فاروق شوشة - ‏أحمد محمود مبارك..

عندما صدر للشاعر أحمد محمود مبارك ديوانه في انتظار الشمس عام‏1991,‏ ضمن سلسلة إشراقات أدبية‏,‏ كان صوت شعري سكندري جديد يتشكل معلنا عن بدياته المقتحمة‏,‏ متملكا لأدواته‏,‏ محكما سيطرته علي معمار قصيدته وتشكيلها البنائي والموسيقي‏,‏ واختار المشرفون علي إصدار السلسلة الشاعر السكندري الكبير ـ الراحل ـ عبدالعليم عيسي لتقديم الديوان وكتابة دراسة عنه‏,‏ باعتباره الأكثر دراية والأكثر قربا من شعراء الإسكندرية‏,‏ وقد نجح في اكتشاف المدخل الصحيح للتعامل مع شعر أحمد مبارك حين وضع يده علي مفتاح الغربة في قصائد الديوان‏,‏ وفي التوجه الإنساني والروحي للشاعر‏,‏ الذي سبق له التخرج في كلية الحقوق بجامعة الإسكندرية‏,‏ ونشر شعره في كثير من الصحف والمجلات الأدبية المصرية والعربية‏,‏ خاصة مجلة إبداع إبان رئاسة تحرير الناقد الكبير الدكتور عبدالقادر القط لها‏,‏ مما اعتبر شهادة نقدية لهذه القصائد‏,‏ ولم يكن القباني بعيدا عن الصواب عندما أشار الي اغتراب الشاعر عن الوطن‏,‏ سعيا وراء العمل في بعض الأقطار العربية‏,‏ شأنه شأن كثير من الذين اضطرتهم ظروف الحياة الي الرحيل‏,‏ ممن أطلق عليهم تسمية الطيور المهاجرة‏,‏ كثير منهم تعرض لصنوف شتي من المهانة‏,‏ وآخرون فقدوا صحتهم وحماسهم للحياة‏,‏ والبعض ـ والشاعر من هذا البعض ـ آثر أن يعود محتفظا ببقية من ذماء نفسه‏,‏ وجوهرة موهبته‏,‏ وقدرته علي مواصلة السعي والكفاح ولكن في وطنه وبين أهله وعشيرته وقومه‏.‏

قصائد أحمد محمود مبارك ـ الشاعر الصافي كالنسيم‏,‏ الخفيض الصوت والإيماء كأمسيات الإسكندرية الوادعة الهادئة‏,‏ الذي لا يجيد الإعلان عن نفسه أو اقتحام المناسبات والملتقيات‏,‏ وفرض ذاته علي الآخرين ـ قصائده تحتل في ديوان الشعر السكندري مكانا خاصا‏,‏ وتحمل مذاقا متميزا‏,‏ وتنطق بحضور شعري مغاير لشخصية الشاعر الساكنة الوادعة‏,‏ محورها جميعا النفس البشرية أو النفس الإنسانية‏,‏ في تجلياتها الحزينة والمنسحبة والمحبطة والمرتبكة‏,‏ وفي محاولاتها الدائبة لكسر الدائرة المحكمة بسلاح الحزن الغاضب حينا‏,‏ والساخر أحيانا أخري‏,‏ ولأنه مرهف الإحساس الي الدرجة التي تؤذيه في أحواله الصحية والنفسية‏,‏ معرض لإنكار الآخرين وجحودهم‏,‏ وتقلب من ظنهم رفاق الطريق المستحقين لصداقته ومودته‏,‏ فإن طعناتهم ـ غير المتوقعة ـ تجعله ينزف في كبرياء جريح وهو يقول‏:‏

أسبغت ومضي علي بيداء ظلمته
فأورقت ظلمة البيداء نوارا
وصار نبض عروقي حين رق له
في صمته المكتسي بالحزن أوتارا
بثت لحون الهنا والود مشفقة
وأطلقت في يباب الأفق أقمارا
وفاض نبع حنوي حين مد له
فم الصدي برحيق الحب مدرارا
أواه ياقلبي المجروح كيف غدت
يد توليتها بالعطف أظفارا

وكيف تلقي ليال زانها قمري علي دروبي غيمات‏,‏ وأكدارا
يا للنسيم الذي أسبغته أرجا
وأرسلته ضلوع الود معطارا
اليوم يعول في أفقي ويحرقني
فحيحه‏,‏ ويخيل الأفق إعصارا
وذا دمي في زهور حين تبصرني
تشيح عن مقلتي كبرا وإنكارا

لابد أن نتوقع أن نجد في شعر أحمد مبارك ما نجده عادة في شعر شعراء الإسكندرية‏,‏ من افتنان وولع بمدينتهم الجميلة‏,‏ وعشق يقترب من الذوبان والحلول الصوفي صورا ومعالم وأجواء وملامح ورملا وبحرا وشطأنا‏,‏ ومجالي وروائح وفنارا وسفنا وبحارة وصيادين‏,‏ في المستوي المنظور والملموس‏,‏ وابحارا حضاريا واهتزازا وجوديا ووجودا ميتافيزيقيا في المستوي المتخيل والمفقود والموهوم‏,‏ وبين المستويين تتفاوت أقدار الشعراء اقترابا وابتعادا عن كيمياء الإبداع ووهجه الحقيقي‏,‏ وفي هذا الإطار تقترب قصائد شاعرنا من قصائد رفاقه ومجايليه خاصة قصائد أحمد فضل شبلول‏,‏ الذي تعرض لما تعرض له من اغتراب وافتقاد للإسكندرية‏,‏ متكأ ومأوي وملاذا طوال سنوات‏,‏ هما متقاربان في البدايات‏,‏ متباعدان جدا في مجموعاتهما الشعرية الأخيرة‏,‏ والمسار الشعري الذي أوغل فيه كل منهما‏,‏ المسافة واسعة جدا بين قصيدتهما في السبعينيات ومطالع الثمانينيات‏,‏ وقصيدة كل منهما الآن‏,‏ روحا ولغة وبناء وتوجها وارتطاما بمفردات العصر وتقدمه التكنولوجي‏,‏ وقد نجا شبلول من الولع بموسيقي بحر البسيط الذي يتعشقه أحمد مبارك‏,‏ والذي نجد نماذجه في جميع دواوينه‏:‏ تداعيات‏,‏ في انتظار الشمس‏,‏ في ظلال الهنا‏,‏ نبضات وألوان‏,‏ وأكثر ما نجد قصائد بحر البسيط في ديوان في انتظار الشمس‏,‏ ست قصائد لعلها أكثر قصائد الديوان إحكاما وجمالا وقوة بناء‏,‏ وهي ظاهرة تذكرنا بشعر شاعر الإسكندرية الكبير الراحل عبدالمنعم الأنصاري‏,‏ الذي أشاع موسيقي هذا البحر الشعري في العديد من قصائده‏,‏ بعد أن اكتشف ـ بدربته وخبرته الشعرية ـ الأدائية ـ مؤازرة موسيقاه للإنشاء الشعري بطريقة تفوق موسيقي البحور الشعرية الأخري‏,‏ وقد أخذ عنه كثير من مريديه وحوارييه وتلامذته في الشعر هذا الولع ببحر البسيط‏,‏ والنموذج السابق لأحمد مبارك في هذا المقال تأكيد لهذه الظاهرة في شهره‏,‏ وهي ظاهرة تؤكدها ظاهرة ثانية عي تفوق أحمد مبارك في القالب العمودي وإحكام بنائه‏,‏ وصنعته الشعرية وزخم لغته‏,‏ وامتداد نفسه الشعري وجيشانه‏,‏ مما يعطي لقصيدته العمودي مكانة متميزة في مسار إبداعه الشعري‏,‏ وإن كان هذا الحكم الذي يستند الي انطباع خاص يتسع بالضرورة لنماذج من قصيدة الشعر الجديد أو شعر التفعيلة‏,‏ حققت درجة عالية من التوتر والتدفق والإحكام‏,‏ كما في قصيدته تراب الوطن‏,‏ التي يقول فيها وهو يشارف ختام رحلته السندبادية‏:‏

مضي السرب
عاد إلي موطنه
وكل غريب أصابته رعشة هذا الصقيع‏..‏ ارتحل
وأنت هنا لم تزل
وحيدا ترفرف
فوق المياه وفوق الديار
وفوق الشجر
ولا تستقر

‏.........‏
أيا طائري‏..‏
أي سر بعينيك قد حال دون السفر
ثلوج المطر
تذيب الحنان بحضن الغصون
فكيف يهون عليك الوطن؟

‏.........‏
هنا‏,‏ إن بقيت‏,‏ فلا مستقر
ومهما التحفت
فكل الليالي رياح وقر
فلن تستكن بصدر دفيء
لحاف الغريب هواء
لباس الغريب عراء
حصاد الغريب حفاء
وكسب الغريب‏..‏ خسائر
ولو ألف طائر
أحاطوك بالود‏,‏
لن يمنحوك الصباح الهنيء
ولن يوقدوا لك ليل السمر
فبادر‏..‏ وطر‏!‏

صورة الطائر تلح علي الشاعر في العديد من قصائده‏,‏ وهو يقول في القصيدة الثانية من قصائد ديوانه في انتظار الشمس‏:‏ حكاية طائر‏:‏

طائرنا لم يهو علي الأرض
رغم الثلج
وقد عشش في رئتيه
وأطفأ وقد النبض
في ختامها يقول‏:‏
هل وقع الطائر؟
حين تجمد في أحضان الثلج الطاهر
مغتسلا بالألق الساري
في علياء
أسألكم‏:‏
هل وقع الطائر؟

يقول عبدالعليم القباني في تعليقه النقدي علي هذه القصيدة‏,‏ ضمن دراسته المصاحبة للديوان‏:‏ قصة الطائر هنا تمثل العزيمة والكفاح والصمود‏,‏ حتي ليمكن اعتبار موته عندما ينتهي هذا السعي‏,‏ هو قمة الحياة‏,‏ إن الطائر في رحلته هذه يمثل أنقي حالات الطهر المتكبر علي الرجس‏,‏ الصامد في صراعه مع الشر الذي يحيط به‏,‏ في رحلته الشاقة المتعبة‏,‏ وهو بالرغم مما يلاقيه فيها من العذاب لم يضطرب إيمانه‏,‏ بل ظل مستمسكا بمثله العليا حتي انتهت الرحلة بموته وهو في قمة صراعه‏,‏ فلم يحس بهذه النقلة إذ أصبح حلقة من حلقات الوجود ذاته‏,‏ لقد انتهت رحلة الطائر بموته‏,‏ وتجمد جسده‏,‏ ولكن الشاعر يستنكر أن يقال عنه إنه وقع فإنه يراه أكبر من هذا المصير الواضح الرخيص‏,‏ ولذلك راح يردد سؤاله الاستنكاري‏:‏

أسألكم‏..‏
هل وقع الطائر؟

من أجمل الآثار الشعرية للشاعر السكندرري أحمد محمود مبارك قصيدة اللباب في ديوانه في ظلال الرضا‏,‏ كلماتها ليست بحاجة الي تقديم أو توطئة‏,‏ فهي تقدم نفسها بنفسها‏,‏ وتكشف في تلقائية عذبة عن أغوارها وإيحاءاتها‏:‏

يا أيها الشيخ الذي في عمر جدي
كيف في هذا المساء الموحش الحزين
تطلق ابتساماتك أنغاما وأقمارا؟
ياجدي السعيد قل لي‏:‏
كيف والسنون قد تكالبت عليك
دونت في هذه الغصون
زكريات كرها
وامتصت الرحيق والثمارا
وكيف تبعث الشذا
وما يضم غصنك القاحل أزهارا؟
وكيف من هذي الشفاه الذابلات
ترسل الطيور شدوها
هل تعشق البلابل القفارا؟
وكيف يا أبا أبي
بالرغم من عودي الصبي
تعتصر الأحزان قلبي اعتصارا؟

‏......‏
أجابه الجد الحنون‏,‏ والجبين
ـ رغم أسطر الغضون ـ هالة
تنشر في مهامه الليل النهارا‏:‏
طوال عمري الطويل ياصديقي الصغير
لا أري‏..‏
في رحم الظلام غير بسمة السنا
وكنت إن دنا
من دوحتي الخريف وانبري
يجعد الإهاب
ينزع الثمار
يطفيء الندي
أروي اللباب
من ينابيع الهدي
فينتشي القلب اخضرارا
فما اندهاش صاحبي الصغير
إذ ظل اللباب
رغم سبعين خريفا
ينشر الأقمار في الدجي
ويرسل الشذي
ويطلق الأطيارا

هذه القصيدة البديعة شهادة علي الإنسانية الغامرة‏,‏ التي تملأ وجدان شاعرنا‏,‏ وعلي مجال إبداعه الأثير الذي لا يمل من الغناء له والدوران حوله واستلهامه‏:‏ مجال النفس الإنسانية في تخومها وأعماقها ودهاليزها الرحبة والضيقة‏,‏ القريبة والبعيدة‏,‏ وهي أيضا حوار كاشف بين جيلين يلخص فلسفة العمر الطويل‏,‏ وصولا إلي الجوهر واللباب الذي جعل منه الشاعر عنوان قصيدته‏,‏ وفناره في بحرالحياة المتلاطم من حوله‏,‏ ودليله إلي قلوب المتلقين من قراء شعره‏,‏ الذين يفسحون له المكان والمكانة اللائقين به في ديوان شعرنا المعاصر‏.‏

*..* الكتاب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى