي على محك القيم الجمالية الأسلوبية التي يندرج تحتها نسق السرد. فالرجل على زعمي لديه حساسية خاصة في التعامل مع النسق الاستعاري، بل هو يبدو زاهدا فيه. ربما في هذه الرواية تحديدا رأى أن اختزال قيم اللغة المسرودة في المشابهة والتجاور والمماثلة ليس مكانها سرد بهذا الطابع، لكنه في كل الأحوال لم ينفك عن تعاطي المعالجة الكنائية التي تأتي بالمعاني المستخلصة مع إقامة الدليل عليها.
في حقيقة الأمر، نجحت الرواية باقتدار في أن تعبر عن نفسها وعن صاحبها كتجسيد لحالة نضج رؤيوي وتقني في صياغة أطروحتها بقدر كبير من التفرد. بلورت في صدق لم يكن مجانيا أبدا حقيقة الصراع بين المثقف ومجتمعه المتجمد. هي ربما تنازلت عن منطق الحبكة بمفهومه التقليدي، ولكنها نفذت درامية الصراع في حدود المخطط لها سلفا من الكاتب. بل يمكن القول إن آليات التعامل مع منطق الحبكة كانت بالضرورة متوترة تعكس توتر الحالة برمتها: الدرويش ومنظومة انفعالاته المصحوب دوما بالغضب والامتعاض، و(مرتال) المتوجس والخائف والمتوثب.
اللافت للنظر في هذا النص الروائي ما يمكن تسميته هندسة النص. فطبيعة الحكاية رغم ضيق الأفق المكاني القائم عليه فعل السرد، كان يُفتح بقرار في الغالب، ومن زوايا رؤية أفقية تستوعب الحالة المراد وصفها سرديا. وفي صورة كادرات مشهدية، تم باحترافية عمل المونتاج لها، حتى على مستوى الانتقال من الماضي البعيد أو القريب إلى حاضر اللحظة، لم يكن سوى بحركة إصبع كالتي يلجأ لها عازف البيانو الماهر، فلا نشعر من فرط التمكن أنه قد قام بتحويل المقام.
قمت بعمل تلخيص محتمل لهذه الرواية، وملأت بعض الفراغات بتوضيح مضامين الرموز كي تكتمل الصورة وعرضتها على صديق أثق في ذائقته، وسألته سؤالا محددا.. تُرى ماذا سيكون شكل هذه الرواية بدون الدرويش ومارتال الفرنسي؟
جاءت إجابته صادمة نوعا، وقال: إن الاثنين هما عصب الحدوتة، لكن كان من الممكن أن يتحايل ب "تكنيك" مختلف. هو ربما راهن على سلبية القارئ في التعامل مع مضمون الحكاية بدونهما، فجاءت على هذا النحو.
بالفعل تعاطفت مع شطر الإجابة الأول، لكنني ربما أبديت الكثير من التحفظ على فكرة التحايل بتقنية مختلفة أو الرهان على سلبية القارئ وعدم فهمه. فمن المؤكد أن عمق المأساة هو الذي فرض هذه الصياغة أو ربما السياق التاريخي الذي كان في زمن مخاض الرواية هو الذي استدعى أن تكون هيكلة الرواية على رمزين واضحين وحاضرين لطعن الذاكرة الجمعية المعنية بالنص الروائي، وتأجج مفهوم صراع الحضارات التي تزامن مع حرب الخليج الثانية.
لهذه الرواية موقف غريب، فلقد كنت أظنها معي في حقيبتي. وحين هممت بإخراجها كي استهلك معها بعض الوقت في ركن المدخنين في مطار قرطاج. وجدتها رواية أخرى، وانتابني شعور غصة أني نسيتها وخصوصا أنني كتبت مقدمة عنها بالفعل. لكن حين وجدتها على الإنترنت فرحت جدا. وأدركت أن لهذه الرواية غواية من نوع خاص.
اعترف بالصدق كله، وحسبي إنني أقرأ هذه الرواية وأنا خارج حظيرة هذا الإبداع، أن كل ما كتبته هو ولاشك انطباعي إلى حد كبير. ذائقتي حدثتني به فكتبته. لذا سأكرر ما قلته مرارا : للنقد رجال، أنا لستُ واحدا منهم، وليس تواضعا ورب الكعبة. لذا سأشعر بغصة إذا لم تكن هذه الكلمات دعوة لقراءات ممكنة لروايات وروائي يستحقان بالفعل، تكون أكثر تركيزا ونضجا مما حاولت هنا. وفي كل الأحوال ورغم كم المرارات التي شعرت بها وأنا أتابع هذا النص سطرا سطرا، أنا على يقين من أنني استمتعت فعلا بروائي، القراءة له مضمونة الربح.

حسام حسين عبد العزيز

إبراهيم درغوثي والتّأسيس الجديد للسّرد المهجّن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى