إسراء النمر - كيف يختار الشعراء عناوينهم؟

يعد اختيار عنوان الديوان معضلة أساسية تواجه الشاعر، سواء قبل كتابته للديوان أو بعده.
في هذا الملف يكتب لنا عشرة من الشعراء المؤثرين في قصيدة النثر المصرية عن تجاربهم في اختيار عناوين دواوينهم، وهم وفق الترتيب الأبجدي لأسمائهم: (جمال القصاص، جيهان عمر، رفعت سلام، عاطف عبد العزيز، علي منصور، عماد فؤاد، كمال أبو النور، محمد أبو زيد، محمد عيد إبراهيم، محمود خير الله).
ولأن عماد أبو صالح هو من ألهمني بالفكرة، أحببتُ أن أكتب عن تجربته.
في فجر أحد الأيام، صحوّت علي نباح هستيري لكلبٍ ضال، فوجدتني أقول لنفسي وأنا نائمة تماماً: شيت.. كلب ينبح ليقتل الوقت.
لا أعرف كيف اختار عماد أبو صالح هذا العنوان. لا أعرف هل صحا منزعجاً مثلي علي نباح كلب، وخرجت منه العبارةُ بشكلٍ تلقائي، أم أنه كان يمشي في شارع مظلم، في قريته البعيدة، ووقف أمامه كلب بتحدٍ وعناد، وظل ينبح في وجهه، فألهمه بالعنوان، وربما الديوان كله.
طلبتُ منه أن أعرف، لكنه رفض، كعادته، وهذا يعطيني مساحتي للتخمين والتأويل.
عماد كغيره من الشعراء، يبحث عن عنوان يظل عالقاً في الذاكرة، عنوان يعبر عناً، ويعكس ما بداخلنا، عنوان يقول لنا: أنا مثلك تماماً، مثل عنوان (أنا خائف)، العادي جداً، والبسيط جداً، والذي قد يخطر علي بال أي حد، لكن الأكيد أن الكثيرين لا يجرؤون علي استخدام العبارات المتداولة في عناوين دواوينهم، وربما هذا ما علي الشاعر أن يفعله دائماً، ألا ينشغل فقط بالدلالة، والمجاز، وأن ينتبه أكثر للصوت الذي بداخله، أو للصوت الذي يجاوره علي الرصيف.
(أنا خائف) هو في الأساس عنوان آخر قصيدة في الديوان، وهذا يعني أن عماد قد يختار أيضاً عنوان الديوان من عناوين القصائد التي فيه، بشرط أن يحمل العنوان روح الديوان. وبالتأمل في عناوين قصائد (أنا خائف) نجد أن أكثرها جاذبية هو عنوان (فنان أكبر من البحر)، إلا أنني أعتقد أنه لم ينحاز له، لأن الذات الشاعرة في الديوان تتحدث مرات بلسان الموت، ومرات بلسان الدم، فمن الطبيعي جداً أن يكون الخوف هو المسيطر عليها.
لكن لا، عماد كان يقصدها تماماً، كان يريد أن يقول لنا أنه خائف، خائف من أصدقائه ومن أعدائه ومن المرض والماضي. خائف من صباح غد ومن نفسه وكل العالم. عماد رغم ما أنجزه من دواوين لاقت قبولاً واسعاً إلا أنه لا يزال يخشي الكتابة، ويعتبرها شيئا سخيفا، لأنها تفضحه، وتعريه، وهو ما يفسر لماذا يفضل الصمت.
قبل (أنا خائف/1998)، كان هناك (أمور منتهية أصلاً/1995)، و(كلب ينبح ليقتل الوقت/1996)، و(عجوز تؤلمه الضحكات/1997)، وفي رأيي العناوين الثلاثة هذه هي العناوين الأجمل لعماد أبو صالح، ربما لأنها كُتبت في عنفوان البدايات، وعماد من هؤلاء الذين بدأوا بثقل، وبدون وضع اعتبارات لمعايير السوق، وربما لأجل هذا جاءت العناوين تلقائية، وعميقة، في الوقت نفسه.
وهنا أريد أن أتوقف قليلاً عند الديوان الثالث، ليس فقط للأثر الذي يتركه العنوان في نفوسنا، وإنما لأن عماد يؤسس لنفسه فيه مدرسة جديدة في العناوين، بالتحديد عناوين القصائد، هو الذي ظل عنوان القصيدة عنده يتكون من كلمة أو كلمتين بالكثير، نجده في (عجوز تؤلمه الضحكات) يتمرد علي طريقته، ويستسلم للأسلوب الشائع حينها، إذ كان العنوان في الثمانينيات والتسعينيات ليس محض عبارة شعرية، إنما قصيدة.
من عناوين القصائد في هذا الديوان: (مرة يصنع مشانق صغيرة، ومرة أشرطة لضفائر)، (لحيته البيضاء هلال سكران، يترنح في ظلام الغرفة)، (لأن جيرانه كانوا مشغولين، نشروا ملابسهم لتبكي لأجله)، (مضطر لأن يعيش في الشوارع، قلبه أكبر من باب البيت)، وطبعاً عنوان (ولد صغير غير مؤدب، مات دون إذن أمه) الذي يعد من العناوين البديعة، والذي أراه يصلح عنواناً لأعماله الكاملة، لكن من طريقته في وضع العناوين بإمكاني أن أقول أنه لا يميل لاستخدام العناوين الطويلة.
لا يوجد في الديوان قصيدة تحمل عنوان (عجوز تؤلمه الضحكات)، لكن في قصيدة (يداه ترتعشان كيَدي مايسترو، وصل إلي ذروة الانفعال)، يتحدث عماد أبو صالح عن عجوز يخلط بين الحرب والحلوي، يقول إنه (كان يسند قلبه بكفه/ لكي لا تؤلمه الضحكات)، هكذا استطاعت القصيدة أن تلهمه بعنوان الديوان، وربما هذه أثمن القصائد، التي تدفق منها العناوين.
من الوهلة الأولي قد تظن أن عماد من الشعراء الذين يضعون عنواناً ثم يكتبون تحت تأثيره القصائد، لكن الأمور ليست تجري هكذا، فالشاعر قد يظل سنوات عدة يكتب في ديوان واحد، دون خطة، أو هدف، حتي يتشكل عالم الديوان، ويفرض وجوده عليه.
أقول هذا لأن غالبية عناوين دواوينه ليست عناوين لقصائد، مثل ديوان (مهندس العالم/ 2002) الذي يصك فيه مصطلحات، وتعريفات، استخدمها البعض للأسف بحماقة شديدة دون أن ينسبوها له، مثل: (الشاعر حارم القبح من أن يهزم الجمال، ومانع الشر من أن يتسلل إلي الخير، ومانح المعني في زمن بلا أي معني).
أيضاً ديوانه السابع (جمال كافر/ 2005)، الغارق في السنتمنتالية المتوحشة، لا يوجد فيه قصيدة تحمل عنوانه. (جمال كافر) دليل أكيد علي أن عماد لا يحتمل في العنوان كلمة زائدة.
أما ديوانه الأحدث (كان نائماً حين قامت الثورة) الذي صدر عام 2015، فمن الواضح أن ثورة 25 يناير هي التي ألهمته به، ومن الواضح أيضاً أن عماد شأنه شأن أي مواطن فوجئ بالثورة تخرج عارية إلي الشوارع، وأنه ربما كان نائماً فعلاً حين قامت في ساعاتها الأولي، أو ربما استخدم كلمة نائم لأنه يحب أن يأتي دائما من غير المتوقع.

جمال القصاص
عتبة النص
لا تخلو عملية اختيار عنوان لديوان شعري من تفكير ما، وهذا طبيعي فمنطق العنوان يخضع للعقل، لكن هذا المنطق كثيراً ما يعتوره الفساد لو جري وفقا لنمط فكري محدد، أو لافتة لأيديولوجيا ما، أو أصبح زاعقاً مبالغاً فيه، متسماً بنبرة دعائية فجة، وكأن الشاعر مجرد تاجر كل ما يهمه أن يروج لبضاعته، بصرف النظر، عن جودتها وطزاجتها، وأنها ثمرة من ثمرات الروح والحلم والطفولة.. ثمة طرق عديدة لتحقيق هذه الأمر بنجاح أيسرها أن يسمي الشاعر ديوانه باسم قصيدة ما فيه، يري أنها تشكل دالاً مركزياً لعالمه الشعري وتعامله مع ذاته والعالم من حوله. لقد جربت هذه الطريقة في عدد من دواويني، بعضها نجح، وبعضها ظل يراوح ما بين قلق الرضا والنجاح.
اختيار عنوان الديوان مسئولية تقع أعباؤها أولاً وأخيراً علي الشاعر نفسه، مهما شاركه الآخرون في ذلك. وأتصور أن العنوان نغمة، قد يعلو إيقاعها ويخفت، حسبما تقتضي الضرورة الشعرية، علي شتي المستويات الفنية والنفسية، لابد أن يعكس العنوان ما يعتمل في داخل الشاعر، من مشاعر ورؤي وأحلام، وأن يكون له ذبذبته البصرية الخاصة، ليدخل المتلقي إلي الديوان جسداً وروحاً معاً، فهناك عناوين لا تبرح كونها مجرد عتبة للنص، تجعلك تدخل النص بجسدك، وتترك روحك ضجرة علي العتبات.
وإذا افترضنا أن الشاعر نص واحد، وقصيدة واحدة بتنويعات مختلفة ما بين ديوان وآخر، فمن الضروري إذن أن يكون عنوان الديوان عابراً ومعبراً في الوقت نفسه عن اللاحق والسابق في تجربة الشاعر، ومستشرفاً ما سوف يأتي في جراب الغد.. ومن ثم أري العنوان حلقة وصل ما بين مساحات الوعي واللاوعي في وجدان الشاعر، إنه بمثابة تاريخ خاص ينطوي علي أسرار ومواقف ومصادفات، هي ابنة الحياة والواقع والذات الشاعرة. إن العنوان حتي لو كان مجرد كلمة مفردة واحدة، فإنه يكبر ويتسع ويشتبك مع العالم والأشياء والعناصر، ويؤكد فعاليته الجمالية انطلاقاً من خصوصية الشاعر نفسه. وعلي العكس من ذلك تجد عناوين طويلة مركبة، لكنها فارغة من المعني والقيمة، لأنها - في الغالب الأعم- إفراز للموضة الشعرية السائدة وسياسات سوق النشر.
أنفر كثيرا من العناوين التي لا تعدو كونها »شماعة»‬ للنص، نعم يمكن أن أنشغل بفكرة ما، موضوع ما، قضية ما، وأظل أقلبها، كأنني أحرث أرضاً بوراً، لكن أن أسيِّج هذه الفكرة في عنوان أو لافتة، ثم أكتب تحت فضائها ما يناسب ويعبر عنها، هذا ليس شعرا، وليس فناً، فأنت تنشغل بالفكرة كإطار وآلية، قد تساعد في تنظيم الأفكار واكتساب المعرفة، لكن فعل الإبداع، فعل الكتابة الشعرية والفن بشكل عام هو بمثابة كسر للإطار النمطي المسبق الجاهز وللفكرة معاً، لأنه ببساطة فعل اكتشاف، مغامرة قد تشارف الجنون، تسابق فيه نفسك، وتقفان معاً علي حافة مجهول لا يكف عن مشاكساته وإغوائه.

جيهان عمر
هذا السهل المراوغ
العنوان هذا السهل المراوغ، المحب الرافض، المستسلم المتملص، الشامخ الواثق، المهزوز اللئيم، الشامل المتكبر، المتسامح المتحرر، الكامن المتردد، الحاسم.. وأستطيع أن أعدد صفاته إلي ما لا نهاية قبل أن يستقر علي هوية متفردة.. هذا العنوان الذي لا أفكر فيه أبداً إلا حينما أفكر في نشر الكتاب.. تماماً كما أؤجل حل مشاكلي.. وقتها أشعر أنها معضلة الكون الأكبر.. هذا العنوان الذي سيلتصق بي إلي الأبد.. لن أستطيع التملص منه أبداً كما أفعل دائماً مع كل ما ينغص عليّ الحياة.. فقد أعتدتُ علي الذهاب.. علي ترك كل شئ ورائي والرحيل ولكن لن أستطيع أن أترك عنوان كتابي لو أصابني الندم بعد النشر.. سيُصبح سطراً ملتصقاً بتعريفات كتبك.. ستنظر إليه وتضحك.. أو يضحك هو علي خداعك.. لطالما تخيلت عنوان كتابي شخصاً مستقلاً بذاته يُعاملني بندية ساخرة.. لن تفلتين مني يقول مبتسماً ومُتشبها بالقدر.
في الديوان الأول كان الأمر أكثر سهولة وبساطة ربما لأنه لا يعرفني أحد.. سأقذف بكلماتي إلي هذا الكون وغالباً لن يراها أحد »‬أقدام خفيفة» هكذا تماماً جئت إلي الشعر.. لا أخاف شيئاً ولا أطمع في شئ. . أريد أن أمر هكذا علي الشعر خفيفة وغير مرئية.. أحب الظل أكثر من تسليط الضوء.. الخفوت يلائم العنوان أكثر من الصخب.. وقتها اعترض »‬حسني سليمان» بشدة علي عنوان الكتاب.. قال لو كنت تريدين اختيار اسم قصيدة فهناك أسماء قصائد أخري كثيرة قوية تلائم البداية أكثر.. يجب أن تكون البداية لافتة.. يجب أن يصنع العنوان ضجة.. سأختار أنا.
تشبثتُ برأيي كطفلة عنيدة، وقلتُ له لن أنشر الكتاب الا بهذا الاسم، إنه ليس عنوان قصيدة، إنه عنوان حياتي.
استسلم صاحب دار »‬شرقيات» لأفكاري الغريبة واعتادها بعد ذلك علي مضض. لم يكن يعلم أنني لا أجئ إليه إلا بعد الانتهاء من معاركي كلها. أجيء إليه بالكتاب يحمل اسما ارتاحت له قصائدي ووافقت أنا علي صداقته الدائمة.
في الديوان الثاني »‬قبل أن نكره باولو كويليهو» ضحك حسني سليمان ضحكته الصاخبة قائلاً أنتِ تمزحين بالتأكيد.. قلت له: لا أمزح أبداً، إنه مجرد سطر بالداخل بالفعل، ولكنه يعكس مرحلة كاملة من حياتي. كان الناشر مشفقاً عليّ من اختياراتي الكارثية، وكنتُ أستمتع بما أراه في عيونه من عدم التصديق. كان يحب القصائد بالفعل ويري أنني كمن ألبس فتاة جميلة فستاناً لا يناسبها. بينما أري أنا أنه ليس لديها رداء آخر.
أحب عنوان »‬ممر معتم يصلح لتعلم الرقص» لإيمان مرسال، وأعتبرها جملة ساحرة لا تتوقف عن توالد المعاني. وعنوان »‬عجوز تؤلمه الضحكات» لعماد أبو صالح قصيدة بحد ذاتها. أما ما تمنيتُ أن يكون عنواناً لإحدي كتبي فهو »‬أثر الفراشة» لمحمود درويش.

عاطف عبد العزيز
شيء من هذا الغبار
كانت ولا تزال عناوين الدواوين بل والنصوص، معضلة توازي صعوبتها أحيانًا صعوبة الكتابة ذاتها، ذلك لأن الشاعر دائمًا ما تتناوشه بعد انتهاء كتابة الديوان أمور عدة قد تبدو متناقضة، فهو من جانب يطمح إلي العثور علي عنوان جاذب ولافت يخايل به القارئ العام، ومن جانب آخر هو يرغب في أن يكون العنوان جديدًا وغير مبتذل يثير شهية قارئ الشعر المتمرس، أيضًا تتنازعه رغبتان، الأولي هي أن يكون العنوان معبرًا عن التجربة الوجدانية أصدق تعبير، والثانية أن يكون العنوان فيه ما يكفي من غموض شفيف، فلا يبذل محتوي الديوان لقارئه من الوهلة الأولي. وعمومًا، بمقدورنا رصد منزعين رئيسيين لدي الشعراء، فيما يتعلق باختيار العناوين، الأول يسعي إلي تلخيص التجربة الشعرية داخل الديوان في العنوان، وربما شرحها أيضًا، والآخر يحاول أن يجعل من العنوان مكملًا للمعني العام الذي يمكن للقارئ استخلاصه من التجربة داخل الديوان.
ولقد مررت شخصيًا في هذا السياق بتجارب عديدة، ففي ديواني الأولين (ذاكرة الظل)، و(حيطان بيضاء)، كنت قد اتخذت عنوانيهما من عنواني القصيدتين المركزيتين بهما، وكنت في ذلك متأثرًا بالشعراء الكبار من أمثال عبد الصبور وحجازي ومحمود درويش وغيرهم، وعلي أية حال، كان تلك هي الطريقة السائدة في اختيار العناوين آنذاك.
بعد ذلك لم أعد ألجأ لمثل هذه الطريقة، بل أصبحت أؤثر أن يكون العنوان تعبيرًا عن الأجواء النفسية التي تسود الديوان بشكل ما، لاسيما حين بدأت تتملكني الرغبة في النظر إلي الديوان بوصفه نصًا واحدًا علي نحو ما، وليس محض قصائد مجمّعة، ومثال ذلك عنوان ديواني الثالث (كائنات تتهيأ للنوم)، وديواني السادس (سياسة النسيان).
أما في الآونة الأخيرة، فقد بت أميل إلي اتخاذ عناوين فيها شيء من الطرافة، ومن الغموض في آن واحد، وتلك العناوين غالبًا ما تكون مقتنصة من عبارة واردة في متن النصوص، ومثال ذلك ما ذهبت إليه حين اخترت عنوانيّ ديوانيّ الأخيرين وهما: (برهان علي لا شيء) و(شيء من هذا الغبار).
وفي بعض الأحيان، كنت أختار عنوانًا للديوان يكون أشبه باقتراح يمكن قراءة الديوان علي ضوء إيحاءاته، مثلما فعلت حين اخترت عنوان ديواني (الفجوة في شكلها الأخير).
وبشكل عام، فقد تراوحت عناوين دواويني بين القصر والطول النسبي، فلم أرصد في نفسي إيثارًا للقصر علي حساب الطول أو العكس، بل ربما كان يلعب المزاج الشخصي -وقت الاختيار- دورًا ما في هذا الأمر.

علي منصور
لو عاد بي الزمن لاخترت
(لا تهجري الحزب يا منيرة)
عناوين الأعمال الشعرية، بالنسبة للشعراء، مسألة بالغة الأهمية، فالشاعر يسعي دائما لعنوان يجذب القارئ، ويثير عنده الفضول، ويحفز مخيلته، ويدفعه للتساؤلات والتوقعات وفي ذات الوقت يكون معبراً قدر الإمكان عن محتوي العمل الشعري. وبنظرة سريعة لعناوين المجموعات الشعرية نجدها، في الأغلب الأعم، تعود لعنوان نص بعينه داخل المجموعة الشعرية ذاتها، نص شعري يري الشاعر أنه أقرب إلي قلبه، وأحب إلي نفسه من إخوته النصوص الأخري مما يجعله جديراً بتمثيلها جميعاً، أو أن يكون عنوان النص فيه ما يحقق رغبة الشاعر تجاه القارئ من جاذبية وإثارة وغموض. بالنسبة لي فأنا لم أشذ عن هذه القاعدة، عناوين كل مجموعاتي الشعرية تعود إلي عنوان نص بعينه داخل هذه المجموعات بدءا من (الفقراء ينهزمون في تجربة العشق) حتي (بقايا ألبوم قديم لبرجوازي صغير). المرة الوحيدة التي خرجت فيها عن هذه القاعدة حدثت مع ديوان (في مديح شجرة الصبار) فليس داخل الديوان نص يحمل هذا العنوان، لكن هناك نص عنوانه (اسمك جميل يا ألوفيرا)، ورغبة مني في إيصال دلالة النص الذي يحمل عنوانه اسماً أعجميا منحت المجموعة كلها عنوانا يعد مرادفا لعنوان هذا النص، وبهذا أكون بشكل أو بآخر لم أشطط بعيداً عن هذه القاعدة الشائعة.
أنا راض تماماً عن عناوين مجموعاتي الشعرية كلها إلا مجموعة واحدة، ولو عاد بي الزمن لم أكن لأختار لها ذات العنوان، ألا وهي (وردة الكيمياء الجميلة)، إنني الآن أفضل لها عنوان (لا تهجري الحزب يا منيرة)، فهو عنوان أجمل، لقصيدة في ذات المجموعة، وربما ما منعني أن أفعل ذلك وقتها هو تراجعي عن وضع اسم أمي علي غلاف الديوان، وربما أكون قد فتنت في ذلك الوقت بعنوان مجموعة الشاعر رفعت سلام (وردة الفوضي الجميلة) التي كانت قد صدرت قبل ذلك بسنوات قلائل.
في فترة ما كانت تشدني عناوين مثل: (كتاب الساعات وقصائد أخري) و(مراثي دومينو وقصائد أخري) لريلكه، و(النهاية والبداية وقصائد أخري) لشيمبوريسكا و(عواء، وقصائد أخري) لألن غينسبيرج. وقد انعكس هذا الشعور حينما قررت إصدار ديواني (خيال مراهق) فجعلته ( خيال مراهق، وقصائد أخري) وذلك لأفصل بين نص (خيال مراهق) وباقي النصوص التي كانت تشكل حالة مختلفة، أنا أختار العنوان بعد الإنتهاء من كتابة العمل، أو حين أقرر نشره، ولا يأتي عنوان الديوان مسبقا أبداً، قد يروق لي عنوان أثناء كتابة العمل لكنه يظل احتمالا قابل للبقاء أو الإستبدال عند الطباعة.
من العناوين الجميلة التي أحببتها (الأخضر بن يوسف ومشاغله) لسعدي يوسف، و (بسبب غيمة علي الأرجح) لوديع سعادة، و(كائنات علي قنديل الطالعة) لعلي قنديل، و(صمت قطنة مبتلة) لفاطمة قنديل، ومن قبل ذلك (الناس في بلادي) لصلاح عبد الصبور، و( البكاء بين يدي زرقاء اليمامة) لأمل دنقل، وغير ذلك كثير. إختيار العنوان يتطلب ذكاء وبصيرة ورؤية فلسفية وخيالاً واسعاً وفطنة وبساطة في ذات الوقت، بصراحة أكاد أقول إن العنوان الجميل يكاد يكون هبة من الله، وأجمل شيء هو أن يصحب العمل الشعري الجميل عنوان جميل، ولو أن عنواناً جميلاً مغايراً لعناوين القصائد، حتي ولو كانت هي الأخري جميلة، ووضع علي الغلاف لكان ذلك أفضل، والأمثلة علي ذلك كثيرة أيضاً. ولأنه عادة ما يرتبط اسم الشاعر بعنوان كتابه الأول فإن حقق هذا العمل شهرة ما فإن ذلك ينسحب إلي العنوان، فيزيد من شهرته ويجعل الذاكرة تحتفظ به، وهكذا تتبدي جدلية العلاقة بين عنوان الديوان والديوان ذاته. ونضرب مثلاً علي ذلك بالشاعر العراقي باسم المرعبي وعمله الأول (العاطل عن الوردة) كما نذكر الشاعر المصري محمد متولي وعمله (حدث ذات مرة أن.. ) وهكذا، فنجاح العمل لجودته أو حصوله علي جائزة ما يعود علي العنوان أيضا بالشهرة والذيوع.

رفعت سلام
إشراقات
اكتشف الآن أنه لم تكن هناك طريقة واحدة. فديواني الأول »‬وردة الفوضي الجميلة» (1987) أخذ عنوانه من عنوان إحدي قصائده الرئيسية، كالعادة الشائعة آنذاك، بلا تردد (والأمثلة أكثر من أن تُحصَي، من صلاح عبد الصبور إلي السياب، إلي نازك الملائكة والبياتي، إلخ). فوقتها، كنت أفاضلُ فحسب- بعد تجميع القصائد في نسق ديوان- بين عناوين القصائد التي يضمها. ولم يخطر ببالي عنوان من خارج العناوين. وبدا لي عنوان قصيدة »‬وردة الفوضي الجميلة» ملبيًا لتلك الشروط الغامضة لصياغة العنوان، من حيث الاختصار الدال، والتباس الدلالة نسبيًّا.
آنذاك، في السبعينيات، لم أكن قد انسلختُ تمامًا عن السائد المهيمن علي القصيدة المصرية والعربية؛ كنت في حالة بين بين، في ذلك المنتصف الحرج المتأرجح بين اعتماد السائد والخروج عليه، دون أن يبين أفق الخروج.
بعده، دخلت تجربة شعرية مغايرة تمامًا، وخارجةً علي السياقات. عمل شعري كامل، بلا قصائد مستقلة. بعد أن قطعت في كتابته »‬الملتبسة» شوطًا، قلت لنفسي إنه أشبه بالإشراقات الروحية، الذاتية، لدي الصوفية العرب، علي لسان شاعر مصري معاصر. وأعجبتني كلمة »‬إشراقات». لكني انتبهت إلي أن هناك »‬إشراقات» رامبو، الشاعر الفرنسي الشهير. وتلك مشكلة. لكني قلت لنفسي إن لدينا- في التراث العربي- إشراقات الصوفية السابقة لإشراقات رامبو، والمذهب »‬الإشراقي» القائم علي »‬وحدة الوجود». كما أن كلمة Illuminations التي استخدمها رامبو وترجموها عربيًّا إلي »‬إشراقات» لا تعني بالضرورة »‬إشراقات»؛ بل هي أقرب إلي »‬إضاءات». نعم، بالضبط، فهذه الكتابة الغريبة التي تتواصل علي الورق أمامي تنطوي علي »‬وحدة الأزمنة والأمكنة والعوالم»، بلا فواصل أو ترتيب. تلك هي التجربة الشعرية الجديدة، التي أعكف عليها. إذن، فحتي إذا كانت هناك »‬إشراقات» رامبو، فها هي »‬إشراقات رفعت سلام».. لمَ لا..؟
لكن العمل الشعري التالي، المغاير في بنيته وتوجهه، كان ينبني- علي النقيض من »‬إشراقات رفعت سلام"- علي القصائد القصيرة (حوالي 10 سطور تقريبًا بكل قصيدة)، المستقل بعضها عن بعض. كنت أكتب بصورة محمومة، بمعدل قصيدة أو قصيدتين كل يوم، كأنني في سباق مع الزمن، إلي أن تجاوزت المائة قصيدة. في إحداها، عند المراجعة، وجدت- بإحدي القصائد- صورة »‬أشياءٌ صغيرة تومئ لي»، فكان العنوان »‬إنها تومئ لي».. دون تحديد للضمير »‬ها» الوارد في الكلمة الأولي.. بما يخلق ظلالاً ما، غير قاطعة، حول الدلالة، علي العكس من الجملة الأصلية. مجرد تحوير بسيط، لإحدي عبارات الديوان يجعل الدلالة المحددة مطلقةً وغائمة.. بلا قطعية..
وعلي نفس النحو تقريبًا، سأهتدي إلي صيغة »‬هكذا قلت للهاوية»، انطلاقًا من حضورها بأحد نصوص الديوان، بالرغم من تماسها مع صيغة »‬هكذا تكلم زرادشت» لنيتشه. فلم يعد التماس مع إحدي الصياغات الشهيرة ذا حساسية بالنسبة لي، ومانعًا من استخدام الصيغة، طالما أنها بدت لي نابعة من السياق الشعري، وليست مقحمةً عليه.
وقد وصلت هذه الصيغة إلي أقصي تماسها مع الصيغة الأصلية لنيتشه في عملٍ تال هو »‬هكذا تكلم الكركدن».. ربما تعارضًا- في الجوهر- مع صيغة وسياق نيتشه.. بلا حرج أو حساسية.
لكن الأمر سيبدو محرجًا لي- ذاتيًّا- حين أكتشف أن صيغة »‬أرعي الشياه علي المياه"- عنوان العمل الشعري الأخير- سبق أن وردت في عمل شعري سابق لي. فكيف حدث ذلك، رغم المراجعات المتقصية للتكرارات وتسرب الصور الشعرية من السابق إلي اللاحق؟
ربما قمت بهذه المراجعات وأنا في حالة إرهاق ذهني من العمل المتواصل المكثف لشهور متواصلة علي عمل مترامي الأطراف والعناصر، دون أن أمنح نفسي الراحة الضرورية قبلها. ربما.. فما باليد حيلة، بعد صدور العمل، وانتشار عنوانه »‬المغوي».
هكذا، لا طريقة ثابتة، ولا التزام بمنهج موحَّد في اختيار العناوين. فكل عمل يقترح عنوانه أثناء الكتابة، أو بعدها مباشرةً، ويفرض ذاته.

عماد فؤاد
بكدمةٍ زرقاء من عضّة النّدم
أعتبر عنوان العمل الأدبي عتبة رئيسية من عتباته، مثله في ذلك كمثل الغلاف الذي لا يقلّ أهمية في رأيي عن العنوان، وأعتقد أنّنا في عالمنا العربي لا نولي اهتمامًا حقيقيًّا لأغلفة الكتب، وإن كان التطور التكنولجي ساهم في تجديد النظرة إلي صناعة الأغلفة في السنوات الأخيرة. لكن لنعد إلي العنوان، وارتباطه بالعالم النهائي للعمل الأدبي، فأنا من الذين يحرصون علي اختيار عناوين أعمالهم بدقة، ليس فقط الشِّعرية منها، بل في غيرها كما في عنوانيّ الأنطولوجيتين اللتين أصدرتهما حتي اليوم لقصيدة النثر المصرية: »‬رُعاة ظلال.. حارسو عزلات أيضًا» في الجزائر 2007، و"ذئب، ونفرش طريقه بالفخاخ» بالقاهرة في 2016.
تختلف ظروف اختيار عنوان نهائي من عمل أدبي إلي آخر، أحيانًا أبدأ الكتابة وأنا في ذهني خطٌّ ما، وبالتّالي تصوّر مبدئي عن عنوانه، لكن سرعان ما يأخذ العمل في التّشكل يومًا بعد يوم، وأجدني أبدّل العنوان ليحيط بعالم الكتاب ككّل، حدث هذا أكثر من مرّة، كما في عنوان ديواني الأوّل »‬أشباح جرَّحتْها الإضاءة»، والذي صدر بالقاهرة عن سلسلة ديوان الكتابة الأخري سنة 1998، أبدلت العنوان أكثر من مرّة حتي ظهر بعنوانه النّهائي. لكن هذا التّردد لم يستمر طويلًا، وأذكر أنّني حين أصدرت ديواني الثّاني »‬تقاعد زير نساء عجوز» عن شرقيات في 2002، اعترض بعض الأصدقاء علي كلمة »‬عجوز» وطالبني بعضهم بحذفها، لكنّني لم أجد أن حذفها سيفيد المعني الذي أريد إيصاله. وبعد ثلاث سنوات عنونت ديواني الثالث هكذا: »‬بكدمةٍ زرقاء من عضّة النّدم» 2005، وحينها أيضًا أعرب لي بعض الأصدقاء عن ضرورة حذف حرف الباء في كلمة »‬بكدمة»، وهو ما لم يقنعني كذلك، فأبقيت عليها.
يبقي العنوان دائمًا بالنسبة للكاتب محطّة مهمّة لعمله الأدبي، وخاصة في الشِّعر، ثمّة عناوين شعريّة لا تنسي، كما لدي وديع سعادة وأمل دنقل وسركون بولص ودرويش وأمجد ناصر مثلًا لا حصرًا، والعناوين الجميلة واللافتة ليست حكرًا علي الشِّعر فقط، ثمّة أيضًا عناوين روايات تحمل من الشِّعر ما لا تحمله دواوين كاملة، وهل ننسي عناوين مثل: »‬خفّة الكائن التي لا تُحتمل» لكونديرا أو »‬سرد أحداث موت معلن» لماركيز أو »‬منزل الجميلات النائمات» لكواباتا وغيرها؟
في مجموعتي الأخيرة »‬تلك لغة الفرائس المحْظوظة» والصّادرة قبل أسابيع عن ميريت بالقاهرة، كان العنوان ينبني يومًا بعد يوم أثناء تطوّر الكتابة علي الفكرة الرئيسية التي كنت أشتغل عليها، ألا وهي فكرة اللغة وما تحمله من معان شعرية وفنية وفلسفية، ولذلك تجرّأت علي وضع حرف الإشارة »‬تلك» في بداية العنوان، لأنها بشكل أو بآخر تحيل إلي إرث لُغوي وديني في تلقّينا نحن للخطاب الشِّعري الذي أردت أن أحيل القارئ إليه. ولأنني أومن بأن لكل عمل شعري أو أدبي ظروفه الخاصة التي تشكّل منها، فلكل عنوان كذلك مرجعياته اللُّغوية والثّقافية التي يحيل إليها.

كمال أبو النور
موجات من الفوبيا
لاختيار عنوان الديوان أسباب كثيرة. أحياناً يكون عتبة من عتبات الدخول إلي عالم الديوان ورؤية الشاعر في كل قصائده أو أغلب قصائده، وأحياناً يكون مجرد عنوان لإحدي القصائد، وتكون هذه القصيدة محورية في تناول هَمَّ ما تدور حوله معظم قصائد الديوان، وأحياناً يختار الشاعر جملة مُبهرة -بالنسبة له- قد لا تكون لها علاقة برؤيته في الديوان، وأحياناً يختار عنواناً يمثل له حلماً يرتبط بخيط واهن لا يدركه إلا القليل من النقاد والشعراء الذين يجيدون فهم ما بين السطور.
أحيانا كثيرة يشتري القارئ ديواناً بسبب عنوانه المفارق والمغاير لأن هناك نوعية قارئ لا يشتري إلا العناوين اللافتة وفي بعض الأحيان يضع الشاعر عنواناً قبل أن يكتب الديوان ويكون الديوان كله في هذه اللحظة قصيدة واحدة ولكن في هذه الحالة لابد أن يمتلك الشاعر نَفَسَا روائياً ولديه قدرة كبيرة علي التحليل والتفكيك والتركيب وأحياناً الفوضي والعدمية.
أما بالنسبة لي فقد جاء عنوان ديواني الأول (موجات من الفوبيا) يحمل عنوان قصيدة داخل الديوان حيث إن الفوبيا موجودة في معظم قصائد الديوان وجاء عنوان ديواني الثاني (قفزة أخيرة لسمكة ميتة) بعد عناء طويل وهذا العنوان ليس عنوان قصيدة داخل الديوان وليس جملة داخل الديوان. هو بالنسبة لي حلم ظل يراودني بين سطور قصائد هذا الديوان. وبالنسبة لي لم أتمني عنوانا كتبه شاعر آخر فلكل شاعر تفرده وعالمه ودائما أقول لنفسي ولماذا لا أكتب عنونا أجمل من كل العناوين التي كتبها الآخرون؟ لكن لا أخفي إعجابي بعناوين دواوين كثيرة فمعظم عناوين شعراء قصيدة النثر مبهرة، وعلي سبيل المثال لا الحصر عناوين دواوين صديقي الشاعر عصام أبو زيد، كذلك عنوان ديوان الشاعر المبدع محمد القليني ( أركض طاويا العالم تحت إبطي). وعموما منذ ما يقرب من عشرين عاما والشعراء يبحثون عن عناوين مغايرة ومفارقة. ولكن بدأت تخفت هذه الأيام واللافت للنظر أن هناك كثيرا من الشعراء والروائيين يطرحون عناوين كثيرة ويطلبون من المتابعين لهم اختيار عنوان لكتابه، وقد فعلتها في ديواني الأول من كثرة الحيرة التي انتابتني، ولما وجدت إجماعا علي العنوان الذي ارتاحت نفسي له أطلقته علي ديواني الأول، وكذلك الروائي المبدع وحيد الطويلة كتب علي صفحته علي الفيسبوك عناوين مقترحة لاسم روايته الجديدة التي تحت الطبع ليستقر علي عنوان لها.
بسبب هذه الحيرة أحياناً أقول لماذا لا يصدر الشاعر دواوينه بلا عناوين ويطلق عليها أرقاما مثل الديوان الأول، والثاني، والثالث، كما كان يحدث في الماضي. أعتقد أن علينا أن نفعل ذلك حتي لا نقع في هذه الحيرة.

محمد أبو زيد
الحركة الأخيرة في مكعب روبيك
في حين بدأت الرواية بعناوينها في تراثنا العربي، مثل »‬حي بن يقظان» و»‬ألف ليلة وليلة»، لم يبدأ الشعر كذلك، بل كانت القصائد تنسب للشاعر مباشرة، فنقول »‬معلقة عمرو بن كلثوم»، أو »‬معلقة امرؤ القيس»، أو يتم توصيفها كأن نقول »‬مرثية الخنساء لأخيها»، وحين يتم جمعها في كتاب واحد بعد ذلك يقال »‬ديوان المتنبي»، بل إن هناك عشرات القصائد اليتيمة ومئات القصائد ذات البيت الواحد، التي تنسب لاسم صاحبها فقط، كأنها تنتمي بالنسب إليه، كأنها جزء منه، قطعة بازل تكوّن حياته. وهذا في رأيي هو الشعر، هو جزء من روح الشاعر لا ينتمي ولا ينسب إلا إليه. وفي ظني أيضاً أن اختيار عناوين الدواوين لو وضعنا في اعتبارنا تطور الكتابة والنشر، يجب أن يكون كذلك، قطعة من الشعر. قصيدة مستقلة. واحدة من ملايين القصائد الهائمة في الهواء حولنا ولا نراها أو نحسها إلا حين تصعقنا في خفة، خاطفة، وصادمة، وموحية، وتقول كل شيء في أقل عدد من الكلمات، واحدة من القصائد القديمة ذات البيت الواحد.
أعتقد أن القارئ يشتري أي ديوان لأحد سببين، إما لأنه يحب الكاتب وفي هذه الحالة لن يهتم كثيراً بما يقوله الغلاف أو لأن العنوان أعجبه، والعناوين في الآونة الأخيرة أصبحت تتبع ما صار يحدث في الرواية وفي الأغلفة، وهو »‬الهرولة وراء الترند»، فمرة يجب أن يكون العنوان صوفياً، ومرة يجب أن يكون العنوان غريباً، ومرة يجب أن يكون العنوان طويلاً، لكني أعتقد أن العنوان يجب أن يكون معبراً عن الديوان، حتي لو لم يكن عنوان واحدة من قصائده، يجب أن يكون قصيدة مستقلة، تستطيع أن تحفز القارئ لأن يضع يده في جيبه ويُخرج ثمن الديوان.
بالنسبة لي، أعتقد أن اختيار عناوين الدواوين تطور بتطور فهمي للشعر وإحساسي به، وإن ظل حتي الديوان الأخير تحت مظلة واحدة هي محبتي للتراث، فأربعة دواوين لي تحمل عناوين ذات صبغة تراثية: »‬مدهامتان»، وهي أقصر آية في القرآن (سورة الرحمن)، و"سوداء وجميلة»، من نشيد الإنشاد، و"جحيم»، عنوان ديواني القادم بما يحمل من صبغة دينية، و"قوم جلوس حولهم ماء»، هو شطر بيت شعر شهير كنا ندرسه في التعليم الثانوي، للتدليل علي رداءة الشعر، ووددت بهذا الاختيار أن أقول أن الشعر يأتي مما تظنونه رديئاً أيضاً، وهذا لا ينفصل عن روح الدواوين بالمناسبة. لكن التطور عموماً الذي لاحظته هو أنني صرت أختار عناوين أقصر، وأقل غرابة وتعقيداً، فعنوان ديواني الأول كان »‬ثقب في الهواء بطول قامتي»، وعنوان الديوان القادم كلمة واحدة، لا يعني هذا الانحياز لطول أو قصر أو بساطة أو تعقيد، لأن الشاعر يفعل ذلك دون أن يقصده، أقصد أن تطور فهمه للشعر سواء كان محقاً في ذلك أم لا هو الذي يدفعه لذلك.
أكتب الديوان أولاً، وهو في الأغلب يكون حالة واحدة، وبعد أن أنتهي منه أختار عنواناً عن هذه الحالة، في بعض الأحيان يكون الأمر محسوماً، ديواني »‬مديح الغابة» مثلاً مقسم من الداخل إلي »‬الغابيون»، و»‬الغابيات» و»‬كائنات أخري»، فجاء العنوان متوافقاً مع ذلك، في بعض الأحيان لا يشي التقسيم بذلك. فأحتاج إلي عنوان مناسب وهو أمر صعب ومعقد ومرهق.
اختيار العنوان بالتأكيد ليس سهلاً، يشبه الإجابة علي السؤال الشهير الذي وُجّه إلي ليوناردو دي كابريو what about your first oscar، يشبه اختيار اسم طفلك الأول، يشبه روحك في تلك المرحلة الزمنية، لأن الشعر في ظني هو تأريخ شخصي لذواتنا كشعراء، فكيف تصف كشاعر ذاتك في هذه المرحلة في كلمة أو اثنتين أو خمس؟
أعرف أن البعض يختار حتي عناوين قصائده بدون اهتمام، كأن تكون كلمة من القصيدة أو أول بيت فيها، لكني أظن أن الأمر ليس بهذه السهولة بالنسبة لي، ديوان الشعر يشبه مكعب روبيك، يجب أن تقوم بأكثر من حركة لتقوم بحله، الحركة الأولي هي القصيدة، الحركة الثانية هي عنوان القصيدة، الحركة الثالثة هي عنوان الديوان.

محمد عيد إبراهيم
الغرائبية أولاً
مسألة وضع عناوين للدواوين مسألة حديثة، فلم يكن الشعراء يضعون عناوين لا للقصائد ولا الدواوين، وكانت تُجمع تحت عنوان (الأعمال الكاملة) للشاعر فلان، أو (ديوان شوقي) مثلاً، ديوان حافظ، ديوان البارودي، إلخ، كذلك لدي شعراء الغرب والشرق، وربما بدأ الحكاية الشاعر الأمريكي والت ويتمان، حيث وضع عنوان (أوراق العشب) لكل ما كتب طيلة حياته، وأصدر عدة طبعات تحت العنوان نفسه قائلاً (طبعة مزيدة) فقط. وجاءت حكاية وضع العنوان كعلامة من علامات النصّ يعتدّ بها في نقد الشاعر، مثلها مثل شكل الكتابة علي الصفحة وجماليات الغلاف وغيرها، كما تشير إلي خصوصية التجربة ونوعية النصّ وخبرة الشاعر في طبوغرافيا شكل النصّ، كما فعلها بدايةً السورياليون، ثم تبعهم مَن تبعهم حتي يومنا هذا، فنجد من يكتب (قصيدة نثر) تحت العنوان الرئيس، أو (سيرة شعرية) أو (رواية شعرية) إلخ، تحديداً أكثر لجنس ما يكتب.
أما بالنسبة لي فعنوان كل ديوان عندي له قصة، فقد يأتي العنوان عفو الخاطر بعدما أنتهي من الديوان، غالباً، لكن قد يأتي، نادراً، قبل وضع أي كلمة فيه، مثلما حدث مع ديوان (الملاك الأحمر)، وديوان (عيد النسّاج)، فمع هذين الديوانين تحديداً كتبتُ العنوان ومن بعده بفترة هلّت القصائد، لكنها شيء نادر معي عموماً. فأنا أكتب الديوان، ثم أختار بعده العنوان، قد يأتي عنوان الديوان من عنوان إحدي القصائد، أو من شطرة معينة أستملحها وأري فيها خلاصة التجربة الشعرية في الديوان، لكنه عموماً يرتبط عندي ارتباطاً شرطياً بعالم الشعر الذي أجمعه في هذا الديوان، حيث يكون الديوان تجربة متكاملة لا مجرد تجميع للقصائد التي أكتبها.
وأنا عموماً مقل نسبياً، حيث أصدر ديواناً كل أربع أو خمس سنوات، ويختلف زمن كتابة الديوان عندي، حيث قد يستغرق شهراً مثلاً متتابعاً، حيث أختزن التجربة طيلة فترة توقفي عن كتابة الشعر، ثم ينفجر الشعر قصيدة بعد أخري، وقليل من دواويني استغرقت كتابته سنوات، لأنني أختزن الحالة الشعرية فترة طويلة، ثم أجترّ ما يجري بداخلي.
وقد حدثت معي مشكلة في عناوين ثلاثة دواوين لي: الأول (الصمد الأخير)، وقد صودر في هيئة قصور الثقافة ثم أُعيد طبعه باسم آخر (علي تراب المحنة)، كذلك حدثت مشكلة مع ديواني (السندباد الكافر) الذي أصدرته في دار (الغاوون) في بيروت، حيث تم منعه في معارض الكتب، مع أنه لا يحمل في طياته أي مناهضة دينية، وأتمني لديواني الأخير (رب علي شكل طائر) أن لا يُساء تأويله أيضاً، ولا يحدث له أي سوء أو لبس في قراءته من مجرد العنوان، فأنا من أنصار ما بعد الحداثة، والانتهاك من أهم سماتها.
عموماً، العنوان عندي يظلّ غرائبياً، ليلفت الانتباه، أو يلخّص التجربة بصورة مجازية، ويمكن رؤيته منفرداً كقصيدة من سطر واحد، مثل: (بكاء بكعب خشن) أو (مخلب في فراشة) أو (خضراء الله) أو (مجنون الصنم)، فكأنها قصائد قصيرة توحي بعالم الديوان وتشير إلي مكنونه وتدلّ علي مضمونه، عكس من لا يهتم بعنوان ديوانه، حيث يضع سطراً لا يدل علي شيء أو مجرد كلمة، وبلغة غير أنيقة، فالأناقة مطلبي في اللغة، ومقصدي الكلي من الشعر، فالشعر لديّ أساسه اللغة، ضمنها المضمون طبعاً، لكن في لباس أنيق دائماً.

محمود خيرالله
كمن يصنع مركباً ورقياً من كراسة قديمة
لستُ من هؤلاء الذين يضعون عنواناً لديوان، ثم يبدأون في كتابة قصائده، كما أنني لستُ ممن يكتبون القصائد، ثم يضعون لها عنواناً يجمعها، أنا لا أقصد فعل أي من الأمرين، ولم تكن لدي خطة مضمونة في هذا المضمار، وأخشي أن أصدم القارئ بالقول إنني لم أطرح هذا السؤال البديهي علي عقلي الغافل من قبل، كأنني كنتُ في انتظار سؤال أخبار الأدب لأستدعي كل تلك المرارات التي عشتها بحثاً عن عناوين لدواويني، شيء ما شرير وغير مفهوم كان يدفعني إلي هذا الطريق العشوائي في اختيار عناوين دواويني الخمسة، شيء ما تعلمته خلال أكثر من عشرين عاماً مرت، من ديواني الأول »‬فانتازيا الرجولة» 1998، إلي ديواني الأخير »‬الأيام حين تعبر خائفة» 2019، شيء ما يشبه كل ما فينا من ضعف وتناقض وهشاشة.
ربما لأنني أعمل في مهنة تجعلني »‬ماكينة عناوين» يومية، ولأنني أحترم الشعر، وأريد أن أتجنب العناوين السيارة كنتُ دائماً أسعي عكس النمط السائد، إذا كتب الشعراء عناوين طويلة كتبت أنا عناوين قصيرة »‬فانتازيا الرجولة»، وإذا اخترتُ عنواناً طويلاً لابد أن يكون لصيقاً بذاكرتي منذ الصغر، لقد كان أمراً مربكاً في البداية، لدرجة أنني حين كنتُ صغيراً تمنيتُ كثيراً أن تكون الدواوين بلا أسماء، لكي لا تضلل القارئ من أول وهلة، ولكي لا تصيبه بالعماء وهو يقرأ القصائد مستخدماً دليلاً واحداً لا يستطيع ينير له الطريق، كثيراً ما كرهتُ ذلك العنوان »‬الأحادي» الذي لا يدل القارئ بدقة علي الشعر، والذي يحسم كل شيء قبل أن يحدث، وسوف يرتكب بالإضافة إلي كل ذلك حماقة أن يفسِّره، بما في ذلك من اختصار مخل وجارح للشعر.
في سنوات الشباب الأولي كتبتُ ديواناً تفعيلياً ولم أصدره، مزقته مثلما يمزق المرء دليل إدانته، لأسباب كثيرة من بينها العنوان، الذي كان يشبه كثيراً من العناوين التي تصدر لدواوين شعر التفعيلة مطلع التسعينيات، وسرعان ما صدر ديوان لأحد شعراء التفعيلة الأشاوس يحمل عنواناً قريباً لهذا الديوان الممزق، فلم يكن ليضيف لي شيئا، أن يوضع اسمي علي ديوان يعبر عن مُنتج شعراء آخرين أكثر مما يعبر عني، وقد كان ذلك أول درس لي في عنوان ديواني الثاني: »‬لعنة سقطت من النافذة»، 2001 عن دار ميريت للنشر، الذي اخترته ليقول إن العالم الشعري في هذا الديوان عالم واقعي يفيض باللعنات، ولن أكون مبالغاً لو قلت إنني رأيت بأم عيني اللعنات وهي تتساقط من النوافذ، حينما كانت النساء تتعارك بالكلام عبر الشبابيك، بينما الرجال يتعاركون في الشارع، وتسيل الدماء حارة من أبدانهم.
»‬ظل شجرة في المقابر»، عام 2005، عن »‬دار البستاني»، كان عنواناً لمجموعة من المقاطع الشعرية التي يضمها الديوان، الحقيقة أن هذا العنوان وكثيراً من عناويني لم أقم باختيارها، كمن يصنع مركباً ورقياً، من كراسة قديمة، بل إنني كنتُ دائماً أنتقي من ذاكرتي مشاهد تعبر عن الحالة الشعرية لكل ديوان، »‬ظل شجرة في المقابر»، ينتمي إلي هذا الفصيل، فهو مشهد قديم محفور في ذاكرتي من أيام الطفولة لا أتذكر شيئا عنه الآن، لكنه بكل تأكيد جزء من التراث البصري لشخص ولد وعاش نصف عمره في بلد ريفي صغير، كانت المقابر فيه منطقة حدودية ملعونة بالنسبة لنا نحن الأطفال، كانت المقابر فاصلاً بين زمنين، وفاصلاً بين قريتين، وكان وجود شجرة وسط كل هذا الموات، يشبه وجود باقة ورد حمراء تحت المقصلة.
طبعاً لدي عناوين أعشقها لشعراء آخرين سأذكر الأجانب والعرب منهم فقط: » ‬طردتُ اسمك من بالي» أمبرتو أكابال ترجمة وليد السويركي، و»‬كل شيء الآن.. كل شيء»، لشاعر ألماني لا أتذكره الآن، أحببت »‬الفرح ليس مهنتي» لمحمد الماغوط، وأحببت »‬ضحك علي ذقون القتلة» للفلسطيني طه محمد علي، أحببت »‬ليس للمساء أخوة»، لوديع سعادة، وأحببت »‬فقط لو يدك» لبسام حجار.



* كيف يختار الشعراء عناوينهم؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى