محمد شداد الحراق - التجريب والذاكرة الجمالية

كان تاريخ القصيدة العربية سلسلة من المحطات الشاهدة على الرغبة في التخلص من التكرارية والنمطية، إذ عرف محاولات تجريبية كثيرة، تميزت بالجرأة في انتهاك حرمة الجاهز وفي اختراق حصونه، وبالإقبال على ابتداع فن شعري ثائر يهدم قدسية كل الأشكال الفنية دونما إلغائها من الوجود. وهذه المحاولات التجريبية الجادة لم تنطلق من فراغ، وإنما ابتدأت من هدم كل نموذج قائم طال حضوره فنضج واحترق، ولم يعد بإمكانه تقديم الجديد. وهكذا ظهرت حركات تجديدية رائدة ثائرة متمردة على القوالب الجاهزة، تنطلق من الموجود لتعاكسه، وتجعل من القائم مساحة للتجاوز والمغايرة. وقد صارع أصحاب هذه الحركات الثائرة- في كل محطة تاريخية- الذهنيات التقليدية المتعصبة، وواجهوا بكثير من الثقة حراس التقليد وأجهزته القمعية المتحكمة في مقاليد الحياة الثقافية.



وإذا تتبعنا فصول التاريخ الثقافي العربي نجد أن الحياة الثقافية- في أغلب عصورها- كانت أسيرة في قبضة المحافظين الاتباعيين المكتفين بالتكرارية والمحاكاة، الذين يرفضون أي جديد، ويناصبون العداء لكل من سوّلت له نفسه الاقتراب من حمى المكتسبات الجاهزة المقدسة. فقد كان نقاد الأدب وحماة الموروث يفرضون وصايتهم على الأدب والأدباء، ويمنحون لأنفسهم الشرعية الثقافية للوقوف في وجه كل موجة تحريرية أو حركة تجريبية تؤسس لمفهوم جديد للإبداع. يشككون في نوايا أصحابها، ويبحثون عن اتهامات باطلة لتبرير مقاومتهم للجديد. اعتبروا كل تجديد خرقا للقاعدة ونقضا للنموذج وتطرفا فنيا خطيرا يجب محاصرة عنفوانه وامتداداته، ويجوز توجيه أصابع الاتهام لأصحابه بقلقلة السلم الثقافي. ومع ذلك ظل الفنان الأصيل المؤمن بمشروعه والمخلص لإبداعه واقفا صامدا في وجه تلك الفزاعة المحافظة، رافضا لكل أساليب التدجين والتوجيه والغصب، فارضا ذوقه وفنه ومنطقه مهما كلفه ذلك من تضحيات. لا تقل متعته وهو يواجه تيار الابتذال والتبعية عن متعته وهو يمارس تطرفه الجميل ويصوغ فنا جديدا متحررا من كل قيد سابق، ثائرا على كل معيار مفروض.

وللتدليل على ذلك الصراع المفروض نعود إلى المعارك الضارية التي نشبت بين المحافظين والمجددين منذ العصر العباسي إلى حدود نشأة القصيدة المعاصرة في منتصف القرن العشرين وما تمخضت عنه من حركات تجديدية رائدة. فقد كانت الساحة الثقافية- في كل محطاتها- تعيش حالة تجاذب قوية بين تيارين متناقضين مختلفين في المنطلقات الفكرية وفي القيم الفنية. فالمحافظون يمارسون صلاحيتهم الثقافية التي منحتها لهم المشروعية التاريخية، ويفرضون إرهابهم الثقافي لإسكات كل صوت ثائر مجدد. والمجددون يعاكسون التيار ويساهمون في تأسيس ذوق جديد، وفي التعبير عن رؤية مخالفة، وفي خلق دينامية فنية وثقافية في المجتمع. وبفضل هذا التدافع الفني وقع التأثير والتأثر، وتم تمرير قناعات وقيم جديدة تحت ضغط حاجات الإنسان والفن والحياة للتطوير والتجديد، وبذلك استطاع القول الشعري أن يحافظ على وجوده الفاعل وعلى استمرارية تأثيره في وجدان الإنسان وفي ثقافة المجتمع ، وتمكن من ممارسة دوره الفني في تنمية الذوق وتهذيب النفس وتخصيب الخيال.



ولكن لابد من الاعتراف بأن حركات التجريب الأولى لم تكن ثورة على الذاكرة الجمالية، ولم ينطلق أصحابها من منطلق الرفض من أجل مناقضة القيم الثقافية القائمة، وما كان التجاوز عندهم هدفا في ذاته، وإنما اعتبروا الذاكرة الجمالية منصة لانطلاق مشاريع التجديد نحو الآفاق. آمنوا بأن تخصيب هذه الذاكرة مسؤولية الفنان وواجبه التاريخي إزاء تراثه الشعري وإزاء تاريخ أمته الثقافي. لم يكن التجريب بقصد التفجير أو نقض كل الدعامات الفنية أو بقصد الإساءة للذاكرة الجمالية، ولكن كان ذلك بهدف مواصلة فعل الإبداع بنفس جديد وبرؤية فلسفية منسجمة مع الواقع ومع ذوق كل عصر. هو مشروع ناضج وواقعي يؤمن بأن لكل عصر رجاله وفنه وذوقه وأولوياته. فإذا جاز الاجتهاد في الدين فكيف لا يكون الاجتهاد في الشعر؟ وإذا أنتج الاجتهاد الديني مذاهب وتيارات وطوائف لها اجتهاداتها وتقديراتها وأنصارها في الساحة الفقهية، فكيف يحجر على الأديب المبدع أن ينحو هذا المنحى أو أن يبتدع أسلوبه الخاص في مجال القول الشعري؟ أليس من حق الشاعر أن يقترف هذه الفضيلة فيترسم طرقا جديدة ومسارات مخالفة في خريطة المألوف، وأن يحفر فيها صورا وأشكالا مبتدعة لتنال حظها من أشعة شمس التداول ، ولتمارس حقها في بناء الذوق وصناعة وعي الإنسان؟



ولكن يبقى علينا أن نتساءل. هل كل محاولات التجريب المطروحة في الساحة الثقافية الراهنة تحافظ على هوية القصيدة العربية؟ وهل كلها تسعى إلى تجديد الهياكل الفنية برؤية فلسفية منسجمة مع العصر ومحترمة للخصوصية العربية دونما السقوط في العبث والشذوذ والابتذال؟



حتى نساهم في الإجابة نستطيع أن نقول مطمئنين إنه إذا كنا نؤمن بأن فعل التجريب ضرورة تاريخية وفنية لرفد الشعر العربي وتطعيم خلاياه وتغيير صورته وجعله ترجمانا للوجدان العربي وتعبيرا عن انتظارات الإنسان الجديد، فإنه من المسلّم به أن انحرافات خطيرة وقعت في فهم هذا التوجه الجديد، وساهمت في تحويل فعل التجريب إلى مؤامرة ضد الذاكرة الجماليةّ، وإلى قطع الصلات واقتلاع كل الجذور التي تحتفظ للشعر العربي بهويته وتمنحه خصوصيته الثقافية في زمن العولمة؛زمن طمس الهويات ومسخ الخصوصيات وتنميط الإنسان واللسان. تحول التجريب الشعري إلى فوضى لا خلفية فلسفية لها، ولا أرضية فنية لها سوى الارتجال والتطفل باسم الشعر وتحت لافتة التجريب. فكانت النتيجة إعاقات واضحة ونكسات متوالية، جعلت الشعر فاقدا لماهيته وأثره ورسالته. جعلت منه كائنا غريبا شاذا يكاد يختنق من شدة اغترابه ومن كثرة شذوذه، وأدخلته إلى غرفة الإنعاش في شبه غيبوبة تامة، في انتظار الإسعافات التي تعيد إليه النبض وتضخ في كيانه نسغ الحياة.



صحيح أن الساحة الشعرية المعاصرة شهدت محاولات تجريبية كثيرة- منذ منتصف القرن العشرين إلى اليوم- أفادت الشعر وأغنته وخصّبته بأسمدة فنية مختلفة، وفتحت آفاقه ولقّحته بالثقافات الإنسانية. وقد نجحت هذه المحاولات في الكثير من نماذجها حينما ظلت وفية للخصوصية العربية، محافظة على توازنها، لصيقة بتربتها. كان ذلك حينما اقتنع المبدعون بأن الأسمدة المستوردة مادة إضافية مطعّمة ومحسّنة للمنتج الشعري، بشرط أن يظل لصيقا بتربته غائرا في طبقات أرضه. وبذلك نجح التجريب ونجحت كل التجارب، لأن أصحابها آمنوا بضرورة المحافظة على هوية الشعر، وعملوا على جعله حاملا لصوت الذات، مترجما للوجدان، منفتحا على الآخر دونما إحساس بالدونية، وفيا للذاكرة دونما السقوط في الاستلاب الشعري. وهنا يحق لي أن أسرد بعض الأسماء الشعرية من مختلف أقطار الوطن العربي، ممن أخلصوا للذاكرة الجمالية من أمثال نازك الملائكة والسياب والبياتي وعبد الصبور وحجازي وأدونيس والحاج والخال ودرويش ودنقل والقاسم وطوقان والسرغيني وراجع والكنوني والطبال والميموني والأشعري وبنيس وأخريف وبوسريف والشليح وغيرهم من رموز الشعر المعاصر. لكن بعض الشعراء الطارئين على حلبة القريض استغلوا هذه الموجة، فسبحوا بعيدا في بحار الحداثة بغير مجداف. أقول البعض حتى لا يتهمني أحد بالتعميم، فهناك من الشعراء الشباب من كانوا خير حامل لمشعل الوفاء للذاكرة من موقع التجريب، بل تجاوزوا بعض من تقدمهم، وفي شعرهم من العمق والجمال ما لم يأت به الأوائل (رُبَّ تالٍ بَذَّ شَأْوَ مُقدَّمِ)، تحس في شعرهم بظلال العربية وتسمع ألحانها، وينبعث من نصوصهم نسيم الذاكرة الجمالية وأريجها. يضعون لمسات جميلة في أشعارهم، فتخلق اللذة ولا توهم بها، وتهذب الأذواق ولا تلوثها. لكن غيرهم كانوا على النقيض منهم، استخدموا في رحلتهم التجريبية مركبا بلا ربان ولا مجداف ولا شراع، واستعانوا ببوصلة مستعارة معطلة، فضلُّوا السبيل الموصلة إلى التجديد، وسلكوا طريق المغامرة والارتجال والتسيب. وجدوا في التجريب جدارا يخفون وراءه ضعفهم، ومنهجا يبررون به قلة زادهم وهشاشة تكوينهم. جعلوا من التجريب عنوانا لتسويغ هنّاتهم وسقطاتهم ورداءة إبداعهم. فقدموا للقارئ شيئا غريبا لا علاقة له بالشعر. صاغوا صورا وتراكيب وعبارات لم تستطع النفاذ إلى قلب القارئ، ولم تجد سبيلا إلى وجدانه أو إلى ترقية ذوقه. تلاعبوا بالعبارات، ورسموا بالكلمات، وخطوا بعض ما يتراءى لهم أنه شعر حداثي. زهدوا في الاطلاع على موروثهم بدعوى أنه قديم عقيم، فلا قديما وَعَوْا، ولا جديدا بَنَوْا. رصيدهم الشعري قراءات سريعة لدواوين جديدة. تأثروا بتجارب من عاصرهم أو جايلهم من الشعراء المحدثين، ولم يكلفوا أنفسهم الاطلاع على عيون الشعر وأمهات الدواوين ومراجع اللغة والبلاغة. ادعوا واهمين أن ما يظنه الناس رداءة وغرابة في شعرهم إنما هو ضرب من الغموض، وأن الغموض مطلب وميزة في الشعر الجديد، وأنه خاصية دالة على النبوغ والتميّز. وأن الشعر كلما ازدادت نسبة غموضه ازدادت نسبة جماليته. ركبوا مركب التجريب دون زاد شعري ودون معرفة باللغة ودون دراية بأصول وقواعد القول الشعري. اعتبروا أمر الشعر هيّن، وأن الخوض فيه متاح لكل من هبّ ودبّ.. دخلوا هذا الخضم وهم لا يثقون في قدراتهم الإبداعية، ويعلمون يقينا أن أغلب ما يكتبون كتابة أو طلاسم أو تعويذات تشبه الشعر وما هي بالشعر. كتابة غرائبية تتمظهر بأكثر من شكل ولغة وبناء وأسلوب. كتابة متعالية بدون أفق شعري، بدون جماليات إيقاعية، بدون هوّية. وللتضليل على القارئ، مارسوا أسلوب التقية الفنية، وقالوا عن إبداعهم إنه اختراق للحصون التقليدية المنيعة، وتجاوز للمكتسبات الفنية البالية، وتجريب لكتابة حداثية، كتابة مخاطرة ثائرة لا تعترف بالتصنيف أو التجنيس. كتابة مخالفة للنمط مستعصية عن التحديد. كتابة مزعجة حربائية دائمة التشكل والتلون لا تطمئن ولا تستقر ولا تتكرر. وما ذلك سوى هروب يائس نحو الأمام، وبحث بائس عن مبرر واهٍ لفرض ذاتهم بجرأة شرسة لا تقدر الإبداع ولا تحترم عقل القارئ وذوقه.



يبقى أن نؤكد على أن التجريب مطلب لا غنى عنه، وأن السياق الثقافي المعاصر يستدعى القيام بهذا المشروع بكثير من الاتزان والتعقل والانسجام مع الذات. مشروع ينخرط فيه الشاعر الأصيل الذي خبر القول الشعري وتسلح بأدواته وامتلك الكفاءة والملكة والجرأة والطموح، واعتمد رؤية استشرافية للمستقبل تنطلق من الذاكرة الجمالية وتسعى إلى تطوير هياكلها وإغناء صورها وتنويع تجاربها. رؤية تخلص للذات وتنفتح على العالم وتحاور الثقافات الإنسانية وتقدم لها الجديد بهوية عربية. رؤية تتجاوز النموذج القائم المتاح دونما تبخيسه أو التطاول عليه، رؤية تؤمن بالاختلاف ولا تعادي المخالف.رؤية تثور على الجاهز ولا تلغيه. رؤية فلسفية تنظر إلى المستقبل وتحترم الواقع.


د. محمد شداد الحراق
المغرب

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى