أدب السجون سعود قبيلات - ليلة العيد الأولى لي في سجن المحطّة..

أسير في الشارع، في وسط «البلد» في عمَّان، ليلة عيد الفطر، فاسمع مِنْ بعض محلّات الـﭭـيديو صوت أمّ كلثوم وهي تردِّد: الليلة عيد.. ع الدنيا سعيد..

بالمناسبة، كنتُ في صباي مهووساً بغناء أمّ كلثوم، فكنتُ أستطيع أنْ أعرف اسم الأغنية واسم ملحّنها وكاتب كلماتها ما إنْ أسمع مطلع أيّ مقطعٍ منها.

ومِنْ خبرة الماضي القديم هذه، قلتُ لنفسي بثقة: ملحِّن هذه الأغنية هو الشيخ زكريا أحمد، وكاتب كلماتها هو بيرم التونسيّ. وهذا المقطع مِنْ أغنية حبّ رومانسيّة جدّاً، اسمها «حبيبي يسعد أوقاته» ولا علاقة لها بالعيد بمعناه المحدود الضيِّق.

ولكن، ليس هذا هو الموضوع..

الموضوع هو عيدنا هذا..

فهل هو سعيد؟

هل يمكن أنْ يكون كذلك وبلادنا تقف على حافّة هاوية؟

هل يمكن له أنْ يكون كذلك وبعضنا لا يملك إلا أنْ يتساءل حائراً: إلى أين البلد ذاهبة؟

هل يمكن أنْ يكون كذلك وعدد مِنْ خيرة أبناء بلدنا وشعبنا في السجون بسبب كلمةٍ قالوها أو رأيٍ أعربوا عنه؟

أتوقَّف هنا، وأنا لا أملك إلا أنْ أفكِّر في هؤلاء المعتقلين وأُسَرهم وكيف يستقبلون العيد؟

بعض هذه الأسر، ابنها المعتقل هو معيلها الوحيد، وأكثرهم يعيش بالحدّ الأدنى من الدخل. ومع ذلك، فكراماتهم سقفها السماء، كما أنَّها لا تُشتَرى ولا تُباع بالنقود، وتهون دونها الأرواح. وفي كلّ الأحوال، كراماتهم أعلى بكثير مِنْ كرامات عصابة الفساد والاستبداد التي كانت وراء قرارات زجِّهم في السجون.

الليلة عيد..

وأتذكَّر، هنا، أوَّل ليلة عيد مرَّت عليَّ في سجن المحطّة، وكنتُ - آنذاك – لا أزال شابّاً فتيّاً..

أتذكَّر أنَّني، في تلك الليلة، كنتُ واقفاً عند باب غرفتي في السجن وأنظر مِنْ خلال القضبان إلى حيّ الزغاتيت في الجهة المقابلة. وفي أثناء ذلك، كنتُ أسمع مِنْ بعيد صوت أمّ كلثوم وهي تردّد: الليلة عيد.. ع الدنيا سعيد..

وبينما أنا كذلك، جاء المأمور (الشرطيّ المناوب داخل «الشبك». و«الشبك» هو اسم كلّ قسم مِنْ أقسام السجن آنذاك)، ووقف أمام الباب وشرعنا نتسلّى بالحديث. لقد كان شابّاً فتيّاً في مثل عمري، فما لبث أنْ راح يحدِّثني عن شعوره بالأسى لأنَّ هذه أوَّل ليلة عيد في حياته لا يمضيها مع أسرته التي تقيم في محافظة بعيدة. فرحتُ أواسيه وأحاول تهوين الأمر عليه قائلاً له إنَّ مناوبته سرعان ما ستنتهي وإنَّه سيذهب بعدها إلى أسرته ويلحق شيئاً من العيد معها.

وما لبث أنْ ذهب ليتجوّل في باقي أرجاء «الشبك»، وعُدتُ أنا إلى «بُرشي» («البُرش» كان اسم فراش السجن) وجلستُ عليه، فتذكَّرتُ أنَّني أنا أيضاً هذه هي ليلة العيد الأولى التي أقضيها بعيداً عن أسرتي.. فكيف غاب هذا عن بالي؟!

لم أقل هذا وأنا أرثي لنفسي؛ فوجودي في السجن – كما كان يزعم مَنْ وضعني فيه – كان بـ«إرادتيّ».. إذ كان المطلوب منِّي بضع كلماتٍ أوقِّع أسفلها فأخرج من السجن. كان نصّ تلك الكلمات – كما هو معروف – هو ما يلي:

«أنا فلان الفلاني، أُعلن براءتي من الحزب الشيوعيّ المحظور واستنكاري لمبادئه الهدّامة وولائي لجلالة الملك وحكومته الرشيدة».

لكنَّني لم أنطقها ولم أكتبها ولم أوقّعها؛ والمسألة ليست مسألة مبدأ فقط؛ بل هي أيضاً مسألة كرامة. المسألة تتعلَّق بـ: إلى أيّ حدّ سأحترم نفسي بعد ذلك، وإلى أيّ حدّ سأكون متصالحاً مع نفسي، وإلى أيّ حدّ سأشعر بإنسانيّتي وبأنَّني حُرّ.

ولذلك، فضَّلتُ أنْ أُحوَّلَ إلى المحكمة العسكريّة ولا أوقِّع تلك الورقة. وقال لي رئيس المحكمة، القاضي العسكريّ غالب سليمان، في سياق نطقه بالحكم: قرَّرنا الحكم عليك بالسجن خمس سنوات.. بسبب نشافة رأسك!

وخلال السنوات الخمس تلك، صدر أكثر مِنْ «عفو ملكيّ»، فلم يشملني أيٌّ منها، إلى أنْ جاء اليوم المحدَّد لانتهاء مدَّة سجني، فخرجتُ من السجن. وهذا سبق أنْ فصَّلته في موضوع آخر، قبل مدّة.

وفي ليلة العيد هذه، وبينما أنا أتجوّل في «البلد»، وأسمع صوت أم كلثوم يردِّد: «الليلة عيد.. ع الدنيا سعيد».. تذكَّرتُ ذلك المشهد القديم الذي عشته، وتذكّرتُ الشباب الأردنيين الوطنيين المسجونين الآن على كلمة حرّة قالوها! ففكَّرتُ بأنَّه في ظلّ هذا النظام قد يُسجَنُ الإنسان على كلمة يقولها، وقد يُسجَن على كلمة يرفض أنْ يقولها.. لا فرق.

«اللي إلو عادة ما بيغيِّرها».. كما يقول المثل الشعبي. وهذا النظام، منذ مائة سنة وهو يزجّ بالأحرار في السجون على كلمة. مَنْ لا يصدِّق، فليرجع إلى «الكتاب الأسود في القضيّة الأردنيّة العربيّة» الذي كان في البداية على شكل رسالة وجَّهتها «اللجنة التنفيذيّة للمؤتمر الوطنيّ الأردنيّ» إلى «عصبة الأمم المتّحدة»، ثمَّ صدرتْ على شكل كتاب عن دار الأيتام في القدس في العام 1929.

وما بين ذلك التاريخ وهذا التاريخ، توالت وتتوالى مواكب الأحرار على السجون، ويتواصل التضييق عليهم واستبعادهم وتهميشهم وعزل |صواتهم.

وطوال هذه المدّة، دأب النظام على المطابقة بين الولاء له وبين الولاء للوطن والدولة؛ الأمر الذي أنتج ما أسمِّيه «الانتخاب الطبيعيّ المعكوس» في هياكل الدولة. وبالنتيجة، ظلَّ وضع الدولة يتردَّى إلى أنْ بلغت حالها البائس الذي نشهده الآن..

أقول قولي هذا..

وكلّ قمع وأنتم بخير.


سعود قبيلات

-..- الحوار المتمدن-العدد: 6258 - 2019 / 6 / 12 - 10:11

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى