محمد سعيد درويش - خراب القلب البائس

(1)
أقفُ وحيدًا عِندَ محطة إنتظارُ القِطارت
أقفُ بعيدًا عَن العابرين والعابراتِ
أهتفُ بصوتٍ خافت
" اهدأ ، اهدأ ، التقطَ تنهيدة "
هكذا أخاطبُ قلبي
المرتجفُ في الشق الأعلى مِن صدري
في محاولة مِنهُ للهروبِ بعيدًا
" اهدأ ، اهدأ لا تبكي الآن
استوعبُ ، أين نحنُ – أنا وأنتَ – ههُنا نقفُ
لا تبكي على المحطة ، أرجوك "
تطلعتُ على القمرِ
وكان يُشيرُ إلى الثامنةِ مساءٍ
مازلتُ أنتظر القِطار ، تأخر قليلًا
مِن المفترضُ أن يأتي في السابعةِ والنصفِ
أهتفُ ، بينما هو يرتجفُ
" اهدأ ، اهدأ ها هي ساعات
ستمرُ وسنغادرُ
هذا المكان الذي لا يُطاق
سنركض إلى غرفتنا
سننامُ على سريرنا
سنعانقُ وسادتنا
سنختبئ وسنبكي
لكن الآن اهدأ ، والتقطَ تنهيدة "
لا يسمع لي ولا كلمة
يظلُ يرتجفُ ، كعصفور سقطَ آثر رصاصة
خرجت مِن شخص لا يترك العصافير تُحلق
أهتفُ فيه
" كف عَن الإرتجافِ ، فأنا صَدري يؤلمني "
يُجيبني بصوتٍ تعتريه خيبة
" وماذا عَن آلمي
أريدُ أن أبكي "
أقول له
" ياقلبي
لِماذا هذه المرة تحديدًا
تريدُ أن تبكي "
يُجيبني بصوته المكسور
" أنني تعبت
مللتُ مِن هذا الجسد
أريد أن أغادر "
تعتريني صدمة وقلق وأبدو خائفًا أكثر
وكان الصمتُ إجابتي
فأخذ يصرخ غير مبال، لـصمتي
" انظر حولك ، كُلَّ القلوبِ مؤتلفة
إلا أنا، مازلتُ عالقًا هُنا
في صَدرك هذا
أختنقُ مِن رائحة السجائر
والأنفاسِ الكئيبة، تعبتُ مِن المضي وحيدًا
روحك القديمة ماعادت تنفع
اخلع ، ثيابك الكلاسيكية تِلكَ
واحرقها كلها ، وارتدي ثيابًا جديدة
قصائدك ، مَزقها
قَصَّة شعرك ، غيرها
نفسكَ ، استبدلها
بآخرى جديدة ، تواكبُ الناسِ
فَأنا وحيد بسببها "
تسقطُ مِن عيني دمعة
أشعر أن روحي تتصاعدُ لأعلى
أحاول أن أواسيه ، كي لا يبكي الآن
أمام العابرين والعابراتِ
الذين يضحكون أمامي
يتبادلون القبلاتِ
على رصيف المحطة ، يعانقون بعضهم
يشترون الورودِ
وأنا منزوي
أتأمل تِلكَ الهدية التي إشتريتها
لتِلكَ التي واعدتني
ونسيت الموعد
فأشعر برجفته
وأسمعهُ يقول بصوتٍ مثقل بالدموع
" أرجوك غادر الآن
هي لن تأتي "
فأجيبه بصوتي
الذي يشبه تعلُّق الطفلِ الرضيع بصدر أمهِ
" لكنها واعدتني "
يضحكُ ضحكاتٍ
ممزوجةٍ بالآلم !
ثُمَّ يسودَ الصمتُ بيننا .

(2)
مضت ساعة وكُنتُ مشيتُ
بضعِ خطوات ، مشيتُ
كليل الرأسِ ، لا أنظر إلى المارة
كي لا يلاحظون ، الموجُ في عينيَّ
الشلالات المستعدة ، لكي تنهمر فجأة
حين تشتدُ الندبة .
أسمعُ صوت خفقاته
خرجتُ مِن المحطةِ
بعد أن وصلت كُلَّ القِطارات ولم تأت
دلفتُ حجرة مقهى على إحدى الأرصفة
وآخذتُ كرسيين في الزاوية .
وتناولتُ قهوة دون سُكر
كي أشعر بمرارة آخرى
غير مرارة الحُزن
قال قلبي آنذاك ، بعد أن رشفتُ آخر رشفة مِن الفنجان
" انظر كَم أنت وحدك!
انظر إلى ساحة الفراغ
التي خلفتها الفتاة إياها
انظر كَم أنتَ وحدك
وحدكَ ، منسيًا ، وحدك
ورغم كُلٌ هذه المِساحات
الخاوية حولك
لا مساحة في صَدر أحد
يحتضنك !
سل الفتاة ، هل تراكَ الآن
انظر إلى الكرسي أمامك
اخرج مِن جيبك الهدية البلهاء
وألقي بها بعيدًا وألقيني معها
بعيدًا ، حيث لا عودة "
زعقتُ فيه ، كي يكف عَن الثرثرة
وفي المقهى كانت مشاجرة
بيني وبين قلبي
كانت مشاجرة ، بين إثنين
متعبين ، مِن الخيباتِ المتكررة
وجدوا أنفسهم في ساحة التجربة
وآخذتهم التجربة إلى ملاعب الأسى

(3)
غادرتُ المقهى ومِن ثُمَّ وصلتُ الشقة
دخلتُ الغرفة ، عَلقتُ السترةِ
وسمعتهُ يقول
" إنتزعني
كما تنتزع سترتك "
كانت إجابتي مُعتادة
" يا ريتني كُنتُ أستطع
أن أنتزعكَ "
لَم يُجب عليَّ آنئذٍ
بل راحَ ينتزع نفسه
وأتسعت الدائرة الحمراءُ
في قميصي ، قلبي الذي كان ينامُ بجانبي
الذي كُنتُ أخبئهُ تحت الوسادة
الآن يغادرُ ، صرختُ فيه
" حملتُك حين كُنا
قادرين على المشي – معًا –
رغباتك قتلتني
وحين وضعتني
يدُ الله في المآساة
تُغادر ؟!
فيقول
" تعبتُ مِن هذا الجسد
مِن هذه الوحدة
أودُّ لو قلبًا آخر يُعانقني
كلما كُنتُ ضجرًا
أودُّ لو أنبض نبضات الحُب
وأسمعُ نبضات قلب آخر
تعبتُ مِن لعبة ركل الكرة دون أن تُرد "
تِلك اللعبة الوسخة التي لعبتها – أنا وقلبي –
نركل الكرات ، ولا تُرد لنا
ولَم يبق الآن كرات نركلها ! .
إلتفتَ آنئذٍ ، نحو البابِ مرددًا
" وحدك
ستظلُ وحدك في حياة
لعينة ، طويلة ، أما أنا
لن أحس الحُب إذًا أبدًا "
بكيتُ وسقطتُ على الأرضِ
إلتصقَ ظهري بالجدارِ
ثُمَّ واحدة ، واحدة
آخذتُ أنزلق
أُناديه بينما هو يغادرُ
" ليس لنا أحد يا قلبي
ليس لنا أحد
أتفهم ؟!
لكنكَ لي وأنا لك
نحنُ وحيدين "
يُجيبني بلهجة عصبية
" لا ، هذه وحدتك
وحدك
أبقى وحدك
ما أستطعت
أما أنا فتعبت " .
ألتف ومضى نحو البابِ
وأنا ملقى في الزاوية تحت النافذة
مثقلًا بالتعب
قفزَ على المقعد
ثُمَّ قفزَ قفزةٍ هائلة
أمسك مِن خلالها بمقبض البابِ
وفتحه على مصرعيه
وسقطَ على الأرضِ
ثُمَّ خرجَ دون حتى أن يلتفتَ لي
وحينذاكَ بقيتُ دون قلبي وإحتضنتُ الجرحِ

إتكأتُ برأسي على سَند الجِدار
وناديته بصوتٍ مبحوح ، ردّ الصدى صوتي
وسمعتُ صوت المأساة ، مأساتي .
زحفتُ نحو مكتبي ، والليلُ خلفِ النافذة
ولا شيء آخر ، ثِمة قطرات المطر
تسقطُ على النافذة الزجاجية الزرقاء
زحفتُ وفتحتُ الدرج بحذر
حملتُ شيئًا ذهبيا لامعًا
يحملُ فوقه زهرة صفراء
حملتهُ بين يديَّ ، ثُمَّ فتحتُ النافذةِ
وساعتها رأيته يمضي على الرصيف
المُقابلُ للشقَّةِ ، رأيتُ قلبي ، يمشي كليل الرأسِ كصاحبه
واضعًا يدين خلفَ ظهره ، يمشي كقطة شريدة
وفجأة ، أمطرت السماءِ والبرد قد آتَى
كُلٌ القلوبِ الآن دافئة في الأقفاص الصَدرية
أما قلبي ، يمشي وحيدًا في الليلِ والبردِ
تحركتُ بسرعة وتزحلقتُ على الدرج
حتى إنزلقتُ على عتبات السُلم
ورأسي إصطدمت بالجدار المُقابل
زفرتُ زفرة آلم ، ونهضتُ فور أن سمعتُ
صوت الرعد في السماءِ
خفتُ بصراحة وركضتُ مهرولًا
وخرجتُ إلى الشارع وفجأة أضاءَ البرقُ السماءِ للحظة
ثُمَّ عاد الظلام إلا الإنارة الصفراءِ مِن أعمدة الإنارة
رفعتُ رأسي أحوم النظر ، ووجدتهُ يمشي متكئا على السور
يمشي بخطى مُثقلًا بالآلم
ركضتُ نحوهُ بدوري
لكن حين وصلتُ ، وجدتهُ ساقطًا على الأرضِ
متوقفًا عَن النبض ، هل مات قلبي حقًا
سألتُ نفسي والمطر يبللُ ثيابي
والدائرةِ الحمراءِ تتسع شيئًا فشيئًا
ثُمَّ واحدة واحدة
تحول الأحمر إلى أزرق
وتلاشى الأزرق ، وإختفى قلبي
ماتَ ، لأنه لَم يتحمل اللون الأزرق .
  • Like
التفاعلات: ماريا حاج حسن

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى