صالح الرزوق ـ طيب تيزيني: من التراث إلى الثورة..

برحيل المفكر السوري طيب تيزيني نطوي صفحة من صفحات حركة التنوير الثانية التي واصلت جهود الجيل الأول المؤسس. ويجب أن نأخذ المواصلة بمعنى المتابعة حرفيا. فطيب تيزيني وضع خلفه ما كان يسميه «حطام التاريخ المفتوح»، ودعا إلى إعادة تركيبه، وليس مجرد قراءته. وقد أكد على هذا المبدأ في واحد من بواكير مؤلفاته، وهو «من التراث إلى الثورة» الصادر عام 1976. فقد وضع شرطين لمشروع تثوير الذاكرة العربية، وهما:
«إن النتائج مثل المقدمات، ليست مطلقة وإنما هي نسبية. ولا يسعنا تفسير ظاهرة إن لم يكن نظام العقل ينتمي لها. بمعنى أنه من الضروري أن تأتي الفكرة في سياق الواقع المنتج، ولذلك إنها لا تنطلق من الصفر وإنما تبدأ من إرهاصات وطموحات رؤية جديدة.
الشرط الثاني أن أي فكرة جديدة لها حدود تاريخية ومعرفية يمكنها أن تتحرك ضمنها».
ولتعميم مشروعه كان لا بد له من البدء بهدم معوّقات هذا المشروع، وهي النزوع نحو الماضي وتقديسه، وأعتقد أن الراحل طيب تيزيني لم يكن ينظر إلى الماضي على أنه الطور السحيق لفكرة العقل العربي، وإنما كل ما تنتهي حدود تعريفه. وبهذا المعنى يقول: «يجب إلغاء فكرة أن السابق هو المخول والقادر على إكساب الفعالية الإنسانية مبررات مشروعها».
وقد وجد أن الكومبرادور التجاري (بعلاقاته الرأسمالية) هو العامل الذي كان يؤشر لنهاية مرحلة وبداية غيرها. وهو المسؤول عن إضفاء صبغة اللاتجانس، وبالتالي التناحر، على المجتمع.
كانت الأحقاب العربية تموت، ولا تتوالى بالتدريج. بلغة أخرى: كان دائما يوجد نوع من الصراعات الدامية الجاهزة لأن تنفجر فجأة. وللتخلص من هذا العيب البنيوي والعضوي اقترح العمل على إرساء مجتمع اشتراكي بلا طبقات. وقاده ذلك للتوقـــــف عند معنى معاكس لدور الفرد في التاريخ. وربما كان يريد أن يلغي مبررات «الديكتاتور العادل» وما يمكن أن تنطوي عليه هـــــذه الفكرة من تناقــــض ليــس له مبرر.
فالشخصية الفذة، كما ورد في مقدمة كتابه «من التراث إلى الثورة» هي حجر الزاوية في التاريخ الإقطاعي، وللتملص من اقتصاد الأرض على أنها منبع للغلال والسلطة والثقافة. وللدخول في مرحلة اجتماعية أعلى تتعامل مع الإنسان على أنه ند طبيعي للأرض كان لا بد من استبدال الفرد بالجماعة. فالسيادة يجب أن لا تكون لواحد من أفرادها وإنما لمجموعة متجانسة منهم».
وقد انتظرنا خمسة عقود قبل أن يعود تيزيني لبلورة هذه الفكرة، وليؤكد أن معنى السيادة يجب أن يكون تمثيليا وليس رمزيا. وخلص من ذلك إلى «مشكلة أشكال الاستبداد الأربع» سواء بمنحاها الفردي أو الجماعي. وهي الاستئثار بالسلطة والثروة وحق التفكير وحق التعبير. وكانت المأساة لديه أو المنبع الفاجع (بتعبير صدقي إسماعيل) في تحديد حرية ما يجب أن يقال (بالحرف الواحد في: احتكار الإعلام).
وأعتقد أن هذه الفكرة كانت مفصلا مهما في تطور تفكير طيب تيزيني. لقد اختار الانحياز للتنوير عوضا عن النهضة. فالتنوير برأيه حرية نفسية واجتماعية. لكن النهضة هي تحديد أو تعليب لمصادر السلطة ولنشاط المجتمع. وبتعبير آخر لقد رأى أنه يجب تدوير الحداثة لتأجيل الدخول في مرحلة ما بعد الحداثة التي تتصف بالغموض والتصوف. وأكد أن البورجوازية العربية لم تكن يوما مؤهلة لتغيير مصيرنا، فهي وريثة للنزوع السلفي، بما عرف عنها من تحميل أفكار سابقة في مصطلحات جديدة. لقد أخطأت البورجوازية العربية في تحديد مجال معركتنا مع الحضارة، وعوضا عن أن تجد حلولا لمشكلة الورع أو ظاهرة تقديس الأفكار، واعتبار أنها جزء من الوجود التاريخي للأمة، أضفت على الواقع ما يبدو أنه إحساس بجرح عميق. فالبورجوازية العربية احتضنت منذ نشوئها عوامل تشكل البورجوازية الفرنسية. وبمفردات طيب تيزيني: «إن نشوء بورجوازياتنا تزامن مع لحظة انحسارها وتراجعها في بلد المصدر». بتعبير آخر: «ما كنا نعتقد أنه خشبة خلاص كان في حقيقة الأمر علامة على البؤس واليأس والفجائع، التي بلغتها كوادر الثورة الصناعية في أوروبا. وما كنا نعتقد أنه فجر للمستقبل، الموشك على البزوغ، كان في الحقيقة أنقاض مرحلة تحتضر. وربما لهذا السبب تحولت البورجوازية الأوروبية إلى التعبير الحر عن مجموع أفراد المجتمع، بينما توقفت لدينا عند فكرة التعبئة السياسية. ولذلك كانت طبقتنا البورجوازية هجينة وتغلب عليها الانتقائية والهزال والتبرير».
لقد اختارت شريحة المثقفين في سوريا تحديث موقفها النفسي من الضرورات الاجتماعية منذ الستينيات، وفضّلت أن تلغي المفردات ذات الشحنة الأيديولوجية، وتستعيض عنها بمفردات ذات مدلول حضاري وإنساني عام.
إن مثل هذا الوعي بجذور الأزمة لا شك هو الذي أخذ بيد طيب تيزيني من اختياراته الثورية الأيديولوجية (تطبيق التاريخ النوعي على نشوء وتطور الأفكار والمجتمعات) إلى فكرة الديمقراطية بمعناها الليبرالي. ولا أستطيع قراءة هذه النتيجة بمعزل عن مصير النخبة المثقفة في سوريا ككل. لقد اختارت شريحة المثقفين في سوريا تحديث موقفها النفسي من الضرورات الاجتماعية منذ الستينيات، وفضّلت أن تلغي المفردات ذات الشحنة الأيديولوجية، وتستعيض عنها بمفردات ذات مدلول حضاري وإنساني عام. وعبّرت عن هذه الظاهرة خير تعبير أعمال القاص زكريا تامر، والشاعر محمد الماغوط. فقد كتب هذا الثنائي عدة مرثيات للطبقة التي ارتبطا بها، من خلال فك الارتباط مع تقاليد الواقع واللجوء لعوالم باطنية ساخرة أولا، ثم متهكمة على الذات ومصير التاريخ النفسي للمجتمع ثانيا. فزكريا تامر انتقل من رثاء مجتمع دمشق القديمة إلى رثاء نفسه، وربما إلى التهكم وإدانة كل ما يجري باللاجدوى. وكانت مرثياته تركز على تحويل أسلوب فلسفة الحداثة لمصلحة موقف لحظي تغلب عليه العدمية. ومثله الماغوط، بعد أن توقف مطولا عند هجائيات دامعة، تبنى شكلا مجزءا ينظر فيه لنفسه من الخارج، وكأنه جزء من المجتمع الغريب المسؤول عن سقوط الأمة وضعف الأفراد.
ويبدو لي أن طيب تيزيني، الذي حرص على الهرب من هذه النتيجة، لم يجد في نهاية مشروعه إلا التوقف عندها. فجهاز نظرياته التي وضعت قانونا اجتماعيا لما هو حادث ولما هو تاريخي، بدأ يستعمل لغة تصورية. ويمكن أن تجد عوامل هذا التفكير في نقطتين:
الأولى حرصه على قراءة ذهنية للتاريخ. فمع أنه ألح على المعيار التاريخي للتملص من أي نزعة مثالية، لكنه فسّر هذا التاريخ المرجو والمؤمل بآثاره، واستعمل المصنفات والسجلات الأدبية والفكرية التي يمكن أن نقول عنها إنها تراث. وبلغة أوضح: كان مثل فوكو منقبا في متحف الأفكار التي أنتجتها رموز من المجتمع السابق، ولم يبحث في تاريخ الجماعات والأندية والأفراد وأسباب النشوء والدوافع الخفية. مثلا هو لم يبحث في هوية أعضاء جماعة إخوان الصفا، ولكن تكلم عما وصلنا منهم من رسائل وأفكار يغلب عليها التأويل، أو ترميم المنظور بالمحسوس. وبالمثل تناول ظاهرة طه حسين ومعركته مع الأزهر، وكأنها صدام أفكار فقط. حتى أنه تعامل مع الأفكار الشائعة عن المحاولات الانقلابية في صدر الإسلام على أنها ثورات.. مثل حركة القرامطة والزنج. ولم يكلف نفسه عناء تفكيك الموجبات والأسباب، هل هي فعلا من منشأ اجتماعي طبقي، أم أنها تعكس رغبة أقلية عرقية بالانفصال كما هو حال إقليم كردستان العراق في الوقت الراهن.
لقد تداخلت بهذا الخصوص قراءة النص مع ملاحظة الحادث الاجتماعي وكأنهما شيء واحد. ولم يكن هناك اهتمام بالفرق بين الثورة والحركات الانفصالية، ولذلك جاءت قراءته لهذه الحركات مثل قراءة غارودي لكافكا بمعزل عن حياته المأزومة، وكأنما على الواقع أن يحاكي التصورات.
إن مخاطر القراءة التاريخية للنص بمعزل عن منتجه مثل مخاطر القراءة السكونية له. فقد أصبح بهذا المنطق بمثابة لاهوت يجعل الحوار مستحيلا كما تنبأ غارودي نفسه..
النقطة الثانية أنه عمد لقراءة الحاضر، مثل أي لحظة معزولة. فقد نظر للديكتاتورية والعسكرتاريا على أنهما نشاط اجتماعي مستقل لسياسة تابعة، ولم يربط ذلك بالجو العام لأسلوب الإنتاج الآسيوي في النظام والحضارة، وإذا أخذ على عابد الجابري نظرته إلى اللغة العربية أنها نتاج لتفكير تام ولا يحتاج إلا لإعادة ترتيب أوراقه من أجل غسله من رواسب الماضي وغبار السنوات، فقد فعل الشيء نفسه مع أوراق الثورة العربية، ودعا لقراءتها بمنظور بورجوازيات أوروبا. فقد استبدل فكرة التنوير (صدمة الحداثة عند أدونيس) بفكرة التمثيل النيابي وكأنه كان يدعو لاستبدال مصطلحات العبودية المستنيرة، بدون أي عناية بمحتوى هذه المصطلحات.
وبهذه الطريقة تتحق نبوءة طيب تيزيني: «أن الإرادة المتعسفة لاتجاه الأفكار يدفع العقل إلى اعتبار الوجه الثاني من المسألة وكأنه أطروحة معاكسة. وكما قال في نهاية مشروعه لتثوير الماضي: إن البدء من التراث للانتقال إلى الثورة هو وجه أول من قضية واحدة، والوجه الثاني هو أن تبدأ من الثورة لتكتشف التراث».


صالح الرزوق

د. طيب تيزيني

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى