ميخائيل سعد - حين شتمتني زوجتي

أتى الصوت قوياً من الطرف الآخر من البيت: "ميخاييل روح اطفي النار تحت القهوة". كان هذا صوت زوجتي آمراًلا يقبل اعتراضاً ككل مستبد، وكنت وراء الكمبيوتر أكتب شتيمة لأحد " الفيسبوكيين" الذي يتفوّق علي بحصد " اللايكات".

ولأنني لا أريد أن أنسى الكلمات التي تعبت بلطشها من هذا البوست وذاك، وأنا أتجول على صفحات الأصدقاء، فقد قررت تجاهل الصوت " الصارخ في برية" بيتنا، ومتابعة الكتابة.
عندما وصلت إلى المطبخ كانت القهوة تسيل على أطراف الركوة العربية ومنها إلى سطح الفرن الإفرنجي، تاركة ما يشبه آثار انفجار بركاني، فقاعاته البنية المتطايرة وصلت إلى الجدار الخلفي للفرن الأبيض، أما حممه السائلة فقد وصلت إلى أرض المطبخ.

لم يسعفني الوقت لإزالة آثار القهوة، فقد كان حضور زوجتي سريعاً، بعد أن انتشرت رائحة القهوة المحروقة في البيت كله، وما إن وقعت عيناها على الجريمة التي اقترفتها حتى علا صوتها: " بضل بطيء، طول عمرك هيك، ما بيجي من وراك غير التعب، يا ريت تكون قعدتك ورا هالكمبيوتر مفيدة وبتجيب شوية قروش".
لم أرد عليها، وحمدت الله أنها اكتفت بالحكي، ولم يسبق لسانَها كفُها، كما يفعل رجال بلادنا بنسائهم لسبب أبسط من فوران القهوة.

عدت حزيناً إلى موقعي أمام الكمبيوتر، ومفكراً في الحالة التي وصلت إليها، محاولاً البحث عن مبررات بطئي وضعفي أمام زوحتي وأولادي، والذين يتقاذفونني مثل طابة في ملعب لكرة القدم، غير مهتمين بعمري الذي لامس حواف الخامسة والستين ويفوق عمر حزب البعث في السلطة، وتساءلت هل هي سنّة الحياة أم أن هناك أسباباً أخرى؟

رجعت بذاكرتي إلى عام ثمانين، على طريقة "الفلاش باك" في السينما، عندما تعرفت على زوجتي.

كان ذلك في بيروت، وكان عمري خمسة وثلاثين عاماً، ووزني سبعين كليو غراماً، وأعمل صحافياً، لا تكاد بيروت الغربية تتسع له، وكنت أريد الهرب من قصة حب تموت في قلبي، بعد أن ساهمت في قتلها بيدي. فقد كانت الفتاة جميلة وذكية ومريضة، ومن دين آخر.

وأريد الهرب من واجباتي الشجاعة تجاه فتاة تحبني فعلاً، وعمرها قريب من عمري، فكان أن عرفتني زوجة صديق على زوجتي، الفتاة العشرينية التي جاءت بيروت من أجل امتحاناتها الجامعية.

كان للعشرين عاماً حضورها الطاغي في اتخاذ قراري بالتخلي عن حبي القديم والارتباط بالعشق الجديد، وكنت، فيذلك، منسجماً مع سلوك أبناء جيلي التقدميين، والذين عندما يقررون الزواج ينسون شعاراتهم السياسيةويعودون إلى ثقافتهم الشعبية التي تقوم فيها الأم أو الأخت بالبحث للشاب عن زوجة "صالحة"، لم يُقبّل فمها إلاأمها.

لم أكن وقتها بطيئاً، كما شتمتني قبل قليل زوجتي، بل على العكس، كنت أحياناً أسبقها في كثير من الأمور، خاصة في ليالينا الحميمة، فقد كنت أصل إلى الهدف، وهي ما تزال بعد في منتصف الطريق، وكأنها تصعد طريقاً جبلياً وعراً مخصصاً للماعز، ومع ذلك لم أتهمها يوماً أنّها كانت بطيئة.

كان من الصعب علي، في ذلك الوقت، يوم كنت شاباً جداً، ومثقفاً جداً، ويسارياً جداً جداً، الاقتناع أنني سأصبح عجوزاً، وكنت أرى، عندما يكون لي مصلحة، أن الأعمار لا تقاس بالسنين وإنما بالتجارب والثقافة. وعليه فإنني سأبقى شاباً، وأن الفرق بين عمر العشرين عاماً والخامسة والثلاثين يمكننا تقليصه بقراءة الكتب والقصائد والبيانات السياسية وتربية الفتاة الصغيرة على يدي، وعند الضرورة، بكتابة الحجب وزيارة الأماكن المقدسة.

وقد برهنت الأيام أنني الابن الوفي لثقافة اجتماعية وسياسية سائدة، لم تعرف كيف تقرأ الواقع ولا كيف تضع حلولاً لأزماته، بما في ذلك أزمتي مع زوجتى وأولادي. فقد كنت مستسلماً لفكرة سخيفة تقول إن المرأة تهرم قبل الرجل بحكم الحمل والولادات المتعددة، وتربية الأولاد والعمل المتواصل في البيت. وبالتالي، فإن فارق عشر سنوات أو خمسة عشر عاماً أو حتى عشرين عاماً بين الرجل والمرأة هو أمر طبيعي، ولم يكن وارداً في الذهن مناقشة قضية السرعة والبطء في الحركة، والوصول السريع إلى المطبخ.

أخيراً، وجدت أن لا معنى لمتابعة جلد الذات، كما يحدث في معارضتنا، كلما ارتكب أحدهم تقصيراً في القيام بواجبه تجاه ثورة شعبه، وأن ما حصل من قبلي، عندما قررت الزواج، سأتحمل نتائجه، والمهم ألا يتكرر مع أولادي، وأن أتخلى عن المنافسة السخيفة مع بعض "الفيسبوكيين" لجمع "اللايكات" والغيرة من بعض السياسيين، والاهتمام بعمل من شأنه خدمة الثورة السورية التي ستغيّر حياة السوريات والسوريين جميعاً.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى