رحيم زاير الغانم - النص بين الحقيقة والمعنى

مقدمة
إنَّ عملية التفريق بين المعنى والحقيقة أو الصحة في النص الأدبي من الأمور التي تحتاج منّا فكَّ اشكاليتها, إذ إننا في مجال النقد الأدبي نتعامل مع النص على اعتبار انَّه نتاج خيال المؤلف, رؤى وأفكارا وخبرة وموهبة, نص منتج بذاكرة تصويرية موجَّه عقليا, نصٌ في أغلب بنياته رسائل تحمل بين طياتها شفرات من عالمه الصغير/ النص الأدبي, حتى لو ارتأى المؤلف إضفاء شيئا من الحقيقة عن عالمه الكبير/ النص الحقيقي, كأن نقرأ في نصه تضميناً لحياته أو ذكرا لأسماء أو لأحداثٍ من واقعه المعاش, التي لا يمكننا عدها إلا جزءا من كون النص الأدبي, فالنص الأدبي يتواصل مع متلقيه بكونيته لا بذاتية مؤلفه أو موضوعه, فلا يمكننا ان نستمد من النص الأدبي الحقيقة أو الصحة فهو ليس بنص مقدس أو وثيقة تاريخية, (( إننا نهتم هنا بمعنى النصوص وليس بصحتها....))1, وهذا بحد ذاته يجعلنا في منأى عن اعتماد استقراء النص كبرهان لحقيقة محددة بمرجعيات فطرية غريزية وليكن تأويل النص بمجسات أدبية فكرية/ عقلية فاعلة, في ضوء منهج, كي ننأى عن قطعية الحكم المسبق, وإلا, ((تكون أذهاننا مشغولة بالبرهان والاستقراءات المرتكزة على مبادئ المعرفة الغريزية أو الفطرية( كي لا نتحدث عن الإحكام والآراء المسبقة)....))2.
ان مراد القارئ الوصول إلى المعنى لا البحث عن حقيقة أو صحة النص الأدبي, وهذا يتحقق من خلال فحص النص فحصا فنيا مع التنبه إلى طبيعة اللغة والنمط/ الأسلوب المتبع, الذي يعتمده المؤلف في بناء نصه الإبداعي, فمن ((الضروري التشبث بالعثور على المعنى اعتمادا على أعراف اللغة وطريقة استخدامها....))3
لذا يتوجب ان نفرق بين نوعين من القراءة:-
أولاً: القراءة التفسيرية المغلقة: تعتبر القراءة التفسيرية من أنواع القراءات التأويلية التي تدور في فلك النص, محاطة بأفق تفسيري محض, يحرص على إزالة الغموض واللبس الذي يعتري النص فتشرحه لمتلقيه, ولا يمكن لهذه القراءة الخوض في تأويل معنى ابعد من المعنى الذي ذهب إليه النص, إذ ان شغلها الشاغل معالجة عدم الترابط بين أجزاء النص, فتعمل على الربط بينها, ليُفهم بعدها المعنى الذي أراده المؤلف, ((وعليه فالقراءة التفسيرية المغلقة التي تطبق على النص تبقى مجرد أصداء لبعضها بعضا))4, وفي هكذا عقيدة تأويلية مغلقة شارحة, نكون إزاء عقيدة ولاء, ((فالنص في القراءة المغلقة الشارحة, يصبح عقيدة له أتباع يعتقدون لا ينتقدون))5, وهذا أكثر ما يُخشى من تلقي النص, إذ ان التسليم بالقراءة الحرفية الشارحة, هو تسليم أتباع لا نقاد, ((وهكذا يبدو جليا أن دور القارئ في القراءة التفسيرية المغلقة ينحصر في التلقي السلبي للنص بوصفه معطى مطلقا))6.
ثانيا: القراءة التأويلية المفتوحة: وهي القراءة التي تفتح باب الحوار بين النص ومتلقيه على مصراعيه, وهو خروج عن الأطر التقليدية لتلقي النص, إذ, ((ان القراءة التأويلية المفتوحة للنص هي قراءة ديناميكية تأخذ بتعدد الدلالات والتأويلات))7, ففي هذا النوع من القراءة يكون باب التأويل مُشرعاً على تأويلات عدة, لتعدد الدلالات, مع التنبه إلى أن القراءة التأويلية المفتوحة لا تبتعد عن, ((سور النص))8, وهذا ما شدد عليه دكتور احمد البرقاوي. فالنص, ((يقدم ميدانا محددا من الأبنية الممكنة ))9, ولذا يكون الكشف عن معناه في ضوء أبنيته الممكنة لا العمل على لي عنق النص من أجل كشف ما أو إنتاج معنى لا يتناسب ودلالة النص, نلمح فيه تجيير للمعنى لا يخلو من إبعاد ايدولوجية أو عقيدة تأويلية يراد منها إثبات حالة معينة أو حكما ما, وهذا لا يقل سلبية عن تلقي النص بالقراءة التفسيرية المغلقة, وسنتناول كلّ ما تقدم بإجراءات تنظيرية مضافٌ لها عنوانات فرعية كإجراء, علنا نسهم في توسيع دائرة المعرفة, متخذين ثماني مجاميع شعرية كعينات تطبيقية.

1- كون النص:

للنص الشعري كونه الخاص به الذي يهيئ لذات مستقلة, عن (أنا المؤلف), من أجل خلق أفق ديناميكي/ فاعل, في تعبير عن (ذات متلقية فاعلة), إذ يمكننا عدّ الموضوعة/ الثيمة, قبالة هذه الذات, أي الذات/ الموضوع, إذ أننا لا نستطيع أن نحرر النص من (أنا المؤلف) ان بقيت الموضوعة تدور في فلك هذه الأنا, عندها يصبح من الصعوبة بمكان تصدير النص لمتلقيه بمعزل عن تلك الأنا, إذن, (أنا المؤلف), قبالة (ذات, موضوع/ الذات المتلقية), فما ينتجه النص الشعري متجهٌ إلى (ذوات تتلقاه) برؤى وأفكار وهموم تعبر عن لواعج مشتركة, ينتجها النص الشعري من دون الالتفات ل(أنا المؤلف) كونها (أنا) متحررة (بذاتية التلقي).

من نص ( رسالتان) للشاعر حسين الهاشمي10
( (إلى جدي)/ الحوار ../ الطريق.. / وما تعلّق من مشاوير الحياة معك/ أسهل بكثير/ من أنبياء هذا الزمان..) ص81
ان كون النص الشعري, وحده من بإمكانه التحكم بالعناصر الداخلية من بنيات نصية وثيم التي هي حصيلة البناء اللغوي للنص, أو خارجية/ سياقية بمؤثرات اجتماعية أو ثقافية أو نفسية, فمهما برز الطابع الذاتي, ( أنا المؤلف), على معنى النص الظاهر/ الطبقة الأولى لمعنى النص, فهي لا تتعدى عن كونها قشور يتخطاها القارئ الخبير في اتجاه ذات منتجة للموضوعة/ ذات متلقيه, فما يصدره لنا نص ( رسالتان) من ثيمة الرفض لأنبياء هذا الزمان المضطرب إلا رفض لوجوه سوقت لشعاراتها مسميات أو عنوانات تتسم بالسمو والنبل, خلاف ما تضمر في إنتاج لمعنى التهكم من أدعياء القيم الزائفة.
من نص (الصعود إلى الحافلة), للشاعر أدهم عادل11
(في طفولتي/ كنت أتخيل أن الشمس صحن من الحلوى/ وعندما كبرت أدركت أن التصور لا يكون هكذا/ والآن هذه الشمس/ هي عبارة عن رأس كبير يحترق) ص14
لا نكتفي بالوقوف على ما ينتج النص الشعري من معنى ونتخلى عن كون النص, لذا لا انصراف عن هذه الكونية, التي تندرج ضمن باكورة الانسلاخ عن (الأنا المتأصلة) في وعي جموع جمهور القراء التقليديين التي هي انعكاس لسلطة النسق الأنوي المرعي بثقافة أبوية المؤلف, ثقافة من متبنياتها حصر النص وما ينتج من معنى, في خانة (أنا المؤلف) في دحر لذاتية الموضوع/ ذاتية التلقي, فما يطرحه نص ( الصعود إلى الحافلة) من تخيلات تستبطن أسئلة, تُتركُ لمتلقيها, فليس من واجب المؤلف الإجابة عنها, وهذا يحسب له, أي ان النص يطرح أسئلة عن الوجود, وتحولات المعنى, فبعد أن طرح النص الشعري, ان الشمس صحن من الحلوى في نظر طفل, يتحول المعنى إلى رأس كبير يحترق, في إشارة إلى استشراف قرب نهاية هذا الوجود الكهل, وما الطفولة البشرية إلا إسقاطات بمعنى أعمق, لقرب ساعة تحوله إلى رماد, في وشاية نابهة لسعة الأفق بتقادم الزمن, وتحولات المعنى للنص المرئي ( الشمس) هذه المرة.

نص ( أرجوحتي) للشاعر ولاء الصواف12.
( منذ خمسين قطافا أو يزيدْ../ أهزها مرةً.. وصوت الحرب يهزها ثانية/ تأخذني للغيم/ وتعيدني إلى الأرض الحرام)
تبرز للعلن إشكالية التصاق (أنا المؤلف) بما يطرحه النص من الثيم, التي تُعد من أهم مرتكزات النص, بما تحمل من القدرة التواصلية مع متلقيه لإنتاج المعنى, ولأجل التحرر من (أنا المؤلف), يجب التنبه إلى كون النص, على اعتبار أنه المحور الفاعل المساهم بخلق المساحة الجمالية التي يلتقي عليها النص والقارئ, فلا غرو أننا نعي جيداً, ان لكل نص كونه الخاص به, بمعزل عن مجمل النصوص الأخرى, مع أنها نتاج لمؤلف واحد, فما يطرح من أحداث وشخوص وثيم, في مجملها لا تعني شخصا واحدا, في تجريد للنص الذي هو جواز الخروج عن سلطة (أنا المؤلف) والاحتماء بكونية النص, في النص الشعري تبدو ثيمة الحرب من القريبة الصلة من المتلقي, لعميق تعلقها بواقعه المعاش, كونها جزء من كل مضطرب, فهو تعالق بوشائج متنافرة, مابين الإنسان والحرب, فالنص في كونيته وتداعياته الزمكانية, (خمسين قطافا/ الأرض الحرام), ودلالة الاهتزاز الذي يجاوره صوت الحرب الذي يهزها ثانية, في صراع داخلي على امتلاك قرارٍ متداعٍ هو الآخر, فما نرجو من اهتزاز وصوت حرب, إذ هما في كون غير مستقر. في إنتاج لمعنى الاضطراب الدائم.

2- انفتاح النص:

ان من أولويات النص الأدبي عموما, الانفتاح على متلقيه, ويتحقق هذا الانفتاح باتساع أفق النص, واعتماده على موضوعة تشكل عامل مشترك بينه وبين القارئ, ليلتقيا معا في رؤى وأفكار تحقق انفتاحهما على بعضهما, فكما نعلم ان القراءة التأويلية المفتوحة, هي قراءة ذاتَ فاعلية ديناميكية, تستهدف الدلالات والمعاني التي يشي بها النص الشعري, لتنتج من بعد هذه القراءة معنى تأويلياً بعيدا عن الأطر التفسيرية المغلقة, وضمن رؤى المنظومة التأويلية المفتوحة على ما ينتج من معنى, فالنص الشعري الإبداعي المتفرد, نص منتج للمعنى أي أننا لا نقف عند أعتاب قراءة شارحة لمعنى النص وإلا ما جدوى الإبداع والتفرد؟!.
يمكننا القول بصريح العبارة, أن الإبداع لا يتحقق من طبيعة الشكل الشعري المتخذ كأسلوب في الكتابة/ عموديا, حرا أم نثرا, الإبداع يأتي من سباكة البناء الفني وما يحمل من تعدد الدلالات, وما يشي به النص من مبادرة ومغايرة, التي تعمل على ترصين الفعل الإبداعي, فهي القيمة الفارقة التي من شأنها كسر أفق التلقي, وكذلك كسر جو النص العام, في نأيٍ عن رتابة خيطية النص وهذا ما يراد من الوظيفة الأدبية للنص الشعري.
من نص ( مناجاة ابن الشهيد في يوم النصر) للشاعر فراس طه الصكر13
( انهض يا أبي / أنهُ يوم النصر../ قمْ من قبرك لنحتفل معاً/ فقد أحضرت لك ساقين اصطناعيتين/ وذراعاً/ وخمسة أصابع ليدك الأخرى..) ص97
يُراعى في الأعراف الأدبية الحديثة الفاعلية التواصلية بين النص والقارئ, في إشاعة لروح الاندماج بفعل إبداعي واحد, فالنص والتلقي ينتجان نصين إبداعيين الثاني متمم للأول ومنتج لمعناه, لما يتحلى به النص من انفتاح على متلقيه, الذي يقابل بقراءة تأويلية مفتوحة على النص الشعري, الذي من مواصفته الجدة والدلالة والقصد, في تهيئة للجمع بينهما عبر تفاعلية تواصلية, وهي غاية أدبية محضة, فالنص ملك القارئ, وفهم معناه وتأويله مناط به لا بمؤلفة بعد إنتاجه, وهذا ما نلمحه في نص (مناجاة........) الذي في ظاهره يذهب إلى معنى مفترض بدعوة الابن لأبيه الشهيد إلى نهوض في يوم النصر, للاحتفال بساقين وذراعا وخمسة أصابع, هن كل ما خلد في ذاكرة الابن وأستحضرهن افتراضا في يوم النصر, يوم للنصر ويوم يستحضر فيه الأيتام, صورة من يحبون وينتمون لكن بذاكرة مشوهة, في إنتاج لمعنى عوق الذاكرة التي تنسى المضحين من الرجال, نص مفتوح على متلقيه, نص بمعناه الأدبي المجرد, في مواجهة حقيقة مؤلمة, في استحضار لمآسي واقع معاش.

من نص ( حياة قيد الإنشاء) للشاعر رياض الغريب14
( لوحدها تنظر لأيامها/ هو بخير/ لأنه بلغ الخمسين/ ولديه فكرة ببناء سقف/ لديه فكرة لكتابة عنوان/ لحياته/ لديه فكرة مشتركة معها/ قبالة فراره من البرد/ ومطر الحياة القاحلة) ص21
يُعتبر انفتاح النص على قضايا ذات صلة بالواقع, التأسيس الأول لردم هوة (أنا المؤلف) وفتح الباب على مصراعيه باتجاه فاعلية النص- المتلقي, الديناميكية التي تؤسس لإنتاج المعنى العميق, ان دلالة النص تأخذ إبعادا تؤسس إلى فسح المجال لتأويلات عدة, تسبح في كون النص ولا تتعدى سوره, لكنها ليست تفسيرية بالضرورة, فالمعنى يكون اشترار لما أفصح عنه ظاهريا , فلا جدة فيه, وهذا ما نلمحه في نص( حياة قيد الإنشاء) في بنيته الزمانية, عمر (الخمسين), بؤرة تمركز النص, لفعلها التواصلي مع متلقيها, لما أنتجته من معطيات, فكرة بناء سقف/ امتلاك بيت, والتخلص من عبثية الواقع المعاش, بفكرة كتابة عنوان, والشروع بتبني فكرة أن يحيا بكرامه مع رفيقة دربه, تحصينا من البرد ومطر الحياة القاحل, في انفتاح للنص على متلقيه المضطهد المنهك المتعب, في إنتاج لمعنى ارتحال البُنى المكانية/ الاستقرار والطمأنينة, ممثلا ببيت للسكن/ الوطن المصغر, وتمركز ثقل اللحظة الزمانية كمآل, في تنامٍ لدينامية فعل الزمن, كقيمة غير مدركة النفاد.

من نص, ( مرايا), للشاعر ماجد الحسن15.
( منذ حرب ،/ وأنا أمسح عن عينيكِ/ نعاس المرايا/ ولي جمرةٌ أخبئها في ثيابكِ/ لأسمي كدرَ الفحولة .../ ماءها/ وأسقيها من رعدةٍ/ تمطر أحلامها في سهوبك) ص15
من مقومات تلقي القارئ للنص, انفتاحُ النص على التأويل, بشرط التمكن من الوصول إلى أعلى درجات التطابق في فهم النص الشعري, متخذا من سوء الفهم سبيلا للوصول إلى ذلك, وهذا لا يعني الخضوع إلى الحكم القبلي بقدر النأي عن تقبل أول كشف للمعنى, مع الحفاظ على مبدأ الحياد في فهم النص الشعري, وهذا يحتاج توفر قارئ خبير يمكنه من الولوج إلى المعنى ومعنى المعنى/ المعنى العميق, فما ذهب إليه نص ( مرايا) عبر ثيمة (الحرب) أكثر الثيم تداولا في النص الشعري الحداثوي, في محاكاة للواقع, وأثرها في اليومي المعاش, مما يدور من أحداث, فما مُسِحَ عن عيني الحبيبة المترقبة في انزياح للمعنى عن نعاس المرايا, التي أضحت هنا انعكاس لصورة الرائي, لا المرئي, وجمرة الراوي/ الحبيب/ الجندي, الذي يُخبئ جمرة الحب والحنين, وما يعتريها من كدر الفحولة المعدومة, لتتناهى ماءً تمطر أحلاما في براري الحبيبة, التي لم يسعفها غيث الحياة, فلا وصال, من شأنه حفظ النوع البشري من الانقراض.

3- المعنى المرتحل:

تستهدف المناهج الكلاسيكية المعنى الظاهر في قراءة النص الشعري/ القراءة التفسيرية المغلقة, أما الحديثة, ممثلة بمناهج الحداثة وما بعدها, تذهب إلى ما ينتجه النص, في تقصِ جريء مكتنه للمعنى العميق, وفق قراءة حيوية من متبنياتها الرئيسة إنتاج المعنى المرتحل عبر سبر غور النص, نائية عن الرتابة في التفسير
إذ ان الانغماس في رحلة القراءة التفسيرية المغلقة, رحلة تخلو من متعة تلقي النص المنتج للمعنى, أذن ما الداعي لترك متعة السياحة العميقة في تأويل النص الشعري, سياحة تمكننا من التعرف على بواطن النص وما يتجلى من معنى عميق, الذي أن ارتحل عن متلقيه العادي/ الجمهور, أو عن مؤلفه حتى, فأنه لا يرتحل عن متلقيه الحقيقي/ القارئ الخبير, لما فيه من التهيئة لإعادة ترتيب تلقي النص الشعري, في إضفاء لصورة مغايرة, لما يُنتج جرائِها من معنى, وهذا ليس قدحاً بمؤلفه بقدر الإشارة إلى أهمية تعدد التأويلات لتعدد الدلالات التي ينتجها النص.

من نص, ( إسقاطات), للشاعر رعد زامل16.
( ترى من أين/ لزهرة واحدة في الروح/ أن تتصدى/ لكل هذه الفراشات المفترسة/ التي تطلقينها عليه/ وماذا بوسع/ شاحب مثلي/ لو صادفك ذات ربيع/ أن يفعل؟/ غير أن يرميك/ بدمعة خضراء/ ويتوارى بين الشجر.) ص35
يحرص القارئ الحقيقي على بلورة فهمه للنص الشعري كي يصل إلى مشتركات يمكنه من خلالها اكتناه ما ارتحل من معنى, إذ ((يتجلى نشاط فن التأويل في إنارة الفهم ليس كتواصل سري وعجيب بين الأفراد وإنما كمشاركة في بلورة معنى مشترك))17, وهذا غاية الأدب في إنتاج نص أدبي ديناميكي/ فاعل, فما يطرحه نص (إسقاطات) من اسئلة في انحراف سياقي, بقسوة التوصيف (الفراشات المفترسة) في انزياح عن معنى الوداعة والجمال, مادامت تطلق أسرابا, كيف لزهرة واحدة في الروح, تتصدى لهذا الغزو المجنون؟, الذي ينتج متواليات انكسار, تتشظى من الروح الهلعة/ الباطن, إلى الشكل/ الظاهر, شحوب الوجه المرتبك الذي لو صادف ربيع محبوبته, في توثيق لردة فعل, معنى ظاهري ماكث الأثر, يؤسس لمعنى مرتحل, يشي به النص من إلتقاء طلاب الحرية, في خروج على المألوف, الساكن الصامت اليومي المعاش بتفاصيل روتينية محضة, كيف يواجه أبواب الانفتاح على مصراعيها/ الفراشات المفترسة, بكل ما تحمل من دبيب دماء الشباب إذ بالشعب/ الإنسان العراقي/ شاحب الوجه, كهل, لا يعي عظمة اللحظة, فيبادر بدمعة خضراء, يذرف آخر ما يمتلك من إكسير الحياة والثورة ويتوارى خلف الشجر في إنتاج لمعنى مرتحل عن انكسار الذات/ الإنسان.
نص, ( حين ينسى المهاجر), للشاعر أمير الحلاج18.
( تبقى الأسئلة المرة / تحبل بالحنظل, / وتمدُّ الهجرة للأخطل, في بعض الأحيان/ قبلةُ أجنحة لطيور ترقص/ ذرَّات رصاص مصهور/ عوضُ البرد المقذوف من السحب السود) ص62
يحرص القارئ الحقيقي على إنتاج ما ارتحل من معنى, مادام طيف معناه محلقا في مجال مساحته الجمالية التي تعد من أهم نقاط التوتر التي يلتقي عند منطقة توترها, المتلقي والنص, (( فأن لتلقي النصوص الإبداعية وضعا خاصا. فما يبحث عنه القارئ في هذه النصوص ليس معنى جاهزا مستقلا بذاته ف"الحقيقة" لا توجد بشكل مطلق في النص, ولا يشكل النص ذاته, في جميع الحالات, سوى فرضية للقراءة))19, إذن النص يدور في كون التلقي الحلقة الاشمل, ومادام النص الأدبي ليس بنص علمي, فانه يتجه إلى نقطة إنتاج المعنى لا الحقيقة, لذا يتوجب على متلقيه مطاردة ما ارتحل من معنى.
يعمل نص, (حين ينسى المهاجر), على تصدير فكرة الاستمرارية من خلال طرح الأسئلة التي (تحبل بالحنظل) ما عسى ان تنجب, غير هجير و أجنحة طيور راقصة من رصاص مصهور, في اشترار للواقع المرٍّ المعاش, الذي يقذف عوضا عن البرد من السحب السود, التي ما عادت تأتي بالخير والرعود, جالب المطر, وإنما تدخر سواده ذرات رصاص, في انكسار لصورة الحياة والنماء التي يجلبها المطر, في إنتاج لمعنى الموت المرتحل, المعنى المشحون بالفاقة, فما عادت السحب تهب المطر أو الرعود نذر خير.

من نص (يقطينة) للشاعر ماجد الحسن
(كانت أمي ،/ تتلمس خرزاتها بالنبض .../ حين لا يدرك القلب ،/ صرختَه الأخيرة/ تعدّنا ثانيةً .../ فهي لا تخطئ ليالي الأوحال/ التي علقها أبي ،/ بذؤابةِ الضفيرةْ / لذا تراني ،/ على ظلفةِ النافذة/ معلّقاً من سرّتي ... كيقطينة) ص8
من المؤكد ان للنص الشعري غواياته المحفزة في استكناه المعنى المرتحل, إسهاما في ترسيخ مبدأ, أن لارتحال المعنى عامل جذب للمتلقي, فعندما نقرأ نصا شعريا يجب علينا رصد ما ارتحل من معنى, كردة فعل للقراءة, فليس من المحمود أن يُقرأُ نصٌ أدبي إبداعي ولا يترك أثرا فينا, والأثر هنا, يتحقق في فهم النص, وما وراء النص, أي المعنى غير المرئي, وهذا يتحقق لنا في نص (يقطينة) في بنية (الأم) بنية تمركز النص هنا, مشكلة قطبية ماسكة بعناصر النص الداخلية من بنيات نصية متسقة, وبناء فني عالي, وهذا ما عمدت إليه ثيمة الفقد والانتظار المضني للزوج الذي غلف أجواء النص بشكل عام, ممثلاً في تحمل (الأم/ الزوجة) مسؤولية مزدوجة, بدأ بتلمس خرزاتها بالنبض, خوفا من فقد آخر, حين لا يدرك القلب صرخته الأخيرة, ويتعداها إلى دور ثانٍ في إنابة عن الغائب/ الأب, الحي في القلب والوجدان في ترميم للعاطفة ولسد لفراغ الأب الفقيد, فهي لا تخطى ليالي الأوحال, التي علقها الأب, بذؤابة الضفيرة, في إنتاج لمعنى خلود الزوج في الذاكرة, في حرص من الأم السومرية على ترسيخه كأبجدية للوفاء منذ بواكير نشأة الأولاد.

4- شفرات النص
:
تعمل شفرات النص الشعري بدأب على جذب المتلقي إليها, وتحليه على الدوام إبداء الحرص العالي من أجل فكِّ هذه الشفرات, في تهيئةٍ لإنتاج نص موازٍ, يمكننا من خلاله اكتناه ما ينتجه النص من معنى, بعدما نجد لها تفسيرا في العالم الحقيقي, ( وما من نص خيالي بلا شفرات يمكن للقارئ ملاحقتها كي يصل إلى تأويل للمعنى, وإلا كيف يمكننا من إنتاج معنى جديد, يحاكي الواقع)20, إذ لا يمكننا فكّ هذه الشفرات لولا تمكننا من قراءة صورتها الحقيقية في العالم الأكبر, (فلا نص خيالي من دون نص حقيقي, يضاهيه في الأهمية ويزيد عليه في سعة الدلالة على اعتبار ان النصين يسبحان في فلك الخيال والطبيعة)21, أي أن النص الشعري المجرد من الحقيقة/ النص الإبداعي الخيالي, انعكاس لكون أوسع وأرحب, كون حقيقي, كون لا يحتاج إلى تأويل, فالأشياء/ الطبيعة/ الموجودات, يمكن تلقيها بصرياً, لبساطة تفسيرها لحضور هذه الأشياء في الحقيقة, إلا أنه يجب علينا تلقي النص الشعري في ضوء ما يحمل من تجريد, تتعدد فيه التأويلات ضمن نطاق ما تحمله شفرات النص من معاني لتعدد دلالاتها المجردة عن الحقيقة, و(يكون النص عالما مفتوحا حين يستطيع المؤول اكتشاف ما لا يحصى من الترابطات)22, كونه نص معنى لا حقيقة.

من نص ( بريد العائلة) للشاعر فراس طه الصكر.
(سأروي عنك,/ عن مساء غامض أضعناه معا../ عن المرايا الخادعة,/ سنواتك يا أبي,/ سأمحو كلَّ أيامها/ سوى سنة واحدة/ سقطت في واد عميق,/ لم يتسعْ لصراخنا) ص9
ان تماهي الخيال مع الحقيقة من موجبات إنتاج النص الأدبي, فما تتركه الطبيعة/ الحقيقة, من تنامي الخبرات/ الذاكرة, لها أثرها الفاعل في تنمية خيال المؤلف, التي تعد كمون النص وانطلاقته الأولى, فهي كينونة تنمو إبداعيا, يتداخل معها الموقف بالحدث الشعري, في إيذان لولادة النص الأدبي, إذ ان النص لا يولد بهيئة معبرة عن الحقيقة, بل هي انعكاس مجرد عنها, مع الحرص على بثِّ النص لشفراته التي هي حلقة وصل بين الخيال والحقيقة, تستلزم خبرة وخيال خصب ينميها ويتنبه لفروعها وتدلي ثمارها, في استدعاء لقارئ خبيرا, يلتقي خيالا وفكرا ورؤى بما أنتجه خيال المؤلف/ النص الشعري, وحقيقته في الواقع/ العالم الحقيقي, عندما نقرأ النص ابتداءً من روايته عن مساء غامض, أضعناه معا, ان هو إلا أثر لفعل سنوات الأب الغابرة, وأن حدد سنة واحدة لم تُمحَ كونها سقطت في واد عميق, ولذلك لم تتسع لصراخنا, ولنحاول مرة ثانية وثالثة في إعادة قراءة نص, ( بريد العائلة), نجدها حاجة ماسة للعودة إلى الحقيقة/ العالم الحقيقي, لفك شفرات النص, وإلا كيف يمكننا فك ما تكلس على بنياته النصية من غموض, تعيدنا من حيث انتهى به النص, فالوادي العميق من دون أدنى شكّ يرمز للقبر, الذي عبد الطريق إليه مرض الأب/ الوطن, الذي صارت سنة واحدة في وقتنا الحاضر, إلى فناء أمم وتحويلها إلى مقبرة, تتسع لكل هذا الصراخ الفائض عن إرادة البقاء.

نص ( في 11-2-1987م) للشاعر حسين الهاشمي.
( مثل جنين/ لا صلة له بالأرض/ ونسي البكاء تماما/ أخلوه/ من رحم الحشود المختبئة/ بسعادة لم تتكرر/ وتمارين بين المجاهيل/ لتعلّم المشي مجددا/ دون ألغام/ أو مصدَّاتٍ لتزيين الطريق/ إلى الفصول!)
من الجدير بالاهتمام التنبه إلى الجزء غير المرئي من النص الشعري, وما قد تشي به شفراته النصية, فالنص الأدبي المباشر, لا يستحق منا تلقيه تلقيا مباشرا او غير مباشر في ضوء تنامي النص الأدبي بشكله الحداثوي/ (قصيدة النثر), كونها قصيدة خطرة, من خصائصها الغموض والرمز والتشفير العالي الذي يساعد على إنتاج نص نقدي مواز له في الأهمية, إسهاما في تنامي رد الفعل الموازي, لفعل النص, فما يصرح به النص الشعري عن جنين لا صلة له بالأرض في انزياح لفظي دلالي, فالأرض وبما تحمل من رمزية عظيمة, الأم/ الرحم/ الكينونة, تتجاور دلاليا مع الجنين, وتنزاح عنه لفظيا, في توصيف لحال من نسي البكاء تماما, بعدما أخلوه من رحم الحشود المختبئة, في عزل تام لحشود البشر حاضنة الجنين الطبيعية, في الحقيقة/ العالم الحقيقي, والتي لم تتماها هي الأخرى معه بسعادة لم تتكرر, كي تفتح له أفقا جديدا/ حياة جديدة, يتعلم فيها المشي/ العيش, من دون ألغام هذه المرة, في كشف لتجريد الحقيقة من زيفها وبهرجتها هذه المرة, في خلق نص يفوق الحقيقة جرأة, صنعها ما تراكم من خبرات أسهمت في تنامي خيال المؤلف.

نص ( أمام الكاميرا) للشاعر ولاء الصواف.
(بقدمين عاريتين/ أثقلهما الجمر والرَّصاص/ بكنزة صوف مليئة بالثّقوب/ حدودها القصوى سُرَّتي/ ........./ أقفُ/ ولحن الفواخت يأسرني/ منتصبا مثل شاخص التصويب) ص55
لو سلمنا بان النص الشعري انعكاس لصورة العالم الحقيقي المجردة, يمكننا التسليم بعدها انه يمر عبر بوابة خيال المؤلف, انعكاس مجرد أكثر تقنينا, فهو سيخضع إلى بوابة العقل التي هي اشدُّ صرامة, ثمَّ يلج إلى منظومة صناعة النص الشعري, وما تشي به من قصدية في بناء النص معماريا, القائم على سبغه بهالة من الشفرات التي هي من موجبات إضفاء الغموض, التي تستوجب, إحاطة المنتج الإبداعي بفهم يرتقي إلى مستوى هذه الهندسة المدعمة بالخيال والحقيقة, وفي عودة إلى نص ( أمام الكاميرا) والى سيمياء القدمين العاريتين, اللتين أثقلهما الجمر والرصاص, من قهر وفاقة, في نزع إلى أبسط حقوقنا الآدمية, وما حال الرجل بكنزته الصوف التي أقصى حدودها السِّرة, معنى متمم للمعنى الأول, في ترسيخ لبسط يد الفاقة إلى نصف الجسد العلوي, أما نصفه السفلي بات عاريا لا محال, في قتل يومي للإنسان, ولتمتمت الفواخت بأسره وهو منتصب مثل شاخص التصويب, في إنتاج لمعنى الاغتراب في لجة الفاقة والقهر, مع كون الموجودات/ الحقيقية, (القدمين/ جمر / رصاص/ كنزة صوف/ السِّرة/ الفواخت), لها كبير الصلة بالإنسان عموما, ناهيك عن المؤلف, وما تتركه من فعل تواصلي يسهم في إنتاج النص.

5- حوار النص مع متلقيه:

ان للقارئ القدرة على خلق أجواء ايجابية تتجلى في إمكانية تلقي النص جماليا, فهي بوابة لتنامي الحوار بينه وبين القارئ بطريقة دينامكية/ تفاعلية, يمكن من خلالها التوصل إلى مشتركات, تعتمد في ذلك على خلق أفق يتسع لتقبل الحوار, مستندا إلى قراءة تأويليه مفتوحة من شأنها سبر غور النص الشعري, بفتح قنوات تفاعلية بينهما, يمكننا من خلالها إنتاج المعنى, آخذين بنظر الاعتبار خلق لغة مشتركة نتمكن بها من إيجاد أسباب ديمومة هذا الحوار المنتج للمعنى, وتنشيط التلقي التفاعلي.
نص (منتصف الطريق ) للشاعر أدهم عادل
( أنت أقبح امرأة في الوجود/ وأنا أجبن رجل في الكون/ ولكننا نتحد في شيء واحد/ أنا آخر قطرة دم/ وأنت آخر قطرة كحل..) ص60
يفتح فعل التلقي المجال واسعا لخلق أفق الحوار الدائم بين النص ومتلقيه, حوار أطره العريضة, الثيم التي يلتقيان على مائدتها, والتي قد يخلق القبح/ أقبح امرأة, أو الصفات غير الحميدة/ الجبن, مثل هكذا أجواء تسهم في تصعيد وتيرة هذا الحوار, والتي تتماها لتصل إلى الاسهمام في تنامي الحوار وصولا إلى العدم/ نهاية الموجودات, وهذا ما نلمحه في بنيتي, (أنا آخر قطرة دم ), (وأنت آخر قطرة كحل..), يستوجب من متلقيه قراءة فطنة قبل رد الجواب, والإيذان بانطلاق الحوار مجددا, الحوار الذي يهيئ إلى نهاية القول والسكوت التام, بعد تصريح النص من نهاية القطرتين اللتين من المقدر لهما ان يحفظا للنوع بقاءه وحيويته وانتشاءه على الرغم من صخب القبح المستشري, حوار قد ينتج العدم أو ينفذ بحوار للحياة من باب أننا, (ولكننا نتحد في شيء واحد), قطرة الدم وقطرة الكحل, بداية لغرس جديد, تضحية قبالة فوز بكحل الحياة.

نص, (أقفاص), للشاعر رعد زامل
( لا صنو.../ يقاسمك وحشة الطريق/ في هذه الغابة/ لا طير.../ يدعوك إلى الأفق/ لا نبع.../ يكشف لك زيف السراب/ ولا كليم...لك في العزلة على هذا الجبل) ص15
نلمح في النص الشعري إشارة واضحة في الدعوة إلى الطرف الآخر الى إنشاء نص للحوار, فتكرار النفي ب( لا) يؤكد الدعوة,( لا صنو, لا طير, لا نبع, ولا كليم,) كلها من موجبات البحث عن محاور حقيقي يفضُّ بكارة هذا التفرد/ القلق/ السكون, التي ان تحققت, يجب مقابلتها بطلب بطلانها, فالإنسان عنصر اجتماعي بالفطرة, يرغب بمقاسمة الطريق, والطيران بأفق أرحب مع جناح آخر ليكشفا زيف السراب, يتحقق هذا الامر الا بكليم يفتت قساوة العزلة, فلله سبحانه جلّ وعلا وهو سيد الأكوان كليم/ النبي موسى (ع), إذن الحوار, قائم بين الإنسان وخالقه, فكيف بالموجودات نفسها, في إنتاج لمعنى ترسيخ الحوار في ثقافة البشر, للإجابة عن التساؤلات الكبرى التي تثيرها سرديات الحوار العميقة في النص الشعري.

نص ( يكفيني ذلك) للشاعر رياض الغريب.
(من قال بأننا قلقون/ حين نكون في شوارع المدينة/ مطمئنون ومستسلمون جدا لقدرنا/ وما الضير حين تتوقف بقربك عجلة مفخخة/ وتنفجر) ص52
يُعدُّ الحوار بنية قائمة في النص الأدبي عموما, وان لم يُصرح بها, فما يثيره النص من اسئلة, تستدعي الإجابة عنها, إجابة تصب في بوتقة الاستفهام والبحث عن مدركاته فعلاً, قوامه السياحة في حوار بين النص ومتلقيه, قطعا ليس من واجب النص الإجابة عما يطرح من اسئلة, وإلا انتكس النص لتجريده من الفجوات, بل تُترك لمتلقيه فرصة ردم هذه الفجوات, من أجل خلق أجواء صالحة للحوار, فما يثيره نص ( يكفيني ذلك) من ثيمة القلق التي تبتدئ من أول بنية نصية, (من قال بأننا قلقون), التي تشد المتلقي إليها, وتحرص على تهيئته إلى تأسيس أول للحوار, حين تبادر في البنية الثانية, بالقول, (حين نكون في شوارع المدينة ), في تحديد للبنية المكانية الأشد قلقا وتوترا في واقعنا المعاش, في مخالفة للمُسلَّمات الفطرية في التلقي, لكن المحاور/ المتلقي, ابن الواقع, يدرك جيدا ان العجلة المفخخة, لها حوارها الخاص مع المدن, من خلال ما تبثه عبر لغة تحدٍ قوامها الرعب, والقلق المستديم, لغة لم تعيها المدينة للان, ولكونها تترفع عن مواصلة فعل التعاطي مع محاور يستهدف الحياة, في إنتاج للغة حوار تهدف إلى نبذ فعل ديمومة استشراء ماكنة الموت.

نص ( لعبةُ السوط) للشاعر أمير الحلاج.
(في الطريق المتوَّج بالزحام/ أقزام/ قبالته انحناء يسطعون/ فيتلاشى حامل السوط/ كلما قصرتْ/ أو تلاشت المسافة,/ هكذا الخوف/ حينِ يستوطن الذاكرة/ بلعبته/ يصنع وظيفة الحرباء) ص11
ان من البديهي ان يلتقي النص والقارئ على ثيمة ذات وشجية مشتركة, من شأنه فتح أفق جديد للحوار, كبداية لخط شروع من أولى مهامه جذب المتلقي إلى منطقته الإبداعية, ومن ثمَّ الالتقاء معه في منطقة (نبر النص الزئبقية ) التي ما ان يستشعرها القارئ حتى يتمكن من استنطاق النص الشعري, وهذا يمكن تحقيقه في نص (لعبةُ السوط), لما فيه من خفايا, فهو نص بمعنى زئبقي, ليس القصد منه انفلات المعنى, بل انه يحمل مواصفة تمكن التقاءه مع متلقيه في مساحة جمالية تُهيئ لبلورة أطر الحوار, لما يتحقق فيه انزياح مبنى ومعنى, ولكي نلج إلى معناه المباشر, نحتاج كدا كبيرا, فما بالك في اقتناص المعنى العميق, فالطريق المتوَّج بالزحام, وما يعتليه من ضوضاء وصفت ب(أقزام ), قابله انحناء في تماهٍ مهَّد لسطوع المارة في تلاشٍ لحامل السوط/ الخوف/ السلطة, صاحبة السطوة, (هكذا الخوف/ حينِ يستوطن الذاكرة/ بلعبته/ يصنع وظيفة الحرباء), إذ ان حامل السوط بتجليه أو غيابه, يبقى حاضرا في ذهن الفرد والمجتمع, هو من يمسك عصا السلطة بسطوة الخوف, سلطان مفرط بالحضور, قصرت أو تلاشت المسافة, في إعادة لإنتاج ثقافة الخوف التي مهدت للحوار الذهني الفاعل في تلقي الأوامر وتنفيذها من دون أدنى تفكير بالرفض, في امتثال لا متناهي, وهذا ما استشعره المتلقي, فهو ليس ببعيد عن ذاك العهد الظلامي, مؤسس إمبراطورية الخوف, كمؤسسة قمعية, وأن بعد رحيلها, نشهد بين الفينة والأخرى يُؤسس الى نظيراتٍ لها, والأدهى من هذا وذاك نؤشر ذات التعاطي, نتيجة نكوص في التلقي من الايجاب إلى السلب, بوصفه تعاطٍ غير قادر على إنتاج معنى لحوار مغاير, حوار من شأنه تقزيم سياط هكذا فكر متأخر, لا يعدو أكثر من كونه خوف متأصل في ثقافة الأفراد والجماعات معا.

الخاتمة
مما تقدم ((يصير ما يعنيه النص الآن مُهماً أكثر مما كان يعنيه المؤلف حين كتبه))23, إننا نعي ان للمؤلف قصديته وقت كتابة النص ولهذه القصدية معنى, المستهدف منها فئة ما بموضوعة/ ثيمة محددة, يُراعى فيها همومهم وآهاتهم, وعلى اعتبار ان الخطاب موجهٌ عقلي/ قصدي, يقابله قارئ يعي جيدا قراءة النص ويفهم معناه, فيخضعه للقراءة التأويلية المفتوحة, ليحقق, ((كشف وانفتاح جديد على العالم))24 فالقراءة التأويلية لا تتوقف(( حتى يتمكن النص من الظهور في غيريته, والحصول على إمكانية الكشف عن حقيقته المتوارية))25, فالنص بناء فني منتظم, عماده اللغة, لبنته الأولى المفردة, سياقه مرهون باتساق بنياته النصية, معمار تدخل فيه الصنعة, القصد/ المعنى, تكمن حقيقته المتوارية في دلالاته المتجاورة, التي ما أن تنافرت حتى أختل البناء, وفسدت الصنعة, وسار في غير سياقه المراد التوظيفه له. إذن عندما نقرأ النص الأدبي, العمل على كشف حقيقته المتوارية, أي معناه العميق, التحقق مما طرحه النص وما الذي أراده: لم وكيف؟, عديد الأسئلة تطرح من اجل الوصول الى المعنى المتواري, (( فالمعنى هدف قبل التحقق, والهدف معنى متحقق, القراءة إذن موقف, والقارئ صاحب موقف))26, أذن قبالة كل نص يقف قارئ, يفهم ويؤول بحسب ما يتحقق له من فهم للمعنى, عبر عملية فحص واجلاء لغبار لكل معنى طارئ في فعل قرائي تواصلي يمكننا به ادراك السبيل إلى المعنى, والفيصل في كل هذا إدراك معنى المعنى/ المعنى العميق, مع الثبات على الموقف لما تمَّ الوصول إليه, وهذا يحتاج منَّا إقرارا بمنهج علمي رصين نسير على خطاه في كل دراسة أو بحث أدبي كي نفصل بين جموع القراء المتبارين, بعيدا عن الأهواء والرغبات, لنفرق بين من اكتنه جوهر النص الأدبي, عمَّن لامس شغاف جدران معناه الظاهر, هذا بالضبط ما يحتَّمه علينا النقد الأدبي من فعل لا مجال فيه للاستهانة أو المجاملة أو الاستسهال.


الإحالات
1- الرمزية والتأويل: تزفيتان تودوروف, ترجمة وتقديم د. إسماعيل الكفري دار نينوى, 2017م ص186
2- د. إسماعيل الكفري: المصدر نفسه,ص186
3- د. إسماعيل الكفري: المصدر نفسه,ص187
4- النسق بين المنهج و التأويل: أ.د سليمان الظاهر, مجلة دمشق- المجلد 31- العدد الثالث- 2015, ص92 5-5-أ.د سليمان الظاهر: المصدر نفسه, ص95
6- أ.د سليمان الظاهر: المصدر نفسه, ص95
7- أ.د سليمان الظاهر: المصدر نفسه,ص104
8-الذات والتأويل: أحمد برقاوي, بحث مقدم في سيمينار قسم الفلسفة- جامعة دمشق الذي انعقد بتاريخ 7/3/2012.
9-بول ريكور, نظرية التأويل" الخطاب وفائض المعنى ص128
10-حسين الهاشمي:صديقنا خط الأفق, دار الضفاف للطباعة والنشر و التوزيع, قطر- الدوحة, ط1, 2018م
11- أدهم عادل: هذا الكون سيء السمعة, دار سطور للنشر والتوزيع, بغداد, ط1, 2017م
12-ولاء الصواف: أغاني الصموت, دار الصواف للطباعة والنشر, دمشق, الجمهورية العربية السورية, ط1, 2018م
13-فراس طه الصكر: بريد العائلة, دار نينوى للدراسات والنشر والتوزيع, ط1, سورية-دمشق, ط1, 2018م
14- رياض الغريب: لا أحد يشبهُ حالنا, دار الصواف للطباعة والنشر, دمشق, الجمهورية العربية السورية, ط1, 2017م
15- ماجد الحسن:لا أريده صعودا, دار الشؤون الثقافية العامة, بغداد, ط1, 2007م
16-رعد زامل: اختلطت على بوصلتي الجهات, دار ومكتبة كريم, بغداد, ط1, 2018م
17- هانس غيورغ غدامير: فلسفة التأويل, منشورات الاختلاف, الجزائر العاصمة- الجزائر, ط2, 2006م, ص120
18-أمير الحلاج: الدائرة خارج الشرنقة, دار ميزوبوتاميا, بغداد, ط1, 2016م
19- سعيد بنكراد: دراسة, التأويل بين اكراهات" التناظر" وانفتاح" التدلال", مجلة علامات العدد, 29, 2008, ص25
20- رحيم زاير الغانم: مقال, النص والعالم في دراجة هوائية, جريدة الصباح,العدد-(4125),بتاريخ 14-كانون الأول-2017م
21-رحيم زاير الغانم: المصدر نفسه
22- امبرتو ايكو: التأويل والتأويل المفرط, مركز الإنماء الحضاري, ط1, 2009م, ص49
23- بول ريكور, نظرية التأويل" الخطاب وفائض المعنى ص61
24-القراءة وتوليد الدلالة: حميد الحمداني, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, ط1, 2003م, ص295
25- فلسفة التأويل: هانس غيورغ غادامير, منشورات الاختلاف, ط2, 2006م, ص125
26-قراءة النص: حسن حنفي, ، مجلة ألف، دار قرطبة للطباعة والنشر، الدار البيضاء، ط 1993, ص22
htt

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى