شوقي بغدادي - تنهيـــدة..!!

شوقي بغدادي.jpg

الطرف الأوّل:
هذا الأنف الضخم، هاتان الوجنتان الناتئتان. هذا الفك العريض. هذا اللون الأسمر الشاحب. الوجه يصلح لرجل وليس لامرأة. حتى في مثل هذه السنّ لا يملك الصبا أن يخفف من جهامة مثل هذا الوجه.
كنتُ أتأملها وهي واقفة في الزحام قريباً منّي. لا أدري لماذا توقّف نظري عندها متأملاً وقد بزغت بغتةً هذه الفكرة في رأسي: "من هو الرجل الذي يمكن أن يختار مثل هذه الفتاة زوجةً له؟".. يبدو واضحاً من يديها أنها غير متزوّجة. وهكذا شرعتُ أتابعُ تأملاتي الطريفة مرّوححاً بها عن نفسي عناء الدوام المرهق، والزحام، وهموم المعيشة اليومية، وطول الطريق في حافلةٍ غاصّة بالبشر: كانت ترتدي ثياباً بسيطة للغاية. كنزة كحلية لا تتناسب إطلاقاً مع لون بشرتها الغامق وتنّورة رمادية. لكم تبدو فتاةً جادّة!.

كانت تضع على رأسها إيشارباً سماوي اللون ولكن من دون تشدّد، إذ كان شعرها نافراً من تحته وهي غير عابئة بإحكام إغلاقه تحت ذقنها. كانت تمسك المقبض المعدني للمقعد القريب مني بيدها اليمنى، وباليسرى تسند محفظتها الجلدية المتدلية من على منكبها، وتعلق بأصابعها كيساً من النايلون تلوح من فُتحته أطراف سنانير الصوف وبعض المجلاّت الملوّنة وفتحة كيس أصغر فيه تفاح وباقة بقدونس. كانت راسخةً في مكانها لا تترنّح مع ميلان الحافلة واضطرابها مما يؤكد أنها فتاة متمرّسة بركوب الحافلات، ولكن كم عمرها ياترى؟!.

قلت في نفسي: إنها لم تبلغ بعد الثلاثين. ثمّة نضارة لا يمكن تجاهلها تحت هذا المنظر الجادّ توحي بأنها ماتزال في ريعان الشباب، ولكنها موظفة بالتأكيد، ومجتهدة في عملها، مرهقة فيه كما يبدو، إن التكوين العام لجسدها ليس سيّئاً، فالنهدان صغيران، والبطن ضامر، والخصر ضيق تحته حوض ملآن وعجيزة مدوّرة مرتفعة. ترى كيف تبدو عارية؟ وهل تكفي كل هذه المحاسن للتعويض عن وجهها الصخري؟!.

بماذا عساها تفكّر الآن؟! هل لها رجل تحبّه أو تنتظره أم أنّ حياتها فارغة تماماً من الرجال. وجهها ونظراتها الثابتة في اتجاه واحد وسكينتها الداخلية، كل هذا يشير إلى أنها فتاة رصينة، ومدّبرة منزل من الطراز الأوّل. وقد تكون زوجةً صالحة، وخيراً من كثيرات أخريات أجمل منها. إنها ليست جميلة. بل لعلها أقرب إلى القبح. غير أنها كما يظهر من صُنف النساء اللواتي يُعتمد عليهن في الملمّات. وقد تكون في أعماقها عاطفية إلى أبعد حدّ بعكس مايوحي به منظرها الجادّ. ومع ذلك فأنا متأكد أن لا أحد من الرجال يخطر له الزواج منها. وإذا حصل ذلك فلأسباب طارئة قاهرة، أو لأن الرجل الذي سيقع هذه الوقعة نصف أعمى أو نصف أبله.

وابتسمت لنفسي حين تسطحت بي تصوّراتي في هذا المنحى. ربّما أنني أظلمها حين أتصوّرها امرأةً غير مرغوبٍ فيها. ألا يقولون: كل قمحة ولها كيّال. أليس هناك نساء أكثر بشاعة منها ومع ذلك فإنهنّ متزّوجات من رجال أكفاء ويعشن معهم حياة أسرة ناجحة، ترى ماعساها تقول لو تقدّم منها موظف تعبان طفران مثلي طالباً ودّها أو يدها، هل تقبل بأن تسكن مع أمي وأخواتي؟!.

في تلك اللحظة بالذات وجدتها تلتفت نحوي وكأنها شعرت بوطأة نظراتي. وكانت لفتة سريعة، ونظرة أسرع ولكن لكم كانت ثاقبة!.. خُيّل لي أنها قرأت جميع أفكاري، وأنها ابتسمت في سرّها. وكان وجهها وقد عاد إلى وضعه الأوّل يبدو أكثر انفراجاً، فهل كانت تبتسم وتجالد كي تخفي ابتسامتها، وإلاّ فلماذا كانت قسماتها تشيعّ بما يُشبه البريق حتى لقد بدت لي أنيسة جميلة في تلك اللحظات. هل تكون هذه النظرة بداية قصّة لطيفة من قصص الحبّ التي نقرأ أو نشاهد. ولِمَ لا؟ ربما كانت مثل هذه الفتاة أكثر عمقاً وإخلاصاً، وأقدر على خوض تجارب الحبّ الكبرى. وقد تكون أحسّت بي بالحدس وأنها الآن متأهّبة مُستنفرَة بكل طاقاتها لاستقبال الإشارة الأولى. ولكن كيف أبدأ.. كيف أتصرّف حتى لا أبدو سخيفاً منذ الحركة الأولى!.

الطرف المقابل:
لماذا ينظر هذا الرجل إليّ بمثل هذا الإلحاح. أم لعليّ واهمة؟! ماذا يجد فيّ ولا يجده في الأخريات اللواتي يحفل بهن "الباص". يبدو أنه موظف وعازب. إذ لا يحمل خاتماً ولا أية حاجة للبيت في يده.
وهكذا بدأتُ أسترق النظر إليه من دون أن يشعر، راقبتُ أولاً حذاءه. أنا أحكم على الرجال من خلال أحذيتهم. لقد كان نظيفاً لمّاعاً. فأعجبني ذلك، إنّه رجل لا يُهمل هندامه على مايبدو، ثم استرقت نظرةً إلى بنطاله. كان قديماً، ولكنه كان مكوّياً منذ يومين أو ثلاثة لا أكثر.. ثم سترته والكنزة "البيج" فوق قميصه الأبيض، غير أن بطنه كان بارزاً بعض الشيء. لابدّ أنه يأكل أكثر مما يجب أو أنه لا يعتني برياضة جسده. وهو ليس نحيفاً، ولا سميناً، غير أن الكرش الصغير كان مؤذياً للنظر. رفعت نظري قليلاً إلى ربطة عنقه. كان لونها معقولاً. وأخيراً قرّرتُ أن أواجهه تماماً. وأرى إلى وجهه كيف يكون. يا إلهي.. لكم كان وجهاً بائساً. كان وجهاً مترّهلاً يتدلّى في وسطه أنفٌ طويل فوق فم كبير وذقن طويلة. كان باختصار وجهاً غير جميل، ومع ذلك فقد كان في نظرته وهج يوحي بالوداعة والرقة وكأنه كان يقول لي: "أنا آسف.. هذه خلقة ربي ولا يد لي في الأمر ولكنّ قلبي طيّب ويقولون عني ابن حلال..".

قلت في نفسي: إية امرأة يمكن أن ترضى بمثل هذا الرجل. هندامه معقول، ولكن وجهه مزعج ومنظره يدلّ على أنه تعبان في حياته جدّاً، ومع ذلك، فما أدراني أية صفات طيبة يمكن أن يخفي منظره المنفّر وراءه. يبدو واضحاً أنه رجل منظّم في حياته الخاصّة وفي عمله، وأنّه لا يهمل واجباته، ومستعدّ دائماً لخدمة الآخرين.

إنه ينظر نحوي فقط ويتأملّني بإمعان وكأنه يعلن عن رجاء رقيق مُضمر يكتمه حياءٌ فطري لا يعرفه كثيراً رجال هذا الزمن. وقد يكون زوجاً مثالياً.. لابدّ أنه قد حاول أن يتزوّج وأنه لم ينجح في اجتذاب مودّة اللواتي اختارهن لأنهن كن أعجز من أن ينفذن إلى ماوراء منظره غير الجذاب لاكتشاف معدنه الأصيل الجيّد.. كم عمره ياترى؟! إنه لم يبلغ الأربعين بعد كما يظهر بالرغم من الترهّل في وجهه المتطاول. إنه عناء العمل ومتاعب الحياة في هذه الأيام الرديئة وليست هذه من علامات الشيخوخة فشعره الأسود المرجّل لونه طبيعي لا أثر للصبغة فيه.

وبغتةً خطرت لي هذه الفكرة: ماعساني أصنع لو أنه اقترب مني معبّراً عن مودّته. هل أقابله بمثلها... ولِمَ لا.. مادام يبدو رجلاً جادّاً مهذّباً. ولنفترض أنّه جاء يطلب يدي من أهلي فهل أوافق... يا إلهي.. لماذا أنا مضطربة على غير عادتي ولم يحدث بعد شيء يُذكر!.

الطرف الثالث:
كانت الحافلة تنوء بحملها ساعة خروج الموظفين وهي تصعد باتجاه "ركن الدين".. وعندما توقفت في محطة "جسر النحاس" كانت قد بدأت تخفف من معظم حمولتها الكبيرة. ومع ذلك فإن الاثنين: "هو" و"هي" لم يحاولا أن يتباعدا إذ كان مايزال يسترق النظر إليها كمن يتردّد في الإتيان بحركة مواتية للتعبير عن عاطفة معينة ثم لا يلبث في أن يردعه الخجل، حين وجد الناس ينظرون إليه وقد خلت بعض المقاعد من ركابها. لماذا هو واقف إلى جوارها، ومامعنى وقوفها قريباً منه؟ وكأن السؤال قد هاجمهما معاً، فابتعدت الفتاة نحو مقعد قريب خالٍ، وجلستُ في الداخل قرب النافذة.

كان المكان المجاور لها خالياً، ولكن الرجل لم يجرؤ على الجلوس فيه فقد كان ثمّة مقعدٌ خالٍ آخر وبعض الركاب مايزالون يراقبونه أو كان يخيّل له ذلك فأحسّ أنه سخيف ومرهق حتى الأعياء.

كان يجب أن يهبط في المحطة التالية فاقترب متمهّلاً من المخرج وقد بدا لوهلة أنّه مُقدم على حركةٍ ما لم يلبث أن عَدَلَ عنها، فتابع خُطاه قبل أن يهبط من الحافلة ثقيلاً بطيئاً، ثم استرق نظرةً نحو الفتاة الجالسة وحدها.

كانت الفتاة ماتزال في مكانها تنظر بوجوم إلى الفراغ، في حين كان الرجل أمامها يمشي على الرصيف مبتعداً متثاقلاً في مشيته دون أن يلتفت إلى الوراء وهي تنظر من خلاله إلى الأفق كأنها لا تراه على الإطلاق. وفي الوقت ذاته ارتفعت من المقاعد الخلفية تنهيدة مسموعة، ثم مضتِ الحافلةُ بحمولتها.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى