رمضان الصباغ - فلسفة الفن عند زكى نجيب محمود.. دراسة نقدية

تنهض رؤية " زكى نجيب محمود" الجمالية على عدة محاور، أهمها موقفه العام من القيم، وبشكل خاص القيمة الجمالية وفقًا لآراء الوضعية المنطقية ومدرسة التحليل، ثم رؤيته لماهية الفن بشكل عام، والشعر على وجه الخصوص، وأخيرًا آراؤه النقدية التى تمثلت فى موقفه من الشعر الجديد، ومن النقد المعاصر.

طبيعة القيم الجمالية
فى كتابه "خرافة الميتافيزيقا" والذى تغيّر عنوانه إلى "موقف من الميتافيزيقا"(1) يحدد غاية كتابه هذا بأنها هى بيان أن العبارات الميتافيزيقية خلو من المعنى، مع التأكيد على أن الميتافيزيقا هى البحث فى أشياء لا تقع تحت الحسّ. لا فعلاً ولا إمكانًا .. ومن بين الأشياء غير "المحسّة" التى يكتب عنها الفلاسفة الخير والجمال. ولذلك فإن العبارات التى تتحدث عن الجمال أو الخير (والقيم بصفة عامة) توضع فى زمرة الميتافيزيقا، وبالتالى فإنها خالية من المعنى، ولا تصلح أن تكون علمًا أو جزءا من علم.
الجمال لا يمكن أن يكون علمًا، أو جزءا من علم بناء على خلو كلمة "جمال" من المعنى، وذلك استنادًا إلى أن المعنى لابد أن يكون منصبّا على شىء موجود فى الخارج (خارج الإنسان) ويمكن رصده بواسطة الحواس أو بأجهزة مساعدة لها أما العالم "لا خير فيه ولا جمال، بمعنى أنه ليس من بين أشيائه شئ اسمه خير، وشئ اسمه جمال؛ فى العالم أشياء كثيرة؛ فيه أشجار وأنهار وأحجار، وصنوف شتّى من الحيوان، ثم يأتى الإنسان فتعلّمه الخبرة وتنشئه التربية على أن يحب شيئًا ويكره شيئًا، ومن هنا يكون ما أحبّه خيرًا وما كرهه شرًّا أو يكون ما يحبّه، جميلاً وما يكرهه قبيحًا .. والشئ يكون خيرًا أو شرًّا، جميلاً أو قبيحًا حسب ما نراه فى الشئ من خير أو جمال أو غير ذلك".(2)
الإنسان هو الذى يضْفى الجمال أو الخير على الشئ، أما الشئ فى ذاته، فلا خير فيه ولا جمال، ولا وجود بالمرّة - فى رأيه - لشئ جميل أو خيّر فى العالم. ولقد رأى "اسبينوزا" أن الأشياء تكون خيّرة لأن الناس يرغبون فيها، ولولا ذلك لما كان فيها أى خير، ويمكن أن ينسحب القول أيضًا على الأشياء الجميلة. فقيمة الشئ ليست كائنة فيه ولا هى بمثابة جزء منه، كما تكون عقارب هذه الساعة التى أمامى جزءًا منها يتّصل وينفصل؛ وإنما تنشأ قيمة الشئ من علاقتنا به، فنحن الذين نجعل للأشياء قيمتها، مهما يكن نوع تلك القيمة، اقتصادية أو خلقية أو جمالية، صادرين فى تقويمنا للأشياء عن مصالحنا الذاتية، فما يخدم لنا صالحًا كان له من القيمة بمقدار ما يخدم؛ ولذلك ترانا ندرج الأشياء المختلفة التى تشبع فينا حاجة أو غرضًا ندرجها فى سلم متفاوت من القيم، حسب تفاوتها فى إشباعها لحاجاتنا وتحقيقها لأغراضنا(3).
قيمة الأشياء إذن ليست كامنة، فى الشئ فى ذاته، بل هى ما يسبغه الإنسان على الشئ، وذلك يختلف وفقًا لأهوائه ومصالحه وحاجاته .. وبناءً على ذلك يكون "الفعل فضيلة أو رذيلة حسب ما يقوم به ذلك الفعل فى نهاية الأمر بتهيئة أسعد حياة ممكنة لأكبر عدد ممكن من الناس، وليس فى الفعل فى ذاته - كائنًا ما كان - شئ يجعله فضيلة أو رذيلة بغضّ النظر عن الظروف المحيطة به؛ حتى ليحدثنا علماء الأجناس البشرية بأنه ما من فعل يطوف بخيالك، إلا وجدته هو نفسه فضيلة عند بعض القبائل وفى نفس العصور، ورذيلة عند قبائل أخرى وفى عصور أخرى. (4)
ولكن هل معنى ذلك أن داعية "الوضعية المنطقية" يضع للمجتمع دورًا هامًا فى عملية التقويم؟ أم أن هذا قد جاء عرضًا ضمن محاولته إقناع القارئ بوجهة نظره فى نسبية القيم جمالية أو أخلاقية أو غير ذلك؟
إن الأساس الذى تقوم عليه رؤي "زكى نجيب محمود" هو التحليل اللغوى للعبارات التى يصوغها الإنسان وهى - وفقًا لما يراه "كارناب" - إما أن تكون وظيفتها التعبير أو التصوير. وتكون العبارة تعبيرية Expressive حين تريد أن تقول أنها منصرفة إلى إخراج ما يشعر به القائل داخل نفسه، مما يستحيل على سواه أن يراجعه فيه، لأنه شعور ذاتى خاص به، كشعوره باللّذة أو الألم مثلاً ثم نقول عن العبارة اللغوية إنها تصويرية (والأدق وصفية أو تقريرية) (5) حين نريد أن نقول بأنها قد أريد بها أن تصف شيئًا خارجًا عن ذات القائل .. وهذا التقسيم فى استعمال اللغة هو ما قصده "ريتشاردز" حين جعل اللغة إما تستعمل استعمالاً علميًا أو استعمالاً انفعاليًا.
وإذا كانت العبارة الجمالية انفعالية،تعبر عما فى أعماق نفس القائل من شعور خاص به، فإنه من المستحيل التحقق من صدق أو كذب هذه العبارة، وذلك لأن القائل لم يقدّم عن العالم المشترك بينه وبين الآخرين شيئًا.
وتأكيدًا لهذا الرأى نراه يقول بصيغة قاطعة: "الجملة الأخلاقية أو الجمالية ليست بذات معنى، لأنها لا تشير إلى عمل يمكن أداؤه للتحقق من صدق معناها المزعوم، ولا تكون الجملة بذات معنى إلا إذا أمكن تحويلها إلى عمل، فكل جملة لا تدلك بذاتها على ما يمكن عمله، بحيث يكون هذا العمل هو معناها الذى لا معنى لها سواه تكون صوتًا فارغًا، مهما قالت لنا القواميس عن معانيها. فالفكرة الواضحة هى ما يمكن ترجمتها إلى سلوك، وما لا يمكن ترجمته على هذا النحو لا ينبغى أن نقول عنه إنه فكرة غامضة، بل ليس هو بالفكرة على الإطلاق"(6).
وبناءً على ذلك يؤكد مرّة أخرى على أن الأخلاق والجمال ليسا بعلمين على الإطلاق، لأنه لا يتوافر فى أى منهما إمكانية التحقق من صدق العبارات التى تصاغ فيها قضاياهما. فكل ما نراه فى هذين المجالين ليس معرفة على الاطلاق، بل مجرد حالة شعورية وجدانية يحسّها صاحبها وحده. ومن هنا تكون المناقشة العقلية مستحيلة بين شخصين اختلفا على شئ بعينه يتعلق بالجمال أو الأخلاق، وذلك لأن المتكلم لا يقرر شيئًا، أو يصف شيئًا بحيث نستطيع أن نراجعه فى تقريره أو وصفه، إنه ينفعل فحسب، وهذا الانفعال لا سبيل إلى مناقشته. (7)
وإذا كان الجمال لا يتصف بصفة العلم، فإن الاختلاف فيه لا يكون اختلافًا فى الرأى - كما يحدث فى العلوم الطبيعية - بل يكون اختلافًا فى الميل والهوى، أى اختلافًا فى الرغبات والأغراض - على حد ما يرى "ستيفنسون" C.L.Stevenson - فالذى يشبع الحاجة عند أحدهما يختلف عما يشبع الحاجة عند الآخر. وبالتالى فإن "العبارة الجمالية بغير معنى، أى بغير واقعة تكون من العبارة بمثابة الأصل من صورته". (8) وأهواؤنا ومصالحنا هى التى ترى الجميل جميلاً، وهى التى توهمنا بما نسبغ على الشئ من قيمة. وهو نفس الشئ الذى توهمنا به العبارة الجمالية، والتى ليست بذات معنى - إذْ توهمنا بأنها جملة مفيدة لأن تركيبها النحوى يشبه تركيب الجمل المفيدة، مع أنها ليست - فى رأى "زكى نجيب محمود" - إلا كلامًا فارغًا. أنها لا تدل إلا على حالات نفسيه عند المتكلم، وتعبر عن انفعال يجيش بصدره. ومن ثم يؤكد على استحالة المناقشة العقلية بين شخصين اختلفا على تقويم شئ ما، وذلك لأن المتكلم لا يصف، ولا يقرر شيئًا ولا تمكن مراجعته للتأكد من صواب أو خطأ ما يقول.
ويؤكد "زكى نجيب محمود"(9) - مستعينًا بوجهة نظر "ريتشارد روبنسون Richard Robinson "- على تبنيه النظرية الانفعالية التى تسوّى بين الجمال والخير فى أن كليهما معتمد على الذات المدركة، لا على صفة الشئ المدرك. وهذا لا يلغى وجود القيم فى العالم - كما يرى البعض على حد تعبيره - وإنما يعنى أن القيم يجب أن توضع فى موضعها الصحيح، فلا تناقض بين أن يكون التقدير ذاتيًا، وبين أن نعتز به.
ولقد واجهت النظرية الانفعالية انتقادات(10) من هـ. ج. باتون H. J. Paton و"يونج A. E. Ewing"، فقد رأى "باتون" أنه لا وجود لمبررات تجعله يقبل هذه النظرية، وأنها أشبه بالرؤية الوجودية - على حد تعبيره - فى بدائيتها، أما "يونج" فقد رأى أن هذه النظرية تدفع إلى الوقوع فى التناقض. ولكن "زكى نجيب محمود"، الذى يتبنى وجهة نظر "ريتشارد روبنسون"، - يرى أن الذين ينفرون من النظرية الانفعالية إنما يتخذون فى الحقيقة من نفورهم هذا موقفًا دفاعيًا عن القيم التى يرغبون الاحتفاظ بها، لا موقفًا علميًا. وإن القول بالتناقض فى النظرية غير موجود، لأن التناقض - فى رأيه - يكون بين القضايا المنطقية، أما قولى عن شئ بأنه خير، وقولك عنه بأنه شر، وأيضًا (جميل) أو قبيح، فليس من القضايا المنطقية فى شئ.
إنّ القضايا المنطقية هى قضايا تقريرية وصفية إخبارية، أما التعبير عن الجميل والخير، أى عن الميول والرغبات فليس من هذا القبيل، وهنا يكون الاختلاف ناجمًا عن تعبيرين عن شعورين مختلفين.
ونتيجة لذلك فإن الحكم الأخلاقى هو تعبير عن انفعال المتكلم إزاء شئ ما، محاولاً أن يحدث انفعالاً مشابهًا له عند السامع، أى أنه لا صدق ولا كذب فيه. ذلك أن الحكم الأخلاقى - وبالتالى الجمالى - ليس حكمًا وصفيًا أو تقريريًا، فهو ليس حكمًا على شئ عينى موضوعى بعيدًا عن الميول والأهواء، ويؤكد مستشهدًا بـ اير A. J. Ayer(11) بأن الحكم الأخلاقى لا إثبات له ولا نفى، حكمه فى ذلك حكم صرخة أو كلمة الأمر وما إلى ذلك من الأشياء التى تعبّر عن حالة شخصيته ولا تصور أمرًا خارجيًا.
وإذا كان "جورج ادوارد مور" قد رأى بأن صفة خير لا يمكن تحليلها أو تعريفها بغيرها التى تدرك بالحواس، ذلك أن الخير يدرك بالحدس Intuition وكلمة خير تشير إلى صفة "لا طبيعية" لا يمكن إدراكها بالحواس الخمس المعروفة ويرى - "زكى نجيب محمود" - أن هذا الحدْس الذى يطالبه به (الحدسيون) فى إدراك القيم الموضوعية كالخير والجمال، هو من هذا الضرب العسير، وذلك لعدم القدرة على التأكد عند اختلاف الحدوس. ومن ثم كان النقاش فى هذه الأمور ضربًا من العبث لا ينتهى وإن طال أبد الآبدين.
إنّ هذا الاستبعاد للأحكام الجمالية (أو الأخلاقية) المعيارية من نطاق العلم، على أساس أن هذه الأحكام لا يمكن التأكد من صحتها بالتجربة وأن ما تعبر عنه لا يوجد فى الواقع، إنما هى مجرد تعبير عن انفعال يرتبط بالمتكلم (أو الناطق بالحكم)، فلا وجود لما يسمى بالخير أو الجمال، وأن هذه العبارات ليست إلا مجرد أوامر أو صيغ لغوية، وتعبيرات عن انفعالات نفسية. كما كان الارتكاز على التحليل للعبارات، مع عدم ربطها بالواقع، أساس القول بطبيعة القيم الجمالية (والأخلاقية أيضًا) على أساس أن هذه العبارات إنشائية (أو تعبيرية) تعبر عن انفعال، على عكس عبارات العلم الطبيعى الوصفية أو التقريرية.
إنّ هذه الرؤية إنما تنطلق من إنكار أصيل لمسألة تطوّر العالم، أو اتجاهه نحو هدف، كما أنها تحدد المعرفة بالحقائق فى إطار قدرة الحواس (وبعض الأجهزة المساعدة أحيانًا) على الإدراك فحسب.
وهذا الرأى - الوضعى المنطقى - الذى يحاول الردّ على المثالية، إنما هو بمثابة نكوص، وارتداد. لأن المثالية (عند "هيجل" على سبيل المثال) كانت ترى أن الفكر البشرى قادر على النفاذ إلى قوانين العالم. إن القول بأن التقويم الجمالى والأخلاقى بلا أساس علمى، ولا يمكن أن يصمد أمام أى تحليل، وبالتالى فهو مجرد لغو انفعالى فارغ والقول بالنسبية فى القيم الجمالية، اعتمادًا على المعنى اللغوى، أو العبارات وتصنيفها إنما هو محاولة للإفلات من المأزق الحقيقى الذى وقعت فيه (الوضعية المنطقية) عند القول بالنسبية، وهو الاتجاه إلى سبر أسباب وأغوار هذه النسبية. فالقول بأن هذه العبارات (الجمالية) ليست وصفية بل تعبيرية أو إنشائية، إنما نجم عن تعبيرها عن انفعال، هذا الانفعال يتباين بالضرورة من شخص لآخر وهذا محكوم بالمؤثرات التى تؤثر فى الشخص المنفعل.
فالحكم الجمالى لشخص يعيش فى هذا العصر يختلف كثيرًا عن الحكم لمن كان يعيش فى عصور سابقة، فى مجتمعات عبودية أو إقطاعية، فالمجتمع هو الذى تنشأ القيم فيه، ويوجدها الإنسان ويكون مستوى تطورها تعبيرًا عن درجة تطوره، ذلك أن القيم مرتبطة بالبناء الاجتماعى، والعلاقات الاقتصادية، وكل ما يؤثر فى الإنسان فى عصر معين، ومكان معين، هذه القيم الجمالية هى بمثابة جزء من البناء الفوقى الذى يتأثر بدرجة كبيرة بالبناء التحتى، ويؤثر فيه. وإذا كانت نشأة القيم (فى نسبيتها) غير لاهوتية، فهى من صنع الإنسان، وإن كانت تتحول فى بعض لحظات التاريخ إلى سلطة فى مواجهة هذا الإنسان الذى كان مبدعها حتى تتضافر الظروف التى تؤدى إلى تغيير فى سلّم القيم فيكون التغيير ضرورة اجتماعية وثقافية.
إن شجب الموقف المثالى (الذى ينطلق من أساس لاهوتى) لا يكون بمجرد الارتكاز على تحليل اللغة، وطبيعة العبارات الجمالية (من الناحية اللغوية) بل بالبحث عن الجذر والأساس الذى كانت هذه اللغة تعبيرًا عنه. إن القول بالنسبية لا يأتى من طبيعة هذه العبارات، بل هو بالأساس ناجم عن ارتباط القيم (جمالية أو أخلاقية .. وغيرها) ارتباطًا وثيقًا بالإنسان، هذا الكائن الاجتماعى الذى لا يكف عن التطور والتغيّر، والذى يغير ويعدّل فى الطبيعة، والبيئة المحيطة به، والذى تأتى القيم كتعبير عن علاقة معقدة بينه وبين أشياء وثيقة الصلة بذاته، على عكس العلم الطبيعى أو الرياضى، الذى يكون وجود الإنسان فيه مجرد ملاحظ، أو دارس، وعلاقته بموضوعاته خارجية.
إنّ المحاولة التى يقدمها "زكى نجيب محمود" فى رؤيته الوضعية المنطقية للقيم، لم تكن فحسب محاولة لرفض الميتافيزيقا، أو القول بأنها لا يمكن أن تقوم كعلم، وبالتالى (القيم) التى تشبه عباراتها نفس العبارات الميتافيزيقية، بل كان يحاول تجاهل الأسس التى تقوم عليها الرؤية النسبية للقيم بالأساس، والتى تتصل بالواقع الاجتماعى. وإلا ما معنى أن أهواءنا ومصالحنا هى التى تملى ما النفيس وما الخسيس فى تقدير القيمة الاقتصادية وأيضًا فى القيمة الجمالية والأخلاقية؟ وما مصدر هذه الأهواء؟ هل هذه الأهواء وثيقة الصلة بالوعى؟ وبالوضع الاجتماعى (والطبقى). وغيرها من العوامل الاجتماعية والتاريخية التى حاول تجاهلها؟ أم أن هذه المصالح والأهواء - معلقة بالهواء - أو ميتافيزيقية هى الأخرى؟
إذا كانت الرؤية الجمالية تختلف باختلاف المجتمعات والعصور، فإن الفيصل يكون فى دراسة درجة الوعى الجمالى فى إطاره الاجتماعى والتاريخى، لا فى الوقوف عند عتبات دراسة العبارات دراسة لغوية فحسب. والتى وإن كانت ذات أهمية بالنسبة لموضوع القيم، إلا أنها نتيجة لطبيعة القيم وليست سببًا.

المحاكاة - التعبير - الخلق
فى مقال له بعنوان: الشعر لا ينبئ .. يقول الدكتور زكى نجيب محمود:
"غفر الله لفلاسفة اليونان الأولين - "أفلاطون" و"أرسطو" على وجه التخصيص - حين تركوا للناس من بعدهم مبدأ فى النقد الأدبى أزاغ أبصارهم عن حقيقة الأدب وحقيقة الفن. حتى ليحتاج الأمر إلى أمثال هؤلاء الفحول ليصححوا الأوضاع بحيث يحررون الناس من حبائل ذلك المبدأ القديم الراسخ فى النفوس وأعنى به مبدأ المحاكاة الذى يجعل الفن محاكاة للطبيعة، فإن رسم رسام صورة قالوا له: ماذا "تعنى" هذه الصورة؟ .. أى أنهم يسألونه أين الشئ فى الطبيعة الذى جاءت الصورة لتحاكيه. والويل له إن قال لهم عن صورته إنها لا تصوّر من الطبيعة شيئًا. وإن أنشأ شاعر قصيدة بحثوا عن معانيها لينظروا أحقًا قالت أم قالت باطلاً .."(12) رافضًا نظرية المحاكاة على أساس أنها تدعو – من وجهة نظره – إلى أن يقول الشاعر أو الفنان شيئًا، أو معنى مما يصحّ - على حد تعبيره - أن تراجع القصيدة عليه ليحكم عليها بالحق أو بالبطلان. بل ويسخر منها لأنها تطالب الشاعر - على حد قوله - بالكتابة عن النيل العظيم، أو المقطم أو حوادث التاريخ التى تدور من حوله. كما تطالبه بأن يكون على صلة بما تقوله الصحف كما يفعل المعلقون السياسيون الذين يسايرون الحوادث يومًا بعد يوم.
وفى إطار تأكيده على ما هو الفن أو الشعر من وجهة نظره، فإنه بالإضافة إلى نقده السابق لنظرية المحاكاة، يقدم نقدًا آخر لنظرية "التعبير" فيقول:
"ثم غفر الله لجماعة من النقاد المحدثين الذين جاءوا وكأنما هم الثائرون على المبدأ القديم - مبدأ المحاكاة - وأعلنوا فى الناس أن فى جعبتهم سهمًا جديدًا هو أنفذ من السهم العتيق إلى حقائق الفن، فقالوا: لا .. ليس الفن وليس الأدب "تصويرًا" لهذا الشئ، أو ذاك مما تدركه الحواس، بل هو "تعبير" عن هذا الوجدان أو ذاك مما تضطرب به النفس .. وإنى لأعترف بأننى كنت إلى عهد قريب جدًا من أنصار هذا الرأى فى الأدب والفن، فبناء على هذا الرأى لا يجوز أن ننظر إلى الصورة - مثلاً - ونسأل: ماذا تصور من أشياء الطبيعة، لأنها لم تجئ لتصوّر شيئًا، وإنما هى انعكاس لما تختلج به نفس الفنان، تومئ إيماء وتوحى إيحاءً بنوع العاطفة التى لابد أن تكون قد ملأت عليه جوانحه وهو يسكب ألوانه على لوحته.. وكذلك إذا قرأت قصيدة من الشعر، فلا تلتمس معانيها فى جنبات الطبيعة، بل التمسها فى جوانح الشاعر نفسه. لأن ألفاظها إنما صيغت لتومئ وتوحى بما عسى أن تكون نفس الشاعر قد اختلجت به"(13). ويرى أن هذا الرأى لا يفترق عن رأى مدرسة المحاكاة. فما زال هناك الأصل الذى جاءت القطعة الفنية لتصوره، وإن القطعة الفنية ستكون نسخة من شئ أهم منها.
وإذا كان داعية الوضعية المنطقية يرفض المحاكاة، والتعبير، فبماذا ينصح إذن؟ وكيف تقرأ القصيدة أو يمكن تذوق اللوحة؟
يقول "زكى نجيب محمود": "اقرأ القصيدة من الشعر، وانْس أن فى العالم شيئًا سواها، عش فيها وحدها، ولا تدع خيالك يتسلل إلى شئ أمامها أو إلى شئ وراءها ثم انظر بعد ذلك: إلى أى حدّ ترى نفسك إزاء كائن متكامل الخلقة كامل التكوين .." (14) ثم يحاول أن يشرح - من وجهة نظره - معنى البيت، والقصيدة مؤكدًا على أن العمل الفنى كيان مستقل بذاته، وليست القصيدة أداة من الشعر ينقل بها الشاعر إلى القارئ شيئًا من المعرفة كائنة ما كانت، ولو كان ذلك هدفها، لما كان هناك ما يدعو إلى غناء الشعر، (15) ثم يأتى ببيت من الشعر لأمرىء القيس.
وليل كموج البحر أرخى سدوله علـىّ بأنــواع الهموم ليبتلى
مشيرًا بأن هذا البيت من الشعر لا إخبار فيه بالمعنى التصويرى المألوف، ولا إخبار عن قوانين النفس البشرية فى شعورها، ولا عن المجتمعات كيف تظهر وكيف تزول، بل ها هنا شئ فريد فى ذاته، يقرأ لذاته، ويفهم مستقلاً عن كل شئ سواه. (16) فالفن - فى رأيه - ليس له معنى، ولا ينبغى أن يكون له، إلا إذا أراد صاحبه أن يجعل منه مسخًا بين العلم والفن؛ فينتهى به إلى شئ لا هو إلى هذا ولا هو إلى ذاك. بل ولا يكون الفن فنًا إذا أعاد ما هو قائم بالفعل ولم يأت بخلق جديد، كما أن دنيا الفن لم تنشأ لتزودنا بنسخة أخرى من دنيا الواقع، وإلا لكان الفن عبثًا وباطلاً. (17)
كما أن مهمة الفنان ليست فى نقل الحوادث الواقعة بذاتها، بل عمله هو أن يلتقط الصورة من حوادث الواقع ثم يصب فيها ما شاء من مادة. وبهذا يكشف عن جوهر العالم الحقيقى، لأن جوهر هذا العالم هو الصور التى تنصب فيها الحوادث .. هذه الصورة خالدة، لا تموت. (18)
وإذا كانت المحاكاة تقتضى - فى رأيه - أن تكون القطعة الأدبية تصويرًا للخارج، أما التعبير فيرى أن العمل الفنى هو تصوير للداخل (داخل الإنسان) فإن "زكى نجيب محمود" يرى أن للعالم ثلاثة أوجه: الطبيعة فى الخارج - تختص بها العلوم وأحاديث الحياة اليومية الجارية. وذات فى الداخل تتبدى فى أحلام اليقظة وأحلام النوم وما إليها. ثم عالم من فن وأدب قائم بذاته لا يصوّر خارجًا ولا يعبر عن داخل، وإنما هو خلق، وعلى من يرتاده أن يعيش فيه، فلا يتخذ منه مجرد نافذة يطلّ منها إلى شئ سواه. فإذا وجد فى جوف القطعة الفنية ذاتها ما يغنيه فقد بلغ النشوة الفنية المقصودة، وإلا فليست تلك القطعة بالنسبة إليه من الفن فى شئ. (19)
إن هذا يعنى بالإضافة إلى رفضه نظريتى المحاكاة، والتعبير، تقديم نظرية أخرى - يراها متسقة مع أفكاره - هى نظرية الخلق. إنه يرفض النظرية التى جاءت من وجهة نظر المتلقى، وكذلك تلك التى كانت من زاوية الفنان لتقدم نظرية تعتمد على أن العمل الفنى قائم بذاته فى عزلة عما سواه، سواء كان ذلك التاريخ أو الواقع الاجتماعى أو الفنان (المبدع) نفسه. فالفن لا يقوم على المحاكاة للعالم الخارجى (رغم الفهم السطحى للمحاكاة والذى سوف نناقشه لاحقًا) ولا يقوم على التعبير عن انفعال الفنان سواء كان هذا الانفعال ذاتيًا صرفًا، أو كان فى علاقة وثيقة بالواقع المحيط به، بل يقوم الفن - من وجهة النظر هذه - على أساس أنه كيان مستقل ينفصل عن كل شئ آخر، وأنه قائم بذاته.
إنّ النقد الموجه هنا لنظرية المحاكاة منصب - على حد ما يرى "جيروم ستولنيتز" فى تصنيفه لأنواع المحاكاة، على النوع الأول، وهو "المحاكاة البسيطة" وهو الفهم السطحى والساذج للمحاكاة، والذى يختلف كثيرًا عما قاله "أرسطو"، والذى أوضح ذلك فى قوله: "وواضح كذلك ما قلناه أن مهمة الشاعر الحقيقية ليست فى رواية الأمور كما وقعت فعلاً، رواية ما يمكن أن يقع. والأشياء ممكنة إما بحسب الاحتمال أو بحسب الضرورة. ذلك أن المؤرخ والشاعر لا يختلفان بكون أحدهما يروى الأحداث شعرًا والآخر يرويها نثرًا (فقد كان من الممكن تأليف تاريخ "هيرودوتس" نظما ولكنه كان سيظل مع ذلك تاريخًا سواء كتب نظمًا أو نثرًا، وإنما يتميّزا من حيث أن أحدهما يروى الأحداث التى وقعت فعلاً بينما يروى الآخر الأحداث التى يمكن أن تقع. ولهذا كان الشعر أوفر حظًا من الفلسفة وأسمى مقامًا من التاريخ لأن الشعر بالأحرى يروى الكلّى بينما التاريخ يروى الجزئى".(20)
فلم يكن "أرسطو" يعنى بالقول بالمحاكاة نسخ الواقع، بل يهتم بالأساس بالرؤية الجمالية والفنية، وهذا عكس ما ساد لفترات طويلة - وما زال - لدى الكثير من الذين عالجوا آراء "أرسطو". وقد كان - كغيره من اليونانيين - انطلاقًا من معنى اللفظ اليونانى "فن"، والذى كان يعنى صنع شئ ما، وإدراك صورة ما فى هيولى. فالفنان منتج وصانع .. كما أن عملية الخلق بالنسبة للفنان والطبيعة ليستا عمليتين مختلفتين. (21)
إنّ الاختلاف مع نظرية المحاكاة ليس هو المشكلة إذن، وإنما عرض هذه النظرية بالطريقة التى تجعل المتلقى ينفر منها - وهو أمر تعرضت له هذه النظرية كثيرًا - هذا مع أننا لا نحبذ هذه النظرية فى نفس الوقت.
كذلك لم تكن نظرية "التعبير" تقوم على نفس المبدأ القديم للمحاكاة، وكل ما حث هو تبديل ثوب بثوب على حد تعبيره. فقد رأى "كروتشه" أن "الطير يغنى للغناء ولكنه فى غنائه يعبر عن مجمل حياته"(22) مؤسسا على ذلك كون الفن تعبيرًا أو لغة تعبيرية.
والجدير بالذكر أن "أوجين فيرون Eugen Veron" قد ميز بين التعبير وبين المحاكاة، بأن المحاكاة تقوم على أساس أصل ينظر إليه الفنان، ورأى أن التعبير إنما يكون عن المشاعر والانفعالات. ورغم أنه لم ينج من الفهم الساذج أيضًا لمفهوم المحاكاة، وعدم الالتفات إلى الاتجاهات التى حاولت تطويرها - أى المحاكاة - فى القرون السابقة. وعملية التعبير ليست عملية بسيطة، بل إن الفنان الذى يقع تحت تأثير الانفعال الجمالى، لا يقوم بمجرد النقل أو النسخ للعمل، سواء كان ذلك النسخ يتصل بالطبيعة أو من مخزون أفكاره، بل يعيش عملية (حمل) معقدة على حد تعبير "جون ديوى" - يتم فيها الحوار بين المواد المستخدمة وبين الانفعال، فيحدث التعديل - ليس فى المادة فحسب، بل وفى الانفعال أيضًا حتى يصير الانفعال جماليًا، أى يرتبط بموضوع عمل (مبدع) يكون هو نتيجة هذه العملية المعقدة. (23)
فليست مهمة الفنان فى المحاكاة، أو التعبير هى مجرد الاغتراف من مخزون لديه، فى الطبيعة (المحاكاة) أو فى داخله (التعبير). بل إن هذا التبسيط ليس إلا الوجه الآخر لما يقدمه (زكى نجيب محمود) عن نظرية الخلق، على أنها منبتة الصلة بالواقع والفنان - أى تقديمها فى هذه الصورة التبسيطية المسطحة.

ولم يكن الانتقال من نظرية المحاكاة إلى التعبير مجرد تبديل ثوب بثوب، مع الاحتفاظ بالمحتوى الأساس (أو الأصل)، بل كان الانتقال تعبيرًا عن تغيرات فى الواقع الاجتماعى، والظروف المحيطة بالإنسان جعلت الانتقال ضرورة. فإذا كانت المحاكاة هى التعبير الدقيق عن فن ما قبل الرأسمالية، حيث كانت الكلاسيكية هى المذهب المسيطر، وكان الإنسان الفرد غير موجود فى مركز الشعور، بل العلاقات الخارجية هى الأساس؛ فإن التعبير جاء نتيجة للاتجاه فى المجتمع الرأسمالى إلى إعلاء الفردية، ووضع الإنسان فى بؤرة الاهتمام، بعد العِرْق أو القبيلة أو العشيرة أو المدينة، ولذلك كان الفن كتعبير عن انفعال الإنسان نتيجة طبيعية لهذه التغيّرات. لقد أصبح العالم منظورًا إليه من خلال انعكاسه على ذات الفنان، وبالتالى صار العمل الفنى أكثر عمقًا، وأشد تعقيدًا.
وإذا كانت نظرية الخلق (أو الإبداع) تأتى فى الترتيب بعد هاتين النظرتين، فإن "زكى نجيب محمود" عندما يقدمها، إنما يقدمها - كالعادة - منفصلة عن الظروف التى أنتجتها، وكالعادة، كنوع من التخريج المنطقى الصرف لبعض العبارات التى يمكن أن تكون ذهنية أكثر منها واقعية.
فإذا كانت نظرية "الخلق" ترى أن العمل الفنى قائم بذاته، وأنه للمتعة الخالصة. فإن هذه النظرية لا يمكن أن تفهم بمعزل عن الظروف والملابسات التى يمكن أن تسمح بمثل هذه المتعة، وهذا الانصراف التام للاستمتاع بالعمل الفنى بعيدًا عن جميع المؤثرات الخارجية والداخلية. وذلك عندما أن يكون الإنسان فى ظروف ترف اجتماعى تسمح له بأن ينعزل عن حاجاته اليومية فلا يطلبها فى العمل الفنى، كما يكون بعيدًا عن الإرهاق الذهنى والجسدى والمشكلات النفسية والاجتماعية، وهذا وإن كان يتطلب وضعًا مثاليًا، فإنه يحوّل النظرية إلى نظرية مثالية، وإن كانت هى بالضرورة غير ذلك.
فما يطرحه "زكى نجيب محمود" من خلال رؤيته لهذه النظرية إنما يعيدنا إلى نوع من المثالية الذاتية، والتى كان يريد أن يدحضها ويرد عليها، سواء فى "خرافة الميتافيزيقا" - ورأيه فى القيم الجمالية - أو فى حديثه عن الشعر أو الفن.
إن الموقف الجمالى الذى يجب أن يعيشه المتلقى للعمل الفنى إنما يعنى أن العمل الفنى يتم تلقيه فى ذاته، دون الرجوع إلى شئ خارجه. وإذا كان تقويم العمل الفنى يجب أن يتم عبر وسائط فنية، فإن هذا لا يعنى أن الفن ينعزل تمامًا عن مبدعه، أو عن الواقع الاجتماعى، وليس بالضرورة معناه تجاهل الفنان لكل ما يدور حوله من حوادث ومواقف سياسية واجتماعية، وحروب .. وغيرها.
إنّ "الخلق" أو الإبداع لا يتم فى فراغ، وليس بعيدًا عن الواقع، كما أن العمل الفنى يحمل بالضرورة بصمات مبدعة - سواء بشكل مباشر أو غير مباشر - وإنّ علاقة جدلية تقوم بين المبدع من جهة، والمتلقى من جهة أخرى عبر عمل فنى محدّد، وإذا كان التركيز على العمل الفنى مفيد فى تحليله وتشريحه، فإن هذا يمثل جزءاً من النقد، وليس كل النقد.

الشعر والشعراء
ما الشعر؟ ما مادته، وما طبيعته؟
يرى "زكى نجيب محمود" أن مادة الشعر هى الكلمات. وإذا كانت الكلمات فى طبيعتها الأولى رموزًا تواضع عليها أبناء الجماعة الواحدة لترمز إلى شئ سواها، ولكن هذه الأداة اللغوية سرعان ما تحوّلت عن طبيعتها الأولى فأصبحت لها طبيعتان، أما الطبيعة الثانية فهى أن تقف عند حد الأداة اللغوية ذاتها، لا تنفذ منها إلى شئ وراءها، أى أنها مطلوبة لذاتها. والشعر هو هذه الحالة الثانية، فلئن كانت مادة الشعر الكلمات، إلا أنها كلمات نسقت على نحو يمتع السمع لما فيها من صفات، ليس بينها صفة كونها مطابقة للأشياء والحوادث كما هى واقعة فى دنيانا التى نعيش فيها، فإذا كان بين الشعر من جهة وأشياء الواقع من جهة أخرى تطابق، فهو تطابق غير مباشر. وليس هو التطابق الذى يكون بين اللغة والأشياء فى أحاديث التفاهم التى نألفها فى حياتنا اليومية الجارية. (24)
فإذا كانت اللغة فى الحياة اليومية، وفى النثر عمومًا، تشير إلى أشياء موجودة فى الواقع، وإنها أداة للتفاهم، أى أن الدلالة تكون من أهم مقوماتها وهذه هى الطبيعة الأولى للغة، أما الطبيعة الثانية للغة، وهى اللغة الشعرية وهى الكلام الذى لا يراد به الإشارة إلى الواقع.
يقول "بارتون جونسون": فى "اللغة العادية غير الفنية يفسّر مضمون النص عامة على حدود شفرة مفردة، ولكن العلاقة - فى الأعمال الفنية - بين النص والنظام تكون - بالقطع مختلفة".(25)
ولكن اللغة الشعرية لم تتوقف عند هذا الحد، بل تجاوزت ذلك إلى اللغة اليومية، وتحولت لغة الحياة اليومية على أيدى شعراء مثل (ت. س. إليوت) وأتباعه من الشعراء العرب - "صلاح عبد الصبور"على سبيل المثال - إلى لغة شعرية "كانت بذلك أكثر اتّصالاً بالعصر والظروف الاجتماعية، بعد أن صار العصر هو "عصر الإنسان العادى، لا عصر الملوك والأبطال الذين يخرجون على الطبيعة ويصنعون أشياء خارقة وغير عادية".(26)
الجدير بالذكر أن "زكى نجيب محمود" فى "قشور ولباب" قد رأى أن لغة النثر يجوز أن تستخدم فى الشعر .. بل يستحيل أن يكون ثمة فارق جوهرى بين لغتى الشعر والنثر .. فكلاهما أداة بعينها، وكلاهما يخاطب عضوًا بعينه، ويمكن القول أن ما يكسو كليهما من الجسد قوامه مادة بعينها ونزعتاهما متقاربتان، بل تكادان تكونان متطابقتين، وليس يلزم أن يختلفا بالضرورة من حيث الدرجة. إن الشعر لا يهمى من العبرات ما يشبه عبرات الملائكة ولكنه يسفح دمعًا آدميًا طبيعيًا، إنه لا يستطيع أن يفاخر النثر بأن دماءً مقدسة تجرى فى عروقه فميّزت دماءه من دماء النثر، إذْ يدبّ فى عروقهما على السواء دم بشرى واحد. (27)
وهكذا نجد أن لغة الشعر ولغة النثر عنده تعودان للتقارب، وينزع عنهما الاختلاف، بعد أن كانتا متباينتين ..
ويعدّ التفرد أهم مايميّز الشعر - بل مميزات الفن على اختلاف أنواعه - وهو التفرد الذى لا يقبل التكرار، لا فى ماض ولا فى حاضر ولا فى مستقبل. (28)
وكذلك يرى أن أهم ما يميز الشعر عن غيره من الفنون - هو الحركة - فالشعر - عنده - كالموسيقا يملأ فترة من زمن، فلابد من امتداد زمنى، طال أو قصر، لقراءة القصيدة من الشعر، ولذلك كان أنسب ما يناسب الشعر هو ما يمتد على فترة من زمن، أعنى حركة وفعلاً تتطور أجزاؤه بحيث يستلزم طولاً زمنيًا لتمامه. وإذا كانت عبقرية التصوير وعبقرية النحت - على حد تعبيره - هى فى تجميد لحظة معينة فى مكان ثابت، فإن عبقرية الشعر فى إبراز الفاعلية والنشاط الحركى الذى ينساب على سلسلة من لحظات متعاقبات. (29)
وإذا كان النقد العربى القديم قد رأى أن أعذب الشعر أكذبه، فإن "زكى نجيب محمود" - تحت عنوان، أعذب الشعر أصدقه يحاول أن يفند هذا الرأى ويرد عليه. فيرى أن "ماكولى" (1808 - 1859) رأى أن الصدق هو مقياس الشعر الصحيح، فقد كان "هوميروس" صادقًا حين صور الحروب كما صورها، ورسم الأبطال كما رسمهم. وكذلك كان ("جون رسكن" 1819 – 1900) يرى أن الصدق أساس جودة الشعر. ويؤكد "زكى نجيب محمود" على هذا الرأى بقوله وهكذا يرى الناقد المثقف البصير أن أعذب الشعر أصدقه. (30)
ولكن أى نوع من الصدق؟
هل هو الصدق الفنى؟ أم الصدق الواقعى؟
إنه لا يوضح بدقة أى صدق يرى، وكذلك يمكننا أن نطرح سؤالاً:
ما هو الصدق! وما المعيار الذى نستطيع أن نقوم به هذا الصدق ونستدل به عليه إذا كان موجودًا فى العمل الفنى أم لا؟
وألا يتعارض ذلك مع رؤيته للإبداع، ونظرية الخلق، إذْ يكون الحكم على العمل الفنى من داخله (أى حكمًا شكليًا)، كما أن الفن - من وجهة نظره كما أسلفنا فى عرضنا - ليس محاكاة أو تعبيرًا عن انفعال..
ولنتجاوز ذلك إلى تعريف الشاعر…..
يقول "زكى نجيب محمود"(31) وليسمح لى القارئ أن أسأل: ماذا نعنى بكلمة شاعر؟ من هو الشاعر؟ ومن يخاطب بشعره؟ وأى عبارة ترجى منه؟
ثم يجيب بأنه إنسان يخاطب الناس. وقد أوتى أرهف إحساس، وحماسة أحر، وشعورًا أرقّ، ودراية أشمل بطبيعة البشر ونفسًا أوسع أفقًا مما يحتمل أن يكون لعامة الناس. ويتميز الشاعر بميل إلى التأثر أكثر مما عداه بالأشياء الخافية كأنها بادية لناظريه،كما أن له مقدرة على أن ينشئ فى نفسه عواطف هى فى حقيقة الأمر أبعد شبهًا بالعواطف التى تنشأ بما يقع فعلاً من الحوادث .. كما أنه يتميز عن الناس بقابليته العظيمة للتفكير أو الشعور حين لا يكون تحت مؤثر خارجى مباشر يستثير ذلك التفكير أو الشعور، ثم هو يتميز عن كل الناس بمقدرته الفائقة على التعبير عن تلك الخواطر والمشاعر على نحو ما نشأت فى نفسه.
وإذا كان الشاعر يتمتع بهذه المميزات التى تفصله عن الإنسان العادى وتجعله قادرًا على نقل العواطف والمشاعر وترجمتها إلى عمل فنى، فإنه - أى الشاعر - أيضًا فى رأى مفكرنا هو بمثابة حلقة وسطى بين عالم المعانى الخالدة من ناحية، وعالم الحياة الجارية العابرة من ناحية أخرى. ( 32) ووظيفته هى أن يرد للناس أحداث حياتهم الواقعية إلى صورها التى تكسبها معناها وإلا كانت مادة الحياة الجارية حادثات تتصاحب أو تتعاقب بلا معنى ولا مغزى. وعلى هذا فإنه يستمد صوره الثابتة من عالم علوى. (33)
كما أن الشاعر ينتقل من المرئى إلى المسموع إلى رحاب نفسه، ليجد هناك وراء ذلك المحسوس الجزئى المقيد بزمانه ومكانه، عالمًا من صور أيدية خالدة لا تقتصر على زمان بعينه ومكان بعينه. وهكذا يفعل العالم لولا أن العالم يستخلص تلك الصور هياكل من علاقات مجردة، وأما الشاعر فيقدمها عامرة بالمضمون والفحوى. فتصبح بالنسبة لوقائع الحياة الجارية بمثابة النموذج من تطبيقاته .. ومن هنا كان الشعر هو الذى يضفى على الحياة وقائع معناها .. فلئن قيل أن الشاعر الحق يصور الحياة، فليس التصوير المقصود هنا هو تصوير المرآة للواقف أمامها، بل هو تصوير المثال الثابت للجزئية الطارئة.(34) ولكن ألا يعيدنا هذا الرأى إلى نظرية المثل الأفلاطونية، وكذلك إلى نوع من المحاكاة، محاكاة المثل الأعلى؟ وأكثر من ذلك تلك اللغة العقادية الواضحة فى بداية الفقرة.
وعندما يسأل: فماذا نطلب من الشاعر؟ يجيب:
أنطالبه أن يتقصى بعقله حقائق الأشياء فى ذاتها ليصفها كما هى فى الواقع، مستقلة عن حواس الإنسان؟ إنه لو فعل كان بهذا الوصف الموضوعى أقرب إلى الفلاسفة والعلماء منه إلى أصحاب الفن والشعراء. أم نطالبه بأن يصف دنياه كما تقع فى نفسه، مهما تكن هذه الصورة الذاتية بعيدة عن الواقع؟ نعم، إنه ينبغى الشاعر فى رأى الناقد ألا يكترث بالأشياء فى ذاتها، بل واجبه أن يصوّرها بالنسبة إليه، ولعل هذا يعيدنا أيضًا إلى النظرية التعبيرية والتى تتعارض مع نظرية الخلق والتى نادى بها. ويتأكد ذلك أيضًا عندما يرى أن الشاعر والصوفى سواء، فأداة الإدراك لديهما هى "الذوق أو الحدس، أو الرؤية المباشرة التى تواجه الحق مواجهة لا تدع لصاحبها حاجة إلى إقامة البرهان، وأما المعين الذى يستقيان منه فهو الذات من باطن"(35) وهنا يؤكد أيضًا أن الشاعر إنما يقوم بـ (التعبير) عن انفعال، وخاصة إذا رجعنا إلى ما ذكره - "زكى نجيب محمود" - عن إرهاف حسّ الشاعر وقدرته الفائقة على نقل المؤثرات التى تقع على ذاته من الحادثات وترجمتها إلى لغة الشعر. بل يقع التناقض الحادّ بين أفكاره عندما يرى أن الشعر كائنة ما كانت صورته يجاوز حدود الشاعر إلى سواه، وبذلك تتحول اللغة التى يتعامل معها إلى لغة إشارة، إذْ يتضمن هذا أن تكون كلماته شحنة منقولة من طرف إلى طرف ؟ أى أنه ينقل انفعالاً، وبذلك يكون الشعر تعبيرًا، ولا يصمد أمام هذا الخلط القول بأنه ينقل حقيقة خالدة ندركها عن طريق موقف جزئى .. هذه الآراء التى تناقض أفكاره السابقة وتؤكد وقوعه تحت تأثير العقاد.
إن الموقف من الشعر والشاعر إنما يعيدنا هنا إلى نظريتى المحاكاة، والتعبير، ولا يمسّ من قريب أو بعيد نظرية الخلق، وإذا كان (المفكر) يتوجس من شئ، فإنما يتوجس من ربط الشاعر والشعر بالواقع، وإذا كان قد رفض التعبير - كتعبير عن انفعال -، سواء فى صلته بداخل الإنسان فحسب، أو فى جدل الداخل مع الخارج، أى الفنان مع الواقع الاجتماعى، وذلك عندنا صاغ نظرية الخلق، إلا أنه هنا يعود إليها، وبدلاً من أن يجعل الشعر، أو الفن عمومًا بلا معنى - كما سبق أن أوضحنا، وأنه قائم بذاته، وأن القصيدة ليست أداة تنقل المشاعر إلى القارئ، فإنه يعود ويرى أن الشاعر ينقل المشاعر، ويتغنى للناس جميعًا وينقل (الحقائق الخالدة؟!).

الشعر والأخلاق
يقول "زكى نجيب محمود":
"مادة الشعر ألفاظ مما تستخدمه أنت واستخدمه أنا فى قضاء شئون حياتنا، لكن لكل لفظ جانبين، فله الدلالة المنطقية التى يشير بها إلى الأشياء، وله كذلك الغزارة النفسية وعلى هذا الجانب النفسى يرتكز الشعر".(36)
أى أنه إذا كانت الكلمات تعتبر رموزًا لأشياء، أو دالا عليها فى جانب كان الجانب الآخر لها هو الذى يعنى الشعر - من وجهة نظره - ذلك الجانب غير المنطقى، وغير الدلالى، إنه فى ما تحمله الكلمة من شحنات نفسية وانفعالية يجعلها تعبر عن الذات الإنسانية بكل ما يعتمل فيها.
وليست كل ألفاظ اللغة فى الغزارة النفسية سواء، "بل منها ما لا يجرى مع تيار المشاعر إلا بأقل القليل، وعندئذ يقتصر على دلالته المنطقية وحدها، ولكن منها كذلك ما يعب عبًا من تيار المشاعر حتى لتصبح اللفظة كنبضة القلب. ومن هذا النوع الغزير بأغوار الوجدانية ينسج الشاعر شعره"(37). وهذا يعيدنا مرة أخرى إلى القول بلغة شعرية، ولغة غير ذلك، أى لغة منطقية أو علمية. ولعل هذا يقودنا إلى تفرقته بين العبارة العلمية والعبارة الشعرية إذ يرى أن العبارة العلمية لا يدخلها لبس ولا غموض، ولا يتعدد تفسيرها عند القارئين، بينما المثل الأعلى للقول الشعرى هو أن يحمل من المعانى ما لا حصر له إذا استطاع الشاعر ذلك، بحيث تتعدد زوايا الرؤيا عند مختلف السامعين أو القارئين. (38)
وبناءً على ذلك فإن مهمة الشاعر عنده هى أن "يظهر عبقرية اللغة العربية، وأن يخرج إلى الآذان سرّها"(39) ولذلك فإنه يرى أن دعاة شعر العامية إنما هم من العابثين. وهنا نراه فى جملة قصيرة. يلغى بجرة قلم، تراثًا وحاضرًا من الشعر الشفاهى والمكتوب من "ابن عروس" و"النديم" "وبيرم" و"فؤاد حداد" و"صلاح جاهين" و"الأبنودى"، و"سيد حجاب"، من أقطاب الشعر الشعبى والمكتوب باللهجة الدارجة (العامية). وهو بذلك يكون أميناً على المواقف العقادية التى تأثر بها بحكم أنه كان من بطانته. بالإضافة إلى أن هذا يؤكد على قوله بأن الشعر ليس وسيلة لأشياء أخرى، خاصة إذا علمنا أن شعر العامية، بلهجته، وقوته الشفاهية، هو الأكثر تأثيراً فى الجمهور ..
وإذا كان الشعر ليس وسيلة لغاية أسمى، وأن الأولوية للشعر ذاته ثم تأتى بقية الأغراض عوارض طارئة على الجوهر فهذا بدوره يؤكد أن الشعر لم يخلق ليخدم الأخلاق. وذلك اعتمادًا على أنّ القيمة الجمالية، وقيمة الخير هما بمثابة مجالين منفصلين، ومهمة كل منهما تختلف عن مهمة الأخرى.
وفى إطار توضيحه لهذه الفكرة - فكرة أن الشعر ليست مهمتّه أخلاقية - يقول: "لنأخذ فكرة من الأخلاق، وصورة من الشعر، كى نتبين الفارق بينهما، تقول الأخلاق - مثلاً - بوجوب التعاون بين الناس، فيكون الهدف من قولها هذا هو أن نصلح حياتنا العملية، بحيث ندخل فيها التعاون إذا لم يكن قائمًا، ويعطينا الشعر صورة الرجل الذى يطلق عليه اسم "هاملت" لا لكى نصلح شيئًا فى حياتنا، بل لنفهم تلك الحياة كلما صادفنا بين الناس رجلاً شبيهًا بـ "هاملت".(40)
وعلى ضوء ذلك فإن مهمة الأخلاق تكون الإرشاد إلى السلوك السليم، بينما مهمة الشعر هى جعلنا أكثر فهمًا للعالم - فى رأيه - فإن ظهر أى تأثير أخلاقى للشعر، فإنما يكون عارضًا وبشكل غير مقصود.
وفى محاولة تأكيد هذه الفكرة يعود بنا لآراء "الفارابى"، والتى ترى أن الفن ليس هادفًا بطبيعته، ولكن ذلك لا يمنع أن تأتى منه النتائج السلوكية التى نريدها. ويرى أنه "لا مناص من التفرقة الفاصلة بين مجال الشعر من ناحية، ومجال الأخلاق من ناحية أخرى، فلكل مجاله ومعياره. وإن الشعر ليظل شعرًا سواء رضيت عنه مبادئ الأخلاق أم لم ترض ما دام قد حقق لنا ما تقتضيه طبيعة فنه فلا فرق عند الفنان بين أن يصور الشاعر فضيلة أو أن يصور رذيلة، طالما هو قد أجاد فى الحالتين. إن دنيا الشعر ترحب "بأبى نواس" ترحيبها بـ "زهير" وإن "ملتون" بفردوسه المفقود لشاعر فى الجانب الإلهى من قصيدته كما هو شاعر فى جانب تصويره للشيطان. (41)
إن معيار الشعر الجيد لا علاقة له بموضوع الرذيلة أو الفضيلة، فالشعر الجيد هو الذى ينجح فى تصوير الفاضل كما ينجح فى تصوير الشرير، و"زهير بن أبى سلمى" و"أبو نواس" مستوعبان فى الشعر بصرف النظر عن أن أحدهما "أخلاقى" والآخر "ماجن" ونجاح الشاعر فى تصوير الشيطان نجاح لشعره، بنفس الدرجة التى ينجح فيها فى تصوير الإله (كما فعل ملتون فى الفردوس المفقود). فوسيلة الشعر وهى اللفظ، وهى هدفه الأول والأهم. ودوره ينحصر فى كيفية استخراج عبقرية اللفظ فى جرْس ونغم وقدرة على الإيحاء.
ويلتقى "زكى نجيب محمود" هنا مع "ريتشاردز" فى قوله إنّ الفن بصفة عامة والشعر بصفة خاصة يعنى ما يعنيه بالإيحاء لا بالتوجّه المباشر، فقد توحى إليك قصيدة شعر بما توحى، فى الأخلاق وفى غير الأخلاق، على أنها فى الوقت نفسه قد توحى لغيرك بمعنى آخر، دون أن يكون أحدكما حجة على الآخر، ومن هنا يجئ للشعر ثراؤه فى تنوع التأويل. (42) أما محاولة العثور على معنى واحد وحيد قصد إليه الشاعر فهذا ضرب من المحال. بل - وأقول أنا - إن هذا يعد إفقارًا للشعر وتبسيطًا لطبيعته.
والشعر يهتم بالدرجة الأولى بوسيلة أدائه، ذلك أننا لا نسأل ماذا قال الشاعر؟ بل كيف قال؟ والوسيلة - أى الألفاظ - هى فى الوقت نفسه غاية، ومن الإجحاف أن نطالب الشعر بالخروج عن طبيعته ليخدم شيئًا سواه. إن الشاعر الذى يقدم عظة، أو إرشادًا إنما ينفى عن نفسه كونه شاعرًا. فالشعر من أخص خصائصه أن يقف عند الجزئيات المفردة، من سلوك أو مرئيات أو غير ذلك مما يجئ إدراكه محددًا بحدود المكان والزمان. ولو أراد الشعر أن يكون رسالة أخلاقية ضاع منا الشعر والأخلاق معًا. كما يستشهد برأى "ليسنج" فى أن الشعر فعل. وإذا كانت الأخلاق تأمر، فإن الشعر يفسّر، والشعر كاشف عما استتر من لواعج النفس وخلجاتها لا يفرق فى ذلك بين خير وشرّ. إنه يكشف الغطاء عما لا تراه العين العابرة من طبائع الناس. ومهمة الشعر أن يغوص إلى الأعماق الخبيئة ليرى الرواسب عند القاع فيخرجها من حالة الشعور المبهم الغامض، إلى حالة التصوير الواضح، ليرى الإنسان نفسه كما هى. إن الشاعر يصور لك فردًا معيّنًا أو حالة شعورية خاصة من حب أو كراهية أو غضب أو رضا فهو يقدّم لك العام فى الخاص - وهذا هو موضع الإعجاز فى الشعر. وإذا كانت الأخلاق تنهانا عن الرذيلة وتحضنا على الفضيلة، فإن الشعر يفتح أعيننا على منابع الرذيلة والفضيلة معًا. (43)
وهكذا لكى يؤكد "زكى نجيب محمود" رأيه فإنه يستخدم كل الوسائل المتاحة لكى يؤكد على تباين مجالى الفن بصفة عامة والشعر بصفة خاصة، من جهة، والأخلاق من جهة أخرى مستعينًا فى ذلك بآراء "لاكون" و"ريتشاردز"، و"ليسنج" و"الفارابى" وغيرهم. بل إنه رغم اختلافه فيما سبق مع اتجاه "التعبير" فى الفن، نراه يستعين بمقولات هذه الاتجاه من بعض جوانبه ما دام هذا يساعد على دحض الرؤية الأخلاقية للفن. ولقد كان حديثه عن فصل الشعر عن الأخلاق بمثابة ردّ على الاتجاهات اللاهوتية والتقليدية التى تجعل من الشعر أداة ووسيلة أو وعاءً تصب فيه المفاهيم الأخلاقية والدينية ولكننا لوعدنا إلى فترة الخمسينيات والستينيات فإننا سوف نتأكد من أنه كان ردّ فعل تجاه الاتجاهات التى تنادى بالالتزام، وربط الفن والأدب بالسياسة والواقع الاجتماعى.
و"الشعر محايد، يصور لك العبقرى والأبله على حد سواء، فهو كالشمس تشرق على الكائنات بغير تمييز. (44) أى أن الشعر لا ينحاز فى تصويره للرذيلة أو للفضيلة، وإنما الشعر الحقّ هو الذى يقدم لك كل النماذج بشكل جيد ومقنع، لكى يمتع المتلقى، ويجعله يعيش مع الشعر ككائن حى.
ويرفض "زكى نجيب محمود" أن يكون الشعر تعبيرًا عن نفس صاحبه، إذْ يرى أن الشعر الغنائى فحسب هو الذى يعبر عن نفس صاحبه، أما ضروب الشعر الأخرى فلا شأن لها بنفس صاحبها، لأن نفس الشاعر الفرد ليس لها كل هذه الخطورة فى حياة الناس. ويقول ساخرًا: "إذا كان الشاعر يعبر عن نفسه هو فكيف أمكن للشاعر المسرحى - مثلاً - أن يسوق فى مسرحية واحدة حشدًا من الأنفس المتباينة. فأى هذه الأنفس تكون نفس الشاعر؟ فى أى الأشخاص الذين صوّرهم "شكسبير" يعبر الشاعر عن ذاته. (45)
رغم أن قوله بأن الشعر لا يعبر عن نفس صاحبه يتّسق مع قوله بنظرية الخلق، إلا أنه يتعارض مع آرائه التى كان - فى الصفحات السابقة من مقاله الذى نناقشه الآن - يسوقها فى محاولة الرد على أن الشعر مرتبط بالأخلاق، وحيث قلنا إنه يعود إلى القول "بالتعبير" وذلك عندما يجده ملاذًا لحل المشكلة، أو وسيلة أسهل فى الإقناع بفصل الشعر عن الأخلاق. وإلا كيف ينفصل الشعر تمامًا عن صاحبه فى حين يعبر عن أعماق النفس، وكيف يصور الشعر فردًا معيّناً، وحالة جزئية شعورية خاصة، وفى نفس الوقت دون أى دافع أو صلة تتصل بصاحبه؟ ما الذى يدفع الشاعر إلى الانفعال فى هذا الاتجاه دون ذاك؟ أما القول بأن الشاعر المسرحى لا يعبر عن نفسه عندما يصوغ مسرحية ما على أساس تعدد الشخصيات وتباينها، بافتراض أنه لو كان يعبر عن نفسه لكان عبر عن ذلك من خلال شخصية واحدة، لا شخصيات متعددة. وهذا قول مردود عليه، إذْ من قال بأنه لا توجد شخصية ضمن الشخصيات لا تعبر عن الشاعر بشكل قاطع .. إن الشاعر يمكن أن يعبر عن نفسه من خلال شخصية معينة، كما أنه من خلال الحوار والصراع بين الشخصيات يكون العمل الفنى متجهًا نحو مضمون معين أو مضامين معينة، من يقول بأن هذه المضامين لا صلة لها أبدًا بالشاعر إنما يدفعنا إلى طرح سؤال عن الدافع الذى دفع الشاعر إلى التأليف المسرحى، هل هو مجرد خلق الشخصيات وجعلها تتصارع؟ أم أن هناك شيئًا، قد لا يكون مباشرًا وواضحًا بشكل كاف، هو الذى جعله يصوغ عمله بهذه الصورة. إن عملية الإبداع ليست معلقة فى فراغ، وليست ضربًا من السحر، إنها خلق لعالم حىّ. هذا العالم الحىّ بالضرورة ذو صلة ما بالعالم الواقعى، بالعالم خارج الإنسان، وداخل الإنسان، وإن كان ليس صورة أو نسخة بسيطة منه لأنه لو كان كذلك، ما كانت هناك أهمية لوجوده، وانتفتْ صفة الإبداع عنه.
وفى حديثه عن الثقافة والإعلام(46) يرى أن الأصح أن تكون الخامة الفكرية وليدة ملاحظة الأديب لما يدور حوله ومع هذا الذى يلاحظه بنفسه، ويرفض وجود توجيه عام، من أى جهة، لميادين الخلق الأدبى والفنى وإلا فمن الذى وجه "توفيق الحكيم" نحو مضمون "عودة الروح" و"أهل الكهف"، ومن الذى وجه "نجيب محفوظ" فى (ميرامار) و(ثرثرة فوق النيل)؟ من الذى وجه "محمود حسن اسماعيل" بمادة شعره، ومن الذى طلب من "صلاح عبد الصبور" أن يكتب عن (الحلاج)؟ فليس لأى جهة أن توجه الكاتب إلى مضمون معين، كما أن الكاتب ليس من شأنه أن يقدم للناس أحكامًا عامة عن سلوكهم .. إنه أشبه بالكيماوى يقوم بتحليل المجتمع وأخلاقياته، والأحداث فى عرض الأديب لها وسبكه إياها هى التى تنبئ عن نفسها، دون أن ترد فى السياق نفسه عبارة إرشادية واحدة. وحسبنا نحن القراء أو المشاهدين أن نخرج بانطباع الساخط أو الثائر، إذا كان المعروض أمامنا حقيقياً بالسخط والثورة منا وليس فى وسعنا أن نحدّد للأديب الخلاّق طريقة تحليله وعرضه لما تناوله هو بالعرض والتحليل، ومن يدرى؟ لعله أن يحقق فضيلة العفة التى نريدها عن طريق العرى السافر للأجساد، إذا كان هذا العرى مدعاة للتقزز والنفور، وكثيرًا ما يحدث، إنه لم يكن فجورًا من رجال الفن حين نحتوا ما نحتوه، أو رسموا ما رسموه من أجساد عارية. ولم يكن فجورًا من أديب مثل "د. هـ. لورانس" حين كتب ما كتب من أدب مكشوف ليدعو به الناس إلى حياة طبيعية أرادها لهم مَنْ خلقهم بشرًا فيهم طبيعة البشر، كلا ولا هو من قبيل الفجور ما يعرض على مسارح أوروبا من صور الانحلال والعبث، لأن حياة هذا العصر التى تهتكت إذا لم تعرض على هذا النحو فكيف تعرض؟ أنضع المرآة أمام القرد لنرى غادة حسناء. إذا كان هدفنا الأخلاق أو السياسة فلنقصد إلى الأخلاق والسياسة مباشرة.
وهكذا يقف "زكى نجيب محمود" فى مواجهة الاتجاهات اللاهوتية التى تربط بين الأدب والأخلاق، وكذلك فى مواجهة الذين لم يروا الفن بوضعه الطبيعى بل رأوه مجرد وسيلة لشئ آخر.
وإذا كان الفنان، الشاعر أو الأديب ليس داعية للأخلاق، وليس موجهًا من أحد بل هو ينطلق من قناعاته ومفاهيمه الخاصة، وليس أداة دعاية لاتجاه سياسى محدد. فما هو موقفه تجاه الواقع.؟ إنه لا يرشدنا إلى سلوك، ولكنه قد يوحى بهذا السلوك، إنه لا يطلب الثورة والغضب، ولكنه قد يثير الثورة والغضب إنه قد يهدف إلى تعديل النظام القائم، ولكنه - من وجهة نظر "زكى نجيب محمود" كمفكر مسالم - لابد له من احترام القوانين، واحترام النظام القائم حتى يتم تعديله أو تغييره عن طريق الإقناع والاقتناع(47) مقتديا فى ذلك بموقف "سقراط" الذى تجرع السمّ حتى لا يخالف القوانين التى لا يوافق عليها. إنه هنا يفصل أيضًا فصلاً حادًّا بين دور الفنان والثورى. جاعلاً الثورى هو السياسى فحسب، وإن "زكى نجيب محمود" الذى يكرر فى العديد من مقالاته بعده عن السياسة رغم أن هذا الموقف السلبى هو بالضرورة موقف سياسى، يبدو كمفكر مسالم يفكر فى هدوء بعيدًا عن المواقف الفاصلة والتى تفرضها ضرورة كون إنسان ما ثوريًا.

موقف من الشعر الحر
يقول "زكى نجيب محمود":
"لقد كان محالاً أن يتغير الجو الثقافى فى العالم كله كل هذا التغيير الذى طرأ عليه فى القرن العشرين بصفة عامة، وفى العشرات الأخيرة من السنين من هذا القرن بوجه خاص دون أن يجد ذلك صداه فيما يقوله كل متكلم مثقف، لا فرق بين شاعر وناثر. ذلك أن عوامل كثيرة، وفى مقدمتها الوثبة العلمية فى المائة والخمسين عامًا الأخيرة، وهى وثبة غيرت من وجه الحياة ما لم تستطع أن تغيره آلاف الأعوام قبل ذلك".(48)
لقد كان للتقدم العلمى أثره الكبير على تغيير وتطوير أدوات الإنتاج مما أدى إلى تغير فى طبيعة العلاقات الإنتاجية وإلى التغير فى طبيعة العلاقات الطبقية فى المجتمع، الأمر الذى جعل الفنان يعيش نمطًا من العلاقات، ومن الحياة يختلف عما كان سائدًا من قبل، وبالتالى كانت هناك ضرورة بأن تتغير لغة الخطاب، أى يتأثر الفن والأدب بما حدث. وذلك لأن الفنان إنسان يعيش فى مجتمع، ويتأثر به ويؤثر فيه. هذا وإن كان (مفكرنا) يحاول جاهدًا عدم الإشارة إلى التغيرات الاجتماعية - رغم أنها جوهرية فى علاقتها بالفنان - فإن ذلك كان فى إطار محاولة اتساقه مع منطقه الخاص، والذى يفصل الفنان عن مجتمعه، وإن كان هنا لم يستطع قطع الأواصر نهائيًا بين الفنان أو الشاعر وعصره ومجتمعه مهما كانت اللغة التى يتحدث بها حيادية.
ويرى "زكى نجيب محمود" أن الشعراء المحدثين، قد وفّقوا فى القبض على حقيقة الشعور الإنسانى اليوم بإزاء الدنيا المعاصرة وأحداثها وضواغطها وكوارثها، كما وفقوا فى تجسيد كثير من القيم الشعرية التى أجمع عليها البصيرون بأسرار فن الشعر، كالوحدة العضوية بكل معناها، وكالتعبير بالصور تعبيرًا غير مباشر عما يراد الإيحاء به من المعانى دون التصريح الوعظى المباشر السخيف، وتشخيص الحقائق الكونية العامة فى خبرات نفسية جزئية محدّدة، هى الخبرات التى تمرّ بتجربة الشاعر نفسه دون ملق أو كذب أو رياء، وإنها لصفات كانت تنقص عددًا كبيرًا ممن كانوا ينظمون الشعر على منوال التقليد.
لقد قبض الشعراء الجدد أمثال "عبد الصبور"، و "حجازى" و"السياب"، وغيرهم على حقيقة الشعور الإنسانى، وكانوا أكثر قدرة على التعبير عما يجيش فى نفس الشاعر على عكس التقليديين الذين لم يوفقوا فى ذلك.
ولكن الناقد الكبير يستدرك، لينزع هذه الميزة من الشعراء الجدد (المحدثين) فيرى - بعد قوله بصدقهم فى الأسطر السابقة - أن منهم الصادق ومنهم الكاذب فى تعبيره عن تجربته الحيّة، كما أن من التقليديين من صدقوا فى التعبير، ومن قلدوا أو كذبوا، وبذلك - رغم كل ما قيل سابقًا - يستوى القديم والجديد، فليس الأمر أمر محدث وتقليدى، ولكنه أمر شاعر صادق وشاعر كاذب. مع أننا نرى أن مقولة الصدق والكذب فى الشعر لا طائل من ورائها، ذلك لأنه لا وجود لمعيار محدد لقياس ذلك. كما أنه لا وجود لصدق مطلق، وكذب مطلق. وكذلك لم يشر "الناقد" إلى نوع الصدق، هل هو الصدق الفنى، أم الصدق المطابق لمنطق الحياة، كما سبق أن أوضحنا ذلك فى موضع سابق.
وبعد أن يكون قد قدم، ما رآه، إشادة بالشعر الحرّ، نجده يتقدم ليحدّد - من وجهة نظره - نواقص هذا الشعر. إذْ يقول: "فكثيرًا ما يوغلون فى الإيحائية إلى حدّ الغموض المغلق الذى لا يوحى بشئ على الإطلاق، وكثيرًا ما يسرفون فى التشاؤم واليأس إلى حدّ الإغراق الذى لا يصدقه أحد. فلا ترى عندهم إلا الخراب والموت والفساد والوحل والحطام والعفن والانهيار والمرض والشلل والضياع والبيوت المهجورة، فهل هذا السواد القائم كله هو ما نحسّه حقًا فى حياتنا المعاصرة، لاسيما حياتنا نحن العرب، وهى الحياة التى تشيع الأمل فى أنفس الناس جميعًا، فهى إن كانت حياة كسيحة اليوم فلنا كل الأمل فى أن تستقيم وتنشط غدًا"(50).
إن هذا النقد هو أكثر أنواع النقد شيوعًا من أعداء مدرسة الشعر الحرّ، خاصة لو أننا قرأنا شعر تلك الفترة - منذ بداية هذا النوع من الشعر، حتى الستينيات - لوجدنا أنه لم يكن ممتلئًا بالغموض، والإيغال فى الإيحائية، بل كان أبسط كثيرًا من الشعر فى السنوات التى تلت، وكل ما حدث هو كونه شعرًا جديدًا على الذائقة الجمالية التى تدربت على الشعر التقليدى. وهنا يجدر بنا أن نفرق بين الغموض والعمق، وقد يكون استغلاق هذا الشعر على "ناقدنا" بسبب دخول الأسطورة والتضمين، والتناص، والرمز، وغيرها مما انتشر فى الشعر الحر، ويحتاج إلى تأنّ فى قراءة القصيدة. والإحاطة بأمور شتى خارج نطاق العمل الفنى حتى يمكن استجلاء مكنونه. ويمكن الإشارة هنا إلى "الأرض الخراب" للشاعر ت. س. إليوت. أو شعر "صلاح عبد الصبور" خاصة فى ديوانه "أحلام الفارس القديم" أو أنشودة المطر "للسياب" وغيرهم.
ويرى "زكى نجيب محمود" أن هؤلاء الشعراء لم يقعوا فحسب فى هذا الغموض المعيب، والكذب!! على أنفسهم وعلينا، بل هناك ما هو أسوأ فى تقديره، وهو ضعف البناء اللفظى. والشعر هو قبل كل شئ - فى رأيه - (فن لفظى يستخدم الألفاظ لذواتها قبل أن يستخدمها لما تعنيه!). ولكن كيف كان شعرهم معيبًا من ناحية البناء اللفظى؟ يستدل على ذلك عن طريق كون هؤلاء الشعراء لا يحفظون شعرهم، ولكن هل هذه حقيقة عامة لدى كل الشعراء. نحسب أن "داعية الوضعية المنطقية" لم يوفق فى هذا التعميم الذى لا أساس له، كما أنه لا علاقة له بالموضوع المراد مناقشته. إنه إذْ يؤكد على شرط الصياغة الشكلية فإنه هنا يقف ضد الشكل الجديد، والذى تحكمه قواعد تختلف عن الشكل القديم، بل إن متغيرات شتى ظهرت نتيجة لتغيرات الواقع والتفاعل بين هذا الواقع وبين الشعر الحرّ.
لقد تغيرت الحياة وتغير الشعر أيضًا، ولكن هل يكون التغير فى المضمون أم فى الشكل، أم تغيرّاً شاملاً؟ وهل ينفصل المضمون عن الشكل؟ إن ناقدنا الذى يرى أن العالم قد تغير فى بداية مقاله "نظرة محايدة إلى قضية الشعر الجديد" ويرى ضرورة تغير الشعر بناءً على ذلك، يعود فيرفض أى تغير أو تطور فى الشعر، شكلاً أو مضمونًا، بل يقف به عند اللفظ، وعند الرؤية التقليدية للشعر. لماذا؟ لأنه رغم التعلق بالتقدم العلمى، لا يريد أن يكون هذا التغير (سببًا، ونتيجة أيضًا وموازيًا) للتغيرات فى المجتمع وفى الفن. وإنه رغم امتداحه لما وقف عليه (الشعراء الجدد) من القبض على حقيقة الشعور الإنسانى اليوم بإزاء الدنيا المعاصرة.. إلخ، فإنه يرى ضرورة فصل الشعر عن الشاعر، وعن الحياة فى الصفحات التالية، وهنا تتحول الميزة إلى عيب، وذلك لأن ما قاله سابقًا لو سار فى طريقه الصحيح، فإنه بالضرورة سوف يربط الشاعر بواقعه، ويجعل له دورًا فى الحياة، وهذا ينسف الرأى التقليدى المعادى للشعر الحرّ، والذى يفصله فصلاً تامًا عن الواقع، ويجعل مهمته مجرد (الحفاظ!) على اللغة العربية وأى حفاظ!: كما أن هذه النظرة ليست نظرة محايدة للشعر الحر، بل هى نظرة مضادة له، ويبدو واضحًا أثر الاتجاهات التقليدية للجنة الشعر - آنذاك - بين ثناياها.
وفى إطار الهجوم على الشعر الحر يكتب تحت عنوان: "التجديد فى الشعر الحديث" مرتكزًا على التحليل اللغوى لمعانى الألفاظ، ينفى أن يكون فى الشعر - أى شعر تجديد - وذلك بقوله أن التجديد يعنى زوال القديم، كأن - فى رأيه - أن ظهور "المتنبى" يستلزم أن يزول "أمرؤ القيس"، مؤكدًا أن شأن الشعر كشأن سائر الفنون كلها "يجئ الجديد ليضاف إلى القديم إضافة الشقيق إلى شقيقه فى الأسرة الواحدة".(51)
ولكن رغم عدم انطباق مثال "المتنبى" و"أمرئ القيس" على ما يحدث فى الشعر الحر، إلا أن الشعر فى هذا العصر بالضرورة يختلف عنه فى العصر الجاهلى، ذلك لأن الحياة بكل ما فيها قد تغيّرت، بل ما حدث هو بمثابة انقلاب. ولا نظن أن الشاعر مطالب بالتزام نفس الشكل أو المضمون السابقين، كما أن استمتاعنا بالشعر القديم أو الفن القديم لا يعنى أبديته أو استمراره والسير على منواله، بل يعنى أن ذلك الشعر كان تعبيرًا عبقريًا عن الحياة فى عصره: وليس هناك ما يبرر تقليده، بل انسجامًا مع هذا الموقف تكون ضرورة الثورة عليه.
وبعد مناقشة طويلة ومقارنة بين بعض الأسماء الشعرية التى تمثل أنماطًا مختلفة من الصياغة الشكلية، والرؤية، فى محاولة للفصل فى أمر ما هو الجديد فى الشعر الجديد؟ يصل "زكى نجيب محمود" إلى القول: "على كل حال إننى أصرّح بأننى عاجز عن رؤية المميز الشعورى الذى من أجله كان الجديد المزعوم فى الشعر جديدًا. (52) ومن ثم يستدرك قائلاً: "لكن الذى لا تخطئه العين هو الاختلاف فى الشكل، فى القالب، فى الإطار .. فالجديد يتخفف من الالتزام الشكلى، فهو إن حافظ على شئ من الوزن، فهو لا يريد أن يلتزم القافية، فمهما يقل الشعراء الجدد، ومهما يقسموا بالله العظيم.. أنهم ينظمون شعرًا موزونًا، فلا أظنهم ينكرون أن مدى التزامهم أقل من مدى التزام الشاعر الذى يحافظ على عمود الشعر الموروث"(53) .. ويرى أنه إذا كان التخفف هو السمة المميزة، فإن ما يسمى بالجديد هو محاولة أريد بها أن تكون شعرًا لكنها لم تبلغ أن تحقق لنفسها ما أرادت، والفرق عندئذ لا يكون فرقًا بين شعر جديد، وشعر قديم، بل يصبح الفرق فرقًا بين الشعر وما ليس بشعر على الإطلاق، لأنّ الذى يميّز الفن فى شتى صنوفه هو "الشكل" الذى صبّ فيه موضوع ما، ولو انهار الشكل لم يعد الفن فنًا، حتى وإن بقى الموضوع كله بحذافيره لم ينقص شيئًا، هذه مسلمة يستحيل بغيرها أن نمضى فى المناقشة خطوة واحدة، وليس الشعر بدعًا بين هذه الفنون. (54)
إن الفرق بين النمطين من الشعر هو - فى رأيه - فرق فى الشكل، ولكنه لا يرى فى الشعر الحر شعرًا لأنه - على حد تعبيره - تخفف من الالتزام (بالموروث) الذى يحافظ عليه الشعر التقليدى. وإن الشكل هو جوهر الشعر. ولكن أى شكل؛ إنه الشكل الموروث. والشعر الحر أليس له شكل هو الآخر؟ إنه فى رأيه بلا شكل!! وقد خرج عن دائرة الشعر لأنه (إذا انهار الشكل لم يعد الفن فنًا)!!.
إن المعضلة إذن تكمن فى عدم الرغبة فى أن نسمى ما يصب فيه الشعر الحر (شكلاً)، وذلك اتساقًا مع الرؤية الشكلية - ولكنها الرؤية الضاربة بجذورها فى التقليدية، هى التى تجعل المفكر الكبير. يرفض هذا الشعر على أسس غير حقيقية وغير منطقية. فمعروف أن الشعر الحر له (شكل)، ويستحيل أن يكون بغير ذلك، وقد درس هذا الشكل كثيرًا فى النصف الثانى من القرن العشرين، وكان له من المنظرين من قدّم دراسات عميقة حول ذلك وقد دارت معارك ضارية بين النقاد فى هذا الشأن ولكن أن يثبت مفهوم الشكل فى الشعر عند نقطة ثابتة تتعلق بالموروث!! وهل كان هذا الموروث ثابتًا دائمًا ولم يداخله التطور، وما موقع ما قامت به الموشحات الأندلسية، ومدارس المهجر وأبوللّو - وغيرها، والتى كانت مقدمات للتغيير الجذرى الذى حدث فى مدرسة الشعر الحر .. وإذا كان "زكى نجيب محمود" يرى أنه من المستحيل علينا أن نقول عن قصيدة أنها حققت شكلاً ما فى ترتيب كلماتها، إلا إذا كان فى وسعنا أن نستخرج (قاعدة) يمكن وصفها للآخرين، بحيث إذا أراد واحد من هؤلاء الآخرين أن يسير على القاعدة نفسها استطاع ذلك".(55)
إن الرد الذى قال به الشعراء الجدد هو أن التفعيلة هى وحدة الوزن ولكن هذا الرد لا يشفى غليل ناقدنا ويرى أن الشعر التقليدى أيضًا يكرر التفعيلة الواحدة. ولكن الذى لم يشأ أن يذكره هو أن التفعيلة فى الشعر التقليدى تتكرر وفق عدد محدد فى كل شطر لا يزيد ولا ينقص فى البحر الواحد، أما فى الشعر الحر فإنها تتكرر وفق إيقاع داخلى نفسى يمليه موضوع القصيدة ومجالها الانفعالى. والجدير بالذكر أيضًا أن تطوّرًا كبيرًا حدث فى شكل القصيدة - وقد عاصره "زكى نجيب محمود" - ولم يقف الأمر عند مجرد تغير عدد التفعيلات فى القصيدة، فقد ظهر التدوير، وجاء استعمال التكرار، والحذف، والتضمين من نص آخر بما يمثله هذا النص من تباين فى الإيقاع وما يحدثه من صدمة لدى المتلقى - هذا عدا وظائف التضمين الأخرى. (56) كما أن القول بأن دور الناقد أو المنظر الجمالى هو استخراج قاعدة لأى نوع من أنواع الفن لكى يسير على هداها من يريد أن يكون فنانًا، فهذا منطق معكوس، ذلك أن الفنان هو الذى يبدع، والناقد يأتى دوره فيما بعد، والقاعدة المستخرجة ليست ملزمة إلزاما مبرمًا لمن يأتى، بل الأصح هو أن يأتى فنان آخر (أو شاعر آخر) ويغير، ويطورّ، وأحيانًا يدمّر هذه القاعدة، وذلك لكى يبدع جديدًا. أما ما يراه (ناقدنا) فإنه يعنى أن يكون الفن عمومًا (والشعر خاصة) يسير على قاعدة واحدة من الأزل إلى الأبد. بل وأى فن جديد لا تنطبق عليه القاعدة لا يكون فنًا، لأنه فقد شكله (الشكل التقليدى)، وهذا لا يقف ضد الإبداع وحسب، بل يعيدنا إلى النظريات التقليدية والتى لا ترى فى الإمكان أبدع مما كان.
يقول زكى نجيب محمود:
"جوهر الفن كائنا ما كان موضوعه - والأدب جزء من الفن بمعناه الأوسع - هو الشكل الذى أقامه الفنان إطارًا يبث فيه المضمون الخِبْرى (من الخبرة) الذى أراد أن يجسّده للعين أو الأذن. والشكل أو الصورة (Form) تبعًا لذلك هو - أو ينبغى أن يكون - موضع النظر بالدرجة الأولى عند الناقد .. ليس المراد بداهة أن تعرض على الناس أشكالاً خالية، بل لابد لهذه الأشكال أن تجئ مترعة بالمحتوى. لكن هذا المحتوى نفسه قد نعرضه سائبًا لا تضمه "صورة" فيظل معناه قائمًا، لكن لا يعود الفن عندئذ هو وسيلة نقل المعنى .. فكما أن الشكل وحده لا يكون شعرًا، فكذلك المضمون الحياتى وحده، متحللاً من قالب الشكل لا يكون شعرًا كذلك. (57)
أى أن الشكل هو الجوهر، وإن كان لابد أن يكون هذا الشكل ممتلئًا بمحتوى إلا أنه هو الذى "يجعل الفن فنًا".(58)
ومع اهتمامه الواضح بالشكل فى الشعر، ورأيه - والذى سبق لنا مناقشته - عن عدم إنباء الشعر بشئ ما، وأن الشعر فنّ لفظى، إلا أنه يرى فى دراسته للشعراء (الشابى، والتيجانى، والهمشرى) أنهم أصحاب رسالة وهم لا يكفيهم أن يكشفوا عن السّر غطاءه، بل "يضطلعون بعبء المنذر أو البشير، لذلك تراهم يثورون علانية على حاضرهم الكريه، ويستنهضون الهمم إلى المستقبل المأمول، وأمثال هؤلاء الشعراء من أصحاب الرسالات الهادية، هم الذين نشبههم بقابس النار من السماء ليهتدى بها الناس ها هنا على الأرض".(59)
وإذا كان هؤلاء الشعراء من أصحاب الرسالات فإن ذلك قد استتبع أن يجئ شعرهم ابتداعى الطابع.. والشاعر هنا ينسج آنًا بعد آن عالمًا من محض خياله يعيش فيه. وبذلك فهم من أصحاب الشعر الجديد فى رأيه، ولكن بأى معنى. كما يقول: "لا بمعنى التخريب والتحطيم وإشاعة الفوضى، بل بالمعنى الوحيد الذى يجوز قبوله فى كل فنّ جديد، وهو المعنى الذى تجرى على سنته الطبيعة فى خلقها كل جديد"(60) وبعد أن يقدّم برهانه من التغيرات التى تحدث فى الطبيعة متناسيًا أن الطبيعة إنما تقوم بتكرار الفصول الأربعة بشكل آلى لا تغيير ولا تجديد فيه، وهذا عكس الإبداع الذى رآه فى (نظرية الخلق (إبداعًا على غير مثال) ويصل التناقض إلى نهايته عندما يستشهد بنصّ "للشابى" يقول عنه:
"ولكن هناك نزعة غريبة يدين بها بعض الناس ممن يحملون التجديد على غير محمله، ويفهمونه على غير المراد منه. فهم يحسبون التجديد أن يأتى الشاعر فى أسلوبه ومعناه بما لا عين رأتْ ولا أذن سمعتْ، ولا خطر على قلب بشر، وأن يخلق آثاره من عدم. ويأتى بها غير مسبوقة بصورة أو مثال، وهى فكرة غريبة لا نفهم كيف يستطيع اعتقادها فريق من الناس ولكننا نسوق إليهم هاته الكلمة الصغيرة: إن الحياة نفسها ليست إلا الحرية ترسف فى القيود، وسلسلة يتّصل فيها الطريف بالتليد ..". (61)
الإبداع هو أن يقدم الفنان شيئًا جديدًا، على غير مثال، والإبداع تعبير عن الامتلاء بالحرية وامتلاكها، وكون الحياة لا تمنحنا هذه الحرية فهذا ما يبرر البحث عنها فى الفن. إن النصّ السابق إنما جاء كرد عنيف على الشعراء الجدد، بل وكان فى سياق هجوم على ما كتبه "لويس عوض" فى مقدمة "بلوتولاند"، إذ يقول "زكى نجيب محمود" وإنى لأعجب أن تكون الحقيقة ناصعة فى الأعين صارخة فى الآذان ثم لا يراها ولا يسمعها - لا أقول من لا يستطيع رؤيتها وسمعها - بل من لا يريد لها سمعًا ولا رؤية، وإلا فكيف جاز لناقد معاصر أن يكتب ذات يوم تحت عنوان "حطموا عمود الشعر" فيقول ما نصّه إن الشعر العربى قد مات وإن من يشكّ فى هذه الحقيقة - أى والله هكذا أسماها حقيقة - فليقرأ "جبران" و"ناجى" وأمثالهما، ثم يقول: أما شعائر الدفن فقد قام بها "أبو القاسم الشابى" ضمن آخرين .. هكذا يقول الناقد الذى لا يريد أن يرى أو يسمع"(62) ثم يأتى "زكى نجيب محمود" بالنص الذى ذكرناه - سابقًا - ليكون ردّا على التجديد .
لقد كان "لويس عوض" يشير إلى "أن الشعر العربى قد مات بموت "شوقى" عام 1932 كما يقول .. وحقيقة الحال أن عمود الشعر لم ينكسر فى جيلنا، وإنما انكسر فى القرن العاشر الميلادى: كسره الأندلسيون"(63)، وقد كان رأى "لويس عوض" هو محاولة لتحريك الواقع الشعرى الراكد، وكان رأيه حلقة ضمن الحلقات التى نقلت الشعر إلى واقع يختلف تمامًا عن الشعر منذ الجاهلية حتى ذلك الحين.
وفى إطار نقد زكى نجيب محمود لديوان "أغانى مهيار الدمشقى"(64) "لأدونيس" نجده يقول: ومن أول الديوان إلى آخره، تصادفك الصور الشعرية المبتكرة والأصيلة، وأن القارئ ليصادف فى هذا الديوان صورًا غريبة، لكنها موحية، فقد يصف الصوت باللون "جرس أخضر" والصاعقة الخضراء. كما أن الشاعر يستخدم اللغة لا لتعنى شيئًا غير اللفظ، بل "لتوحى" إنه خير مثال للشاعر الذى ينقلك من عالم الصحْو إلى عالم الأحلام، إذ تراه يشيع فى قصائده جو الأحلام ورموزها، فلئن كانت اللغة ذات المعانى المحدّدة صالحة لمنافع الحياة اليومية وللتقارير العلمية، فليست هى اللغة الصالحة للشعر، فالشاعر "ملك والحلم له قصر" ثم يصل فى نهاية المقال إلى القول: "أما بعد فبأى معيار نقيس الشاعر؟ أنقيسه بمقدار ما يوحى لنا بروح يريد لها أن تملأ النفوس؟ إذن فهو شاعر، أم نقيسه بمدى توفيقه فى نحت الصور الجديدة المبتكرة، ومدى قدرته فى استخدام اللغة استخدامًا جديدًا .. إذن فهو شاعر، أم نقيسه بمقدار ما يرتبط بروح عصره إما قبولاً أو رفضًا، إذن فهو شاعر".(65)
وهكذا نجده يتخذ موقفًا إيجابيًا من شعر "أدونيس" الذى يهتم باللفظ، وبما يوحى، ويقدم صورًا بديعة مبتكرة، وينقلك من الصحو إلى الأحلام .. وهو شاعر رافض "خريطتى أرض بلا خالق .. والرفض إنجيلى" ولكن "زكى نجيب محمود" يستدرك بعد أن كال "لأدونيس" المديح كى يقول أن الحيرة فالحيرة تستبد به، فلا يصبح سبيل الرأى واضح المعالم حين ينظر إلى هذا الشعر الملغز الرامز الموحى بعد أن تكون قد مرّت عليه القرون تلو القرون .. فيسأل: أتظل عندئذ له قوته وعمق أثره، حين لا يكون حول الناس ما يضئ لهم الإلغاز وذلك الرمز؟ وهل يقف الناس موقف التعاطف مع شعر "أدونيس" بعد ألف وخمسمائة عام .. هنا يجيب ناقدنا بأنه "لا يدرى". وهكذا مرّة أخرى يظهر العداء الخفى فى مواجهة الشعر الحرّ. إنه لا يستطيع رفضه ولكنه كان فى أعماقه متشربًا روح التقليد والشكلية، التى تحول بينه وبين الشعر الحرّ - خاصة إذا علمنا أنه كان أحد أعضاء لجنة الشعر التى يرأسها العقاد، والتى كانت تحيل قصائد الشعر الحر إلى لجنة النثر.
إذا كان "زكى نجيب محمود" قد وقف موقفا إيجابيا من "أدونيس" إلى حد كبير، لولا هذا الاستدراك الأخير الذى شابه، والذى جاء نتيجة لموقفه العام من الشعر الحر، فإن موقفه من كل من "صلاح عبد الصبور"، و"أحمد عبد المعطى حجازى" كان عنيفًا وواضحًا. فنجده يقدم موقفه من قضية الشعر الحر (الحديث) من خلال رأيه فى شعر "حجازى" قائلاً: "القضية التى أكتب من أجلها الآن هى قضية الشعر الحديث كله. وإن تكن ركيزة القول قصيدة بعينها لشاعر بعينه. أما القصيدة فهى التى جعلت من عنوانها عنوانًا لهذا المقال، وأما الشاعر فهو الأستاذ "أحمد عبد المعطى حجازى" فى ديوانه (مدينة بلا قلب) (65). وهنا نراه يحاول البرهنة على موقفه من الشعر الحر من خلال قصيدة واحدة، وهذا أمر لا يقرّه منطقه هو نفسه، وقد تكرر ذلك فى مقاله: "ما هكذا الناس فى بلادى" والذى جعل القصيدة تعبيرًا عن الديوان، وعن الشعر الحر، ولم يلق نظرة عامة أو اهتمامًا بأى قصيدة أخرى.
ونقده الموجه إلى الشعر الحر فى الديوانين (ديوان صلاح عبد الصبور - الناس فى بلادى، وديوان حجازى - مدينة بلا قلب) أن الشاعرين لم يلتزما من موروث قواعد النظم إلا أهونها لكى يكونّ شعرهما شعرًا حديثًا. ولكنه مع "صلاح عبد الصبور" يقول لو أن الشاعر نوقش فى التزامه بالموروث لكان ذلك غبنا عليه لأنه يكون خارج حصنه، وبذلك فإن "زكى نجيب محمود" يرى أن يحلل القصيدة المنقودة من حيث المضمون. وقد رأى "صلاح عبد الصبور" فى ردّه على "زكى نجيب محمود" أن ما قام به ليس إلا منهجًا (مفقرًا) فهو "يحلو له أن يسميه (أى المنهج) بالمنهج التحليلى فى مواجهة المنهج التركيبى الذى يتبعه بعض الدارسين، وانسجامًا منه مع مذهبه المنطقى، ولكنى أضنّ على الدكتور بهذه التسمية لمنهجه، لأن التحليل فى المنطق غير التحليل فى الأدب، فالتحليل فى الأدب تحليل لغوى أولاً، ثم أسلوبى ثانيًا، وليس هو تحليل للمعانى والمعطيات التى يهبها كل بيت لقارئه وحده، ودون ارتباط مع الأبيات الأخرى. ومما هو جدير بالذكر هنا، هو أن تحليل المعانى، أو شرح القصيدة بهذه الطريقة - ومع التعسف فى فرض بعض الأفكار عليها - ينافى الطريقة التى يدعو إليها "زكى نجيب محمود"، وهى التحليل الجمالى الذى ينصّب على الشكل، وهو نفس الموقف الذى كررّه عندما أراد أن يؤكد أن وسيلة الشعر هى اللفظ وهدفه الأول، فذكر رأى "الخنساء" فى بيت من الشعر لحسان بن ثابت: (68)
لنا الجفنات الغرّ يلمعن بالضحى وأسيافـنا يقطرن من نجدة دمًا
وكان رأى الخنساء يتعلق بالمعانى الدالة عليها الألفاظ، فكان الطريق الذى يسلكه عكس الاتجاه المراد.
وبعد أن يحلل قصيدة "صلاح عبد الصبور" يصل إلى النهاية التى يقول فيها: "هذا هو شعور الشاعر إزاء الناس فى بلاده، لكن ما هكذا الناس فى بلادى، فإذا كان الشاعر قد باع القالب الشعرى ابتغاء مضمون، فقد ضيع علينا القالب والمضمون معًا".(69)
وينهى "زكى نجيب محمود" مقاله عن قصيدة حجازى بقوله:
"أما بعد فواخسارتاه هذه الطاقة الشعرية أن تنسكب هكذا كما ينسكب السائل على الأرض فينداح، وتسيل أطرافه هنا وهناك، دون أن يجد القالب الذى يضمه بجدرانه، فيصونه إلى الأجيال الآتية ليقول الناس عندئذ كان هناك شاعر شاب تكلم عن ذات نفسه فجاءت عباراته تعبيرًا عن قومه وعن عصره".(70)
لقد كان القالب الموروث هو الفيصل فى رأى "زكى نجيب محمود" ولقد ردّ على هذا الرأى "صلاح عبد الصبور" عندما كتب فى مقاله ما هكذا يكون النقد فقال "ويقول الناقد: إننى لم أتبع من قواعد الشعر إلا التفعيلة الواحدة، ولنسأله ما هى قواعد الشعر فى نظره، هل هى التناول الشعرى والتعبير بالصورة؟ هل هى عمق الإحساس وتجسّد الأفكار؟ .. لا - لكن قواعد الشعر عند الدكتور كما يتضح من كلامه هى الوزن والقافية فحسب".(71) وإنه - أى الشاعر - لم يضيع القالب ولا المضمون، وإن قصيدته موزونة كلها حسب تفعيلة بحر الرجز .. وإن قصيدته رغم عدم التزامها بوحدة القافية فإنها أغنى بالموسيقا المتميّزه من كثير من القصائد ذات القوافى الطنانة. (72)
وهكذا نجد أن "زكى نجيب محمود" فى موقفه من الشعر الحر كان مشدودًا إلى الموقف التقليدى، وموقف لجنة الشعر آنذاك، والتى كانت ترى هذا النمط من الشعر الحر أنه ليس بشعر بل كانت تتم إحالته إلى لجنة النثر، وإن تكن لهجته أقل عداء من لهجة أستاذه "العقاد" الذى أطلق على هذا الشعر - كلمة "الشعر السايب" أو من (صالح جودت) الذى رأى أن هذا الشعر (دسيسة قرمزية). (73) وقد قال العقاد: "إن الشعراء المحدثين يتعللون بالغيرة الشعبية، ويزعمون أن الشعر الموزون المقفى ترف "بورجوازى"(74) ورأى "عبد الصبور" أن هذا الكلام تفوح منه رائحة السياسة.
وإذا كان "زكى نجيب محمود" يرى أن الشعر الحرّ لا يحفظه حتى أصحابه، وأنه أقل تأثيرًا فى السامع، رغم أن هذا يناقض رأيه فى أن الشعر يجب أن يوحى لا أن ينبئ، إلا أن الإيحاء يتحول لديه إلى غموض، ويصبح الشعر الجاهلى شعرًا خالدًا بسبب قالبه أو شكله العمودى. ولكن مع تعقيد الحياة وتغير مهمة الشعر والشاعر، صار الشعر الحر فى رأى شعرائه ونقاده الذين نظّروا له وقدموه للجمهور لا يتجه إلى المستمع بقدر ما يتجه إلى القارئ - كما يرى عبد الصبور -(75) فالإنسان المستمع عادة يكون مستمعًا وسط جماعة، أما الإنسان القارئ فهو يواجه العمل الفنى مواجهة شخصية. وهذا الاختلاف واضح بين جمهور الشعر القديم وجمهور الشعر الحرّ هو الذى جعل الآنية القديمة - أى الشكل القديم - تضيق عن الخمر الجديدة فتنكسر الآنية، ثم يعاد تشكيلها، طمعًا فى الوصول إلى التعبير الفردى الذاتى، الذى يخاطب به الشاعر المفرد قارئه المفرد.

***

خاتمة
وفى النهاية فإننا نرى أن "زكى نجيب محمود" قد حمل راية القول بنسبية القيم، وعدم ثباتها، فى مواجهة الاتجاهات اللاّهوتية التى كانت تقول بالقيم المطلقة، وقد استند فى رؤيته هذه على تحليل العبارات الجمالية والأخلاقية، والتى رآها تعبيرًا عن انفعال، وأن الشخص هو الذى يضفى على الشئ قيمته الجمالية بناءً على رغبته، ولا وجود لشئ جميل فى ذاته، وكان ذلك اتساقًا مع رؤيته الفلسفية العامة. وكان يؤكد على أن العبارة الجمالية لا تحمل معنى، أى لا تشير إلى شئ يمكن إدراكه بالحواس، بل هى تعبير عن انفعال الشخص فى مواجهة الموضوع، ولذا فإننا لا نستطيع الوصول إلى تعميم، أو إلى مساءلة الشخص فى موقفه. وفى هذا الإطار فإنه قد دافع عن النظرية الانفعالية ضد منتقديها فقد كان رأيه مؤسسًا على هذه النظرية. كما رفض رؤية (جورج إدوارد مور) الأخلاقية - المؤسسة على أن إدراك الخير يكون عن طريق الحدس، ولكنه فى نفس الوقت استند إليه فى تقويضه للميتافيزيقا - فى الفصل التالى مباشرة من كتابه موقف من الميتافيزيقا.
والجدير بالذكر أن القول بنسبية القيم لدى "زكى نجيب محمود" يؤكد أنه كان يتحاشى الرؤية التاريخية والاجتماعية، رغم قوة هذه الاتجاهات فى التأكيد على نسبية القيم.
وعندما انتقل إلى القول بنظرية الخلق Creation أو الإبداع فى مواجهة نظريات (المحاكاة والتعبير) فإننا نراه هنا يواجه النظرية الانفعالية أو التعبيرية التى ترى أن الفن تعبير عن انفعال الإنسان (أى المبدع)، بالقول بأن العمل الفنى لا صلة له بداخل أو خارج الإنسان، وإنما هو إبداع شكلى محض، وبذلك يقوّض النظرية التى أقام على أساسها نظريته فى نسبية القيم، ولو مدّت الخطوط على استقامتها، فإن الذى يمكن قوله هنا بالنسبة للقيم الجمالية، هو أنها قيم وصفية أو تقريرية وهذا ما كان يردّ عليه، ويدحضه فى قوله بنسبية القيم.
كما أن قوله بنظرية الإبداع (الخلق) كانت تقوم على الفصل بين العمل الفنّى وكل ما عداه، أى المجال الاجتماعى والتاريخى، والمجال النفسى، والوقوف على الجوانب الجمالية فحسب فى العمل الفنى (أو الجوانب الشكلية بمعنى أدق). وهذا الرأى يجعل هذه النظرية (نظرية الخلق) لا تتسق مع القول بنسبية القيم. ذلك أن القول بالإبداع على غير مثال، مع وضع المؤثرات الداخلية والخارجية بالنسبة للإنسان (المجتمع والظروف، والشعور ..) فى الاعتبار يجعل المجال مفتوحًا للقول بنسبية القيم على أسس اجتماعية وتاريخية، وهذا ما كان يرفضه (زكى نجيب محمود) تبعًا لوجهة نظره الفلسفية.
وإذا كان مفكرنا قد قال بنسبية القيم (خاصة الجمالية) ونظرية الخلق - رغم ما رأيناه من الأسس المتناقضة التى قامت عليها رؤيته فإن نظرته التوفيقية، والتى تجلت فى رؤيته السابقة، نجدها تتضح أيضًا عندما يرفض الشعر الحر، ويقول بأن "الشعر كلام موزون ومقفى"، وهى الرؤية التقليدية والتى تتعارض مع (الإبداع على غير مثال)، إلا أنه انطلاقًا من رؤيته أن الفن شكل، يؤكد على الشكل التقليدى، مع أن المفترض أن يكون الإبداع - ووفقًا لما قاله - ينصب على الشكل بالدرجة الأولى. ولكن النزعة التوفيقية هى التى جعلته يجمع بين الخلق والتقليد فى آن واحد، مع أنه رفض نظرية المحاكاة Imitation فى أول الأمر، بل وسخر منها سخرية مرّة.
وهكذا نجد أن "النزعة التوفيقية" هى التى جعلته يجمع الآراء المتناقضة فى الفن، ويشيد بقصائد العقاد - خاصة تلك التى لا شعر فيها - ويفضل (محمود عماد) على "صلاح عبد الصبور"، ويرى أن الشكل التقليدى هو الشكل الأمثل، مع أنه كان يقول بنسبية القيم الجمالية ونظرية الخلق. ويرفض التجديد فى الشعر، رغم قوله بالثورة فى العلم والقطيعة بين الماضى والحاضر. وأن الفن لا يكون فنًا إذا أعاد ما هو قائم. وأن عالم الفن عالم قائم بذاته.

الهـوامش
1- محمود، زكى نجيب: موقف من الميتافيزيقا - دار الشروق - ط3 - القاهرة - 1987 - ص110.
2- نفس المصدر - ص136.
3- محمود، زكى نجيب: الكوميديا الأرضية - دار الشروق – ط3 القاهرة - 1989 - ص206.
4- نفس المصدر - ص207.
5- ما بين قوسين من عندنا - راجع محمود، زكى نجيب: موقف من الميتافيزيقا - مصدر سابق - ص ص112، 113.
6- نفس المصدر - ص122.
7- نفس المصدر - ص ص123 - 126.
8- نفس المصدر - ص120.
9- راجع نفس المصدر - ص130.
10- راجع نفس المصدر - ص ص132 - 134.
11- نفس المصدر - ص135.
12- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - دار الشروق - ط4 - القاهرة - 1988 - ص166.
13- نفس المصدر - ص167.
14- نفس المصدر - ص168.
15- نفس المصدر - ص169.
16- نفس المصدر - ص170.
17- نفس المصدر - ص170.
18- نفس المصدر - ص ص165، 172.
19- نفس المصدر - ص168.
20- L- loyed, G.E.R.: Aristotle, The growth structure of his Thought, Cambridge university press - 4th published, London, 1980 p274.
21- راجع فى نظرية المحاكاة: ستولنيتز، جيروم: النقد الفنى - ترجمة فؤاد زكريا - الهيئة المصرية العامة للكتاب - ط2 - القاهرة - 1981 - الفصل الخامس.
وكذلك كتابنا: فى التفسير الأخلاقى والاجتماعى للفن - دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر والتوزيع - الإسكندرية - 1998 - ص ص97 - 116.
22- Croce, B.: My Philosophy - Essays on the Moral and Political problems of our Time - Selected by R.R. Libansky, Tr. By. E.F Garritt - Collier Books, New york, 1969, p. 192.
23- راجع كتابنا: عناصر العمل الفنى - دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر - الإسكندرية 1999 - ص66.
24- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص ص134، 135.
25- جونسون، بارتون: دراسة يورى لوتمان البنيوية للشعر - ضمن - (مداخل الشعر) ترجمة أمينة رشيد، سيد البحراوى - الهيئة العامة لقصور الثقافة - القاهرة - 1993 - ص80.
26- النقاش، رجاء: ثلاثون عامًا مع الشعر والشعراء - دار سعاد الصباح - ط1 (القاهرة - الكويت) - 1992 - ص67.
27- محمود، زكى نجيب: قشور ولباب - دار الشروق - ط2 - القاهرة - 1988 - ص23.
28- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص134.
29- نفس المصدر - ص184.
30- محمود، زكى نجيب: جنة العبيط - دار الشروق - ط3 - القاهرة - 1988 - ص151 - 160.
31- محمود، زكى نجيب: قشور ولباب - مصدر سابق - ص ص26 - 33.
32- نفس المصدر - ص6.
33- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء ص6.
34- نفس المصدر - ص5.
35- نفس المصدر - ص217.
36- نفس المصدر - ص190.
37- نفس المصدر - ص191.
38- نفس المصدر - ص191.
39- نفس المصدر - ص190.
40- نفس المصدر - ص188.
41- نفس المصدر - ص189.
42- نفس المصدر - ص191.
43- نفس المصدر - ص ص193 - 196.
44- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص197.
45- نفس المصدر - ص197.
46- محمود، زكى نجيب: مجتمع جديد أو الكارثة – دار الشروق – ط4 – القاهرة – 1987 – ص ص318، 320.
47- نفس المصدر ص297. والجدير بالذكر أن تعبير "المفكر المسالم" هذا من نحت د. فؤاد زكريا.
48- محمود، زكى نجيب: من الشعراء مصدر سابق - ص ص79، 80.
49- نفس المصدر - ص82.
50- نفس المصدر - ص 83.
51- نفس المصدر - ص139.
52- نفس المصدر - ص150.
53- نفس المصدر - ص151.
54- نفس المصدر - ص151.
55- نفس المصدر - ص152.
56- راجع كتابنا: فى نقد الشعر - دراسة جمالية - دار الوفاء لدنيا الطباعة والنشر - الإسكندرية 2001 - الفصل الثالث.
57- محمود، زكى نجيب: قصة عقل - دار الشروق - ط2 - القاهرة - 1988 - ص165.
58- المصدر السابق - ص196.
59- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص100.
60- نفس المصدر - ص110.
61- نفس المصدر - ص111.
62- نفس المصدر - ص ص 110 - 111.
63- عوض، لويس: بلوتولاند - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1989 - ص10.
64- محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص ص86 - 97.
65- نفس المصدر - ص98.
66- نفس المصدر - ص160.
67- عبد الصبور، صلاح: أقول لكم عن الشعر (9) - الأعمال الكاملة - الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1992 - ص113.
68- راجع: محمود، زكى نجيب: مع الشعراء - مصدر سابق - ص193.
69- نفس المصدر - ص159.
70- نفس المصدر - ص164.
71- عبد الصبور، صلاح: مصدر سابق - ص114.
72- عبد الصبور، صلاح: نفس المصدر - ص117.
73- عبد الصبور، صلاح: أقول لكم عن جيل الرواد (الأعمال الكاملة) الهيئة المصرية العامة للكتاب - القاهرة - 1989 - ص78.
74- جاء ذلك فى مقال للعقاد فى أخبار اليوم ونقلا عن عبد الصبور، صلاح: المصدر السابق - ص108.
75- عبد الصبور، صلاح: المصدر السابق ص110.


* عُشّاق المفكر والأديب الفنان أ.د/ رمضان الصبّاغ

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى