علي محمد الشبيبي - معلم في القرية.. -2-

الخير فيما وقع
مرّ عليّ ما يزيد على العشرين يوماً في هذه القرية "أم البط" ضيفاً على رئيسها الحاج عبد العباس العواد وتجري خدمتي على أحسن وجه. وحين أنهض من النوم صباحا، تكون استراحتي في حديقته الواسعة العامرة بمختلف أشجار الفاكهة، وهذا شيء نادر. فالأراضي هنا لزراعة الرز، ويحتل النخيل جزأ كبيراً منها. وهم –حسب العادة لدى قرى أهل الجنوب- لا يتعاطون زراعة الخضرة، هذا أمر معيب لديهم. وقد تتخلل بين النخيل أشجار الليمون والرمان بشكل محدود جداً. كذلك يزرع –اليقطين- بصورة قليلة جداً، بظل أكواخهم، فيتسلقها، ويكسبها منظراً، ويلطف هواءها. وحيث ينتفعون به للغذاء ويتركون بعضه يأخذ منتهى نموه، ويكبر حجمه، ويجف ويجوفونه فيستعملونه لحفظ الملح، أو الطحين، أو مِخَضّة لللبن. هم يأنفون من زراعة الخضرة، يسمون من يزرعها حساوي [أي من الاحساء لأنه يزرع الخضرة].
حضر الشيخ المعمم "الشيخ ع.ث" صباح يوم في هذه الحديقة حين جيء إليّ بالفطور. وكان قد علم إني كتبت إلى مديرية المعارف بشأن رأي الحاج عن فتح المدرسة، فعلق وهو يشاركني بالدجاج المشوي، واللبن المزبد، والفاكهة اللذيذة.
- يا أخي هسه أنته ليش مهتم، أگعد واضرب بها الفروج اللذيذ، والعن أبوهم يابو ولدهم، يتعلمون ما يتعلمون يضربهم ألف مرض. الحجي وأولاده ما عدهم ولد كثيرين، ويتمكن يخليهم بالنجف، لها السبب ما يهمه تنفتح المدرسة لو ما تنفتح لأولاد الفلح.
منذ سافرت –الخميس الفائت- اتصلت بمدير مدرسة الفيصلية أسترشد به عن كيفية تحرير الكتب الرسمية، لأني جديد عهد بها. ولقد لفت نظري أيضا إلى أني إلى ذلك الحين لم أكتب ما يسمى "مباشرة" وأرختها اعتبارا من وصولي القرية، وقد وصلني اليوم أمر المديرية، بتذكرة خطية، على قصاصة ورق عادية، من مديرية المعارف، بواسطة مدير مدرسة الفيصلية، أثناء زيارته للناحية ملخصها "التحق بمدرسة سوق شعلان مع ما لديك من قرطاسية وغيرها، وسلمها للمدرسة المذكورة" ولم يتعرض لقضية فتح مدرسة أم البط.
غداً سأرتحل من هذه القرية مسروراً شاكراً "سيد خضر"! فأنا أحب أن أزاول عملاً، وأودي خدمة، والخير فيما وقع كما عبر صاحبنا المعمم.

في مدرسة سوق شعلان
باشرت في مدرستي الجديدة، ويبدو أن المدرسة ومديرها سبق إليهم علم بانتقالي إليهم، فقد أعدوا جدول الدروس، وعهدوا إليّ تدريس الصف الثاني، وعربي الصف الرابع. لم ابدِ أي اعتراض، فما عهد إليّ ليس أمراً ذا بال.
بناية المدرسة من حيث التصميم غير صالحة. فهي عبارة عن ساحة مربعة لا تزيد على مئتي متر مربع. تحيطها غرف الصفوف. وأمام البناية وإلى جانبها من الجهة الشرقية ساحة غير مسورة، لا يمكن استعمالها في الأيام الممطرة. وعدد صفوفها خمسة. وتجمع المدير والمعلمين غرفة واحدة. أما عدد المعلمين فستة.
المدير "صالح زيدان" من أهالي الناصرية، و"عبد الحميد محمود " معلم بصري من أبي الخصيب ، والثالث "فاضل عبد الرزاق" بغدادي، والرابع "صبري شاكر" أيضا بغدادي تركي الأصل، وأنا والسادس –عبد الأمير الجواهري- نجفيان.
يصحب البصري فتى أسود "ملا صالح"، قال: أن آبائه كانوا من مملوكيهم وهو شاب شهم ظريف، يقوم بالطبخ للمجموع لقاء أجرة قدرها ثلاثمائة فلساً من كل واحد منا، ولا يحسن إلا طبخات معدودة وببساطة كالرز والفاصوليا، لحم على رز، تشريب، معكرونيا مع البيض. لكنه نظيف ومنظم. يساكن صاحبه، ويسكن معهما أيضاً ألنجفي، ونزلت معهم موقتاً، أما البغداديان فيسكنان كوخاً صغيراً مجاوراً لكوخ البصري، بينما أتخذ المدير غرفة الإدارة له مناما فقط.
عدد التلاميذ مناسب للمدرسة، ولا تتسع لأكثر منه، بعضهم من قرى مجاورة، يواظبون فيها كل يوم مبكرين مشياً على القدم. وسكان القرية جميعاً يكثرون التردد على المدرسة بذات الطريقة التي يترددون بها على مضايف رئيسهم ووجهائهم. ويمتزجون مع المعلمين في الحديث، ويبادلونهم الطرف، وينتقدونهم علناً أحياناً. بينما لا يتحرز بعض المعلمين في أحاديثهم عن ذكر مالا يناسب مما جعل هؤلاء كثيراً ما يستخفون بهم، وقد يتعمدون إثارة بعضهم في تقليد لهجاتهم وترديد بعض الكلمات من لهجات البصريين والبغداديين.
هذا عالم جديد أعيش وسطه. فكم يا ترى هي المتاعب التي سأواجهها في مستقبل أيامي؟!.

زيارة
زارني قروي متوسط الحال، هو من سادة القرية. يعيش هو وعمه وأولاد عمه في هذه القرية، يفلحون الأرض، وهي ملك لسادة أيضاً. كان شاباً ظريفاً. نبهني وهو يحدثني إلى أنه متعلم، قرأ "القرآن" و "مفتاح الجنان" و"الصحيفة السجادية" و "نوادر أبو نؤاس" و"حكايات ألف ليلة وليلة" و"مجنون ليلى" و"أبو زيد الهلالي" و"بئر ذات العلم" و"المياسة والمقداد".
خاض معي أحاديث كثيرة. كنت أصغي إليه وأستمع إلى أحاديثه المتسلسلة دون ارتباط في الموضوع. وقص عليّ بعد أن أعلن وثوقه وإعجابه المتناهي بي، إنه مغرم وَلِه. يكاد يحترق بنار غرامه، علما إنه متزوج وله من زوجته -وهي ابنة عمه- ولدان وبنت.
وقد دعاني إلى زيارة مضيفهم، وهو يبعد عن المدرسة مسيرة ربع ساعة. وذهبت بعد يومين من زيارته لي تلبية للطلب. أبصرت في طريقي كوخاً قد تداعت "بواريه" ومالت أضلاعه، وبدأ القدم على لونه واضحاً. فبادرني قبل أن أسأله، وعلائم الفخر مرتسمة على ملامح ووجهه، ونبرات صوته:
- أهنا غسلوا المرحوم جدي!
وأستمر يشرح
- الناس كلهم يتمسكون بيه، ويطلبون شفاعته عند الله، ويقدموا له النذور والضحايا، ويحنون المغتسل [أي يلطخون جداره أو بابه بالحناء]، وهالخيوط اليشدونه بالمغتسل علامة طلب المراد. كان جدي الله يرحمه خير، دين، صايم، مصلي ويحرج "يحرق" اليحلف بيه كذب حرج. حلف بيه واحد مرة كذب، وقبل ما يخطي خطوة طلعت بطنه جير "أي سوداء كالقير"! لو توسط اليتحاربون ونشر حزامه بينهم ما تثور بعد رصاصة! [يبدو أن هذه المعجزة شائعة لجميع سادة القرى!؟].
كنت آنه يا أستادْ أفكر شلون يقدر مولاي صاحب الزمان –عجل الله فرجه- يقابل الإنكليز لو ظهر وعدهم هذا السلاح العجيب. إلا لمن شفت بعيني شلون تسكت البنادق جدام جدي، صرت ما أشوف هاي جدام الحجة (ع) عجيبة.
وحين وصلنا إلى مضيفهم استقبلني عمه السيد من مسافة مرحباً مهللاً. وهب جميع الحاضرين وهم سكوت. وأخذني السيد إلى صدر المجلس، وأستمر بترحابه يكرر ألفاظه بتبسم وانبساط. وانهالت عليّ من الحاضرين –مساكم الله بالخير- من الجميع واحداً بعد آخر. وطاف الساقي بالقهوة السوداء وكان أسوداً أيضاً.
كان بين الحاضرين رجلاً يدعى "علي الحلاوي" انه يسكن في هذه القرية منذ عشرين سنة. هو هنا صانع صرائف، ورباب قدور، وحداد القرية وبناؤها، وطبيبها –جراح فقط- سأل الحلاوي أحد القرويين:
- شزرعت بستانك هذه السنة؟
- ما زرعت. شنهي؟ آنه حساوي؟
- المعيدي طايح حظه، يكتل الجوع بالراحة، أرضه يأكلها الشوك، وهو هالك من الجوع وما يزرع الخضرة. آه لو كانت هذه الأرض الحلوة بيد فلاح حضري لو عجمي والله يخليه جنة ويحصد منهه ذهب.
وانفتحت قريحة –الحلاوي- فاندفع يلقي النكتة تلو النكتة، ساخراً بالمعدان [نحن في النجف نطلق هذه اللفظة –معيدي- على جميع القرويين في الفرات الأوسط. ورد في شعر حاج زاير ما يشير أيضا إلى استخفافه بالقرويين وهو يسميهم "معدان" وقواميس اللغة تعرف "المعيدي" بأنهم مربو الجاموس، والجاموس كما يذكر بعض المؤرخين بأنه جلب من جهات الجزائر والمغرب حين كثر فتك السباع بالناس فطلب الحجاج بن يوسف الثقفي من عامل بني أمية هناك أن يبعث بجماعة من المعدان مع حيواناتهم لأنها تستطيع مقاومة السباع.]
- المعيدي شاف الأرض مسينه شال أنعاله بيده يگول "بيه ولا بالحمر" ومن يجي للمرحاض ينزع نعاله!
وانفتل إليه أحد القرويين، وكان معروفاً لديهم بالهزل والظرف، وهب القرويون يشجعونه ضد –الحلاوي-
- اي ابن عفصان! اي ابن عفصان!
- الحضر أهل الطماطة، أهل الحامض، بعيني شفت حضري يبجي ويفرك بعيونه وهو على الزاد ويّه الناس "بعد البذنجان والطماطة لوخ يكلبي!!". وحضري بغدادي نشد أمه عن شيّال السفينه، گالتله أمه:- اسكت يُوم لتنشل -أي لا تصاب بالزكام-!؟. [الشيّال عمود خشبي كبير حسب حجم السفينة يشد به لوح مناسب الحجم للسفينة وعليه الشراع]
ساد المجلس هرج ومرج واختلط هتاف التشجيع بالضحك، فأومأ السيد وسكت الجميع.

بداية شغب
رفاقي المعلمين مازلت لم أندمج معهم، والأصوب أن أقول لم يندمجوا معي. فالبصري يلزم كوخه حالما ينتهي الدوام. وينفرد بنفسه بصورة هي أقرب إلى الكسل منها إلى الأرستقراطية. أما صاحبنا "مدير المدرسة" فأنه قليل اللقاء معنا بعد الدوام. إنه يقصد حي آل حاج "رباط" في الجانب الثاني من النهر، حيث يمضي وقتاً طويلاً من الليل في لعب "البوكر" بينما يلجأ البغداديان معظم ساعات النهار إلى المقهى إن لم يكن لدى "فاضل" تدريب فريق من التلاميذ على لعب الكرة. وبين ألنجفي والبصري علاقة متينة. أعتقد إنها ظواهر فقط، فهو –ألنجفي- كثير الكلام والمزاح، وهو كذلك متين العلاقة مع مدير المدرسة. وأعتقد أنه خبيث ماكر فعلى الرغم من متانة علاقته بمدير المدرسة يغريني أن أبتعد عنه وآخذ حذري لأنه "طائفي النزعة" ولابد أن يقوم بدور مشابه إذا أنفرد به، ربما يوشي ضدي بما هو بعيد عني. لذا عليّ أن أكون حذراً من الاثنين. ويبدو لي أن المدير أخذ يستريب من صلات "ألنجفي" بي فأكثر هو الآخر الصلة بي، وكثيرا ما عرض به ليستكشف نوع الصلة بيننا.
وذات مرة استطعت أن أجعل الحديث عن الطائفية والعنصرية وأضرارهما بالمصلحة الوطنية. فنحن كشباب مثقف يجب أن نربأ بأفكارنا أن تدنسها هذه النظريات البائدة. إننا في محنة من عيشنا بعيدين عن كل راحة، نعيش عيشة البدو الرحل، منقطعين عن العالم، لا نعرف ماذا يحدث فيه. ثم إن لنا دستوراً يسمى "دستور الشعب العراقي" فما لنا نتعادى بيننا باسم عقائد لم نعتنقها في واقع الأمر. إنهم يقامرون، يزنون، يلوطون، يشربون الخمر لكنهم يتعصبون لشيعية أو سنية!!!
لم يناقشوا حديثي هذا وأعتقد إن الجميع سيعتبرونني صنفاً آخر.
مدير المدرسة دائما يعبر عن "الشيعة" بالعجم، هذا التعبير يؤلمني جداً، فأنا أعتز بقوميتي، ويسوءني أن أنسب إلى قومية أخرى.
وأنفجر اليوم شجار عنيف بين مدير المدرسة والنجفي [هو عبد الأمير بن غني الجواهري، وهو أيضا جاء وظيفة التعليم من صنف المعممين] من أجل زجاج نافذة الصف الذي تحطم، حين أغلق النافذة بعنف. وأستعمل المدير شتى أساليب الإهانة ضد النجفي فأخذ يستجوبه بحضور بعض التلاميذ كشهود.
- كيف دفع النافذة؟ أكان متعمداً؟ هل كان غاضباً؟
وراح ألنجفي يحاول أن يثبت أن كل هذا جرى لأنه يماشيني! وقد سافر اليوم المدير. ووراء سفره هذا ما وراءه. وفعلاً، عاد مساء يحمل معه أمراً مستعجلاً بنقل ألنجفي إلى قرية "التوبي". فهل سيصفو الجو بيننا من الأكدار؟!


يتبــــــــــــــع

* محمد علي الشبيبي - معلم في القرية /2

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى