عباس علي عبود - الترياق

إلى الفنان: حسـين شـريف

■ تيم ترا را رم.. خافتاً يتواتر إيقاع الطبول. أبقارٌ ترعى العشب الأخضر فوق الجبل. معيزٌ قصيرة الآذان تتقافز فوق الكتل الصخرية. صبيانٌ يغتسلون في بركة ينساب إليها الماء من الأعالي، ثم يسيل إلى السفوح. ضبٌّ نحيل، قلق، مستطلع؛ متوثب. سحليةٌ بذيلٍ أزرق تتأود فوق الحصى. فراشةٌ ترفرف، عصفورتان تغرِّدان، تتلاحقان على الأغصان بين الشجيرات. سربٌ طائرٌ عائدٌ إلى أوكاره..

قبيل الغروب انطلقت أبواقٌ عدة، في مناطق متفرقةٍ من الجبل. رزمٌ واحدٌ متصاعد. إنَّها إشارة الخطر، وميقات اللجوء إلى المغارات. تقدَّمتُ مع مضيفي حتى باب المغارة فأشار عليَّ بالتوقف قائلاً:


- إنَّه تاريخٌ مريرٌ من المطاردة، والقهر، والاستعباد.

- وهل يعرف مطاردوكم مداخل المغارات؟

- بعضهم يعرفها لكنَّهم لا يجرأون على اقتحامها، فهلاكهم حتمي.

- ولكن، لِمَ لا تقيمون لهم الشِّراك خارج المغارات؟ فأنتم أهل الجبل وأدرى بشعابه!


تلفت حوله ثم أشار إلى صخرةٍ وطلب منِّي الانتظار عندها. عاد دليلي يتبعه عددٌ من الرجال والشبان، وسطهم عجوزٌ نحيل، معتدل القامة، صافحني بحرارةٍ فتبعه الآخرون. دعاني للجلوس على صخرةٍ بقربه. كرَّر ترحيبه بكلماتٍ طيبة، ثم تابع بصوته المبحوح:


((لعلكَ استرحت قليلاً من مشقة السفر. أعرفُ أنَّك انتظرت موافقتنا قبل أن يقودك الدليل إلينا. ولعلَّك خشيت أن نرفض استقبالك.. لا يا بنيَّ، ولكنَّا نحتاج لبعض الوقت، لتأمين المعابر والدروب. فهؤلاء المجرمون لا يرحمون حتى بني جلدتهم، ولا يتورعون عن إيذاء كلِّ من يحاول معاملتنا كبشر. لقد شهدتُ قتل أحدهم بأم عيني، لأنَّه قال لهم إنِّي أصغر من احتمال ما أمروني بحمله. وحين اشتد الخلاف بينهم أرداه قائدهم قتيلاً.. تصاعد اللغط ونشب العراك. كنت حينها منتظراً، أحمل إبريقاً كي أصب لهم الماء ليغسلوا أيديهم بعد العشاء، فقفـزتُ إلى صهوة حصانٍ تحت ستار الظلام))..

صَمَتَ، فقدموا لي حليباً دافئاً في قرعة. شربت قليلاً فأشار إليَّ العجوز وتمهَّـل حتى أكمل شرابي. لبرهةٍ انصرف ذهني إلى نيران الحطب، إلى خروفٍ ذُبِحَ وسُلِخَ.. وقبل أن ينداح خيالي بعيداً، أعادني صوت العجوز:

((لقد ساد اعتقادٌ لزمنٍ طويل، بأنَّ هؤلاء المجرمين، يملكون أنواعاً من السِّحر والكواديك، فما استطاع أحدٌ أن ينجو من قبضتهم سالماً. شابٌّ بتروا ساقيه، وامرأةٌ شابةٌ قاومتْ إغراءهم فامتهنوا أنوثتها.. أحرقوا ثدييها بقضيبين حاميين. كان وصولي سالماً إلى أهلي، ورواية ما حدث لي، مناسبة لنشوب الخلاف التقليدي بين الكبار الذين يملكون القرار النهائي، والشباب الذين يؤكدون إنِّ الدفاع والهروب لن يجلبا سوى مزيدٍ من الهزائم. بيد أنَّ عدَّة محاولاتٍ ناجحةٍ لقتل الغزاة، زادتهم عدداً وتسليحاً. في مراتٍ قليلة، خرج الجميع إلى معاركٍ ضارية، دُحِرَ فيها الأعداء، وأُقِيمتْ الولائم، والأعراس. لكنَّهم عادوا كلَّ مرةٍ أكثر عدداً وقسوة، يخطفون الرجال فرادى، النساء والصبيان))..

خيَّم السكون لحظات، تتبعتُ خلالها لهيباً هيناً يتلوى فوق الجمر، ثمَّ عادت الأبواق ترنُّ في خاطري، عميقةً، حزينة.. هبَّت نسماتٌ ندية وصوت العجوز يوشوش أذنِّي:

((لعلَّك تساءلت، لِمَ آثرنا الهروب إلى المغارات بدل المصاولة في الخارج؟! حسناً، إنَّها وصية الحكيم القديمة، منقوشةٌ على جدران مغارةٍ في جبلٍ على النيل.. يوماً ما اندحر مجدنا، تدحرجنا من الريادة إلى قاع الذلِّ، والمهانة. هكذا تنبأ الحكيم حين قال: إنَّ دورتنا انتهت، وسنتقهقر إلى القيعان، والظلام. لكن دورتنا ستعود من جديد، بعد شقاءٍ طويل.. ومن يومها بدأت المهادنة، والمراوغة، والهروب، والقتال عند الضرورة))..

صمت العجوز، أرسل بصره إلى الجبل الغارق في الظلام، انساب صوته هادئاً، متسقاً مع سكون الليل:

((في الجبال النائية سارت حياتنا بعيداً عن النور والعراك. كان الهم الأكبر وما زال هو النسل، المحافظة عليه وتبسيط القوانين حتى نزداد عدداً وقوة. إنَّ كموننا في الجبال، والمغارات، أعطانا فرصة الانتصار الأخير. فسيأتي يوم، نجوب فيه كل الربوع، أكثر عدداً، وأوفر صحةً، وأقدر على صناعة الحياة الجميلة.. هكذا فعل أسلافنا في زمانٍ غابر))..

وبينما رائحة الشواء عابقةٌ حولنا، تنحنح العجوز، أشار إلى قرعةٍ كبيرةٍ على يميني وقال: ((إنَّه عسل النحل، خير هديةٍ نقدِّمها للضيف. احملها إلى أهلك وحدِّثهم عنَّا خيراً)).. قبل الوداع أشار إلى صدره ثم أضاف: ((نقاء القلب.. نقاء القلب))..

دخل الجميع المغارة وتركوني مع الدليل. ارتخت عضلاتي للنوم بعد ليلةٍ مثيرة. كان دليلي جواري على عنقريب قصير القوائم. همس مراراً فأجبته كمن أفاق من حلم، لكنَّه لم يمهلني وبدأ يروي حكاية جوهرةٍ بحجم بيضة الدجاجة، من الوهج الأبيض الباهر. عَجِزَ كل مَن حاول سرقتها من الأفعى، ولم يَنْجُ أحدٌ حاول الوصول إليها. ظلَّت الأفعى مرصاداً للهلاك.. حتى أسرع فتيان القبيلة، الذي تحدى رفاقه، ووعد حبيبته بالظفر بها؛ وإهدائها إياها، واستطاع فعلاً أن يضعها بين كفيه فتحولتا إلى كتلةٍ من الوهج الأبيض، وسرعان ما أدخلها في سعنٍ من جلد الماعز حمله لهذه المهمة، إلا أنَّ الوهج غمر السعن لكنَّه لم يبالِ، وضع السعن على كتفه وركض كالريح. قفزت الأفعى عالياً مع حركة الجوهرة الأولى بين كفَّي الفتى، ثم هبطت في مكان المفقودة. دارت في مسارٍ لولبي، الذيل إلى أعلى. وفي مجرى الدوران المحموم، عاد الذيل إلى أسفل وارتفع الرأس عمودياً، والفتى يركض، ويركض.. خياله يخاطب القبيلة بانتصاره الأسطوري الكاسح، والوهج الأبيض يغمر ظهره المعطون في العرق. وحين ظنَّ أنَّه نجا؛ قفزت الأفعى للمرة الثانية واستقرت على عنقه..

صمت الدليل يمتص عمق الليل، وسكونه، ونسماته الندية. كانت النجومُ لامعةً في ظلامٍ حالك. مرةً أخرى تسلَّل النعاس إلى جفنيَّ فهمس الدليل:

الأعرج استطاع الفوز بها. كانت زوجته جميلةً، سخية اليد. زرعت في صدره أمل الانتصار بينما سخرية أترابه أيام الطفولة لا تفتأ تعكِّر حياته الهادئة. ورغم قناعته، وتوفيقه في العمل، والزواج من فتاة طيبة، إلا أنَّه اشتاق دوماً لبطولةٍ ما، تمحو مرارات الماضي، وتحوِّل عرجه إلى مأثرة يتحدث بها الناس، جيلاً بعد جيل.

همست الزوجة الوفية: ((الجوهرة هي الوحيدة القادرة على منحك ما تريد)).. وبعد زياراتٍ متعددة إلى عجائز المغارة، ووعودٍ صادقةٍ بالهدايا، استطاعت أن تجمع معلوماتٍ مكَّنتها من تدبير خطتها: أحضرت ثمرة دوم، وطيناً أسود لزجاً، وخيطاً متيناً، وسعناً من جلد الماعز. غطَّـت الدومة بالطين حتى تكوَّنت طبقةٌ سميكةٌ، ملساء. ربطت حولها الخيط، شدَّت طرفيه حتى انشطرت كرة الطين المجوَّفة إلى نصفين. أخرجت الدومة ثم أعادت الكُرة المجوَّفة إلى وضعها السابق. وضعتها بعنايةٍ داخل السعن بينما الزوج يتابع العملية صامتاً.

بدأ الأعرج مراقبة الأفعى حين تضع الجوهرة، ثم تتجول تحت الضياء الباهر؛ بحثاً عن غذاء. ظلَّ مكان الجوهرة يتبدل مراراً. الأعرج يترصَّد والأفعى تبدِّل المكان. الأيام تمرُّ والآمال تخبو، تفتر العزيمة ويتسلل القنوط إلي صدرٍ متأججٍ بأشواق الانتصار. وذات مساء عاد مهموماً، كاد اليأس يبدّد آماله. طيَّبت الزوجة خاطره وطلبت منه أن يرتاح قليلاً. في اليوم السابع قالت له إنَّ الأفعى تبدل مكان الجوهرة لكنَّها تعود إلى أماكنها القديمة مرةً أخرى. واستمرّت المحاولات، يصعد الأعرج إلى الجبل بعد غروب الشمس، يضع كرة الطين المجوَّفة والسعن، ثم يعود إلى السفح مترقباً، فقد لا تأتي الأفعى في ذلك اليوم، أو تضع الجوهرة في مكانٍ آخر. تكررت المحاولات الفاشلة واليأس يترصَّد الخطوات. الزوجة ما انقطع خيط رجائها.. كلَّ يومٍ تكوِّر بأناملها كرةً جديدة، وتقطعها بالخيط إلى نصفين. عملت بهمةٍ عاليةٍ وبلا كللٍ حتى أعلن الزوج أنَّه لا يصلح لهذه المهمة. ورغم توسلات الزوجة، ووعودها، إلا أنَّه رفض تماماً مواصلة المهمة. وبعد أيامٍ من الجفاء العابر، وافقت الزوجة على قراره بشرط أن يحاول وبصدقٍ، لمرةٍ أخيرة. قَبِلَ الزوج دون تردّد، وعند الغروب صعد الجبل. وضع كرة الطين والسعن في أحد الأماكن القديمة، ثم عاد إلى مكمنه خفيفاً، متقافزاً بين الصخور، مدندناً وبصدره الخوف من أهل القبيلة، إذ لو علموا بمحاولاته الفاشلة، لصار بينهم أضحوكةً بقية حياته. تابع جحافل الليل تتلبّد في الآفاق.. كانت شدة لمعان النجوم تبشِّر بظلامٍ دامس. هبَّت نسماتٌ شحيحةٌ، أملٌ عابرٌ رفَّ بوجدانه. واصل المراقبة هادئاً وأمله يتصاعد في الخلاص من مهمةٍ كادت تصير كابوساً. خيِّل إليه أنَّه لمح وهجاً ما.. مرةً أخرى طاف الوهج أمام عينيه، تطلّع لأعلى، كان الوهج الباهر يغمر السعن. فرك عينيه، قرأ بعض الأدعية. الجوهرة وكرة الطين في مكانٍ واحد. قفز رشيقاً، الخطى تعرف الدروب، إنَّها الجوهرة.. انحنى مرتعد الخاطر والأعضاء. فتح كرة الطين ثم التقط الجوهرة؛ وضعها في نصفٍ وأغلقه بالثاني. أدخل كرة الجوهرة في السعن ثم وضعه على كتفه وتسلل بهدوء. طارت الأفعى إلى مكان الجوهرة المفقودة وهي تدور كلولبٍ مقلوب. بدأ الذيل عالياً ثم ارتفع الرأس حين انحدر الذيل لأسفل. دارت الأفعى حول نفسها مراراً دون أن تستطيع تحديد الهدف لقفزتها الثانية. ظلَّتْ تدور بسرعةٍ متزايدة، وتوترٍ حارق، حتى انهارت كومةً من الفتات، فوق أثر الجوهرة المفقودة.

لَمْ تنتهِ مهمة الأعرج بعد الانتصار الباهر، السريع. شاهدت الزوجة الجوهرة عند منتصف تلك الليلة، بهرها الوهج الأبيض.. أغلقت كرة الطين وتعهدت بعمل كرةٍ ليِّنة كلَّ يومٍ، حتى لا يتسلل الوهج من بين مسام الطين اليابس. وتعاهدا على كتمان السر.

سلك الأعرج الدروب الآمنة حتى وصل إلى قبيلةٍ من رعاة البقر، ترتبط مع قبيلته بعلاقات مصاهرة، وعهودٍ قديمة. بعد جهدٍ وصبرٍ انفرد بتاجرٍ كبير، وحين نطق بالجوهرة تبدل الحال.. استجوبوه، حاوروه وراوغوه. أغروه وهددوه حتى تأكدوا من صدق روايته. لم يحدِّثهم عن كيفية اصطيادها كما أوصته الزوجة، لكنَّه ظلَّ يؤكد لهم مراراً بأنَّه وزوجته يمتلكان الجوهرة. أحسنوا ضيافته، بدَّلوا مكان إقامته ونوع طعامه حتى اجتمع مع الكبار..

رجلٌ أزرق العينين جلس صامتاً يدخن غليونه. باشبزق أعاد الاستجواب والشكوك قائلاً: في بحثي عنها أكَّد الجميع وجودها واستحالة الحصول عليها، لأنَّ من يمسُّها لا محالة هالكٌ، فالأفعى لا تخطئ. لم يفصح الأعرج عن كيفية الحصول عليها لكنَّه أكَّد وجودها عند زوجته. التاجر قال: طوال حياتي أحلم بالحصول عليها، ولأول مرةٍ أعثر على خيطٍ ربَّما يقودنا إليها، لن نخسر كثيراً حتى نتأكد من صدق روايته.

اتفقوا على مائة رأس من البقر واستعدوا للسفر. حملوا المؤن على ظهور الثيران وامتطوا صهوات الخيول يتبعهم ثلاثة رعاة يقودون قطيع الأبقار. بعد ثلاثة أيام، وعلى بعد مسيرة ليلة إلى المغارة، أوقفهم الأعرج. نصبوا خيمتهم، قاد الرعاة الأبقار لتشرب من مسايل الجبل، بينما واصل الأعرج رحلته إلى المغارة. عند الصباح استقبلته الزوجة بلهفةٍ.. وبعدما استمعتْ إليه قالت:

- أحسستُ عميقاً بقدومك لكنَّ قلبي يحدِّثني.

- وماذا يقول؟

- لست أدري.

- هل الصفقة ضعيفةٌ؟

- لا أقصد هذا.

- ألا تريدين بيع الجوهرة؟

- بلى، ولكنِّي أخاف الخديعة.

- وما العمل؟

- عليهم أن يسلمونا الأبقار أولاً.

- هذا ما سيحدث

- أقصد أن تصل الأبقار إلى المغارة أولاً.

- من يصدقني حينها! لقد جاءوا بأنفسهم وأبقارهم ورعاتهم، وتوقفوا حيث أمرتهم حتى لا يقتربوا من ديارنا.

وافقت الزوجة وبصدرها الوساوس. مع حلول الظلام حمل الأعرج وزوجته السعن وبداخله الجوهرة يغلفها طينٌ لين، وتسللا بين الدروب. قريباً من مكان اللقاء اختبأ الزوجان خلف صخرة.. عند شروق الشمس ترك الأعرج زوجته كي تراقب الموقف من بعيد وأسرع الخطى ليتم الصفقة وحده. كانوا بانتظاره كما وعدهم، أخبرهم عن ضرورة تغليف الجوهرة بالطين كلَّ صباحٍ حتى لا يتسلل ضياؤها، وينكشف أمرها. وتمت الصفقة.. ودعهم مبتسماً متمنِّياً لهم التوفيق.

استمتع الأعرج بقيادة أبقاره حتى مكان زوجته. تعانقا طويلاً حتى طفرت الدموع، والنشيج؛ اعترتهما نشوةٌ طاغيةٌ.. ثم لحق به الرجال والرعاة. صوبوا بندقيةً إلى دماغه قائلين: ((إنَّ حياتك، وحريتك، ثمنٌ للجوهرة)).. ثم قادوا معهم الزوجة والأبقار..

نشب بوجدانه غبنٌ ماحق، ما لبث أن تسلل إلى حلقه، فتبعهم من بعيد. مشى وراءهم خطواتٍ، ومنحنيات. صعد ونزل، وكأنَّما نتيجةً لعجزٍ مفاجئ، توقف في خضم الحيرة، ثم انقلب إلى أهله حسيراً..

بعد حين تواترت الأنباء إلى القبائل. تبادلوا تفاصيل الحكاية بين الشفقة، والحسرة، والشماتة. قالت عجوزٌ: ((إنَّ روح الأفعى ستطارد من يحمل الجوهرة، تطلب الانتقام، وستدركه)).. وقيل بعد حين إنَّ التاجر ضربته الحمى حتى خرج البخار من رأسه، ومات تحت مطرقة الحمى والهذيان. وتواتر أنَّ رعاة البقر قتلوا الباشبزق لأنَّه أغوى إحدى فتياتهم. وقيل إنَّ صاحب العيون الزرقاء استطاع الوصول إلى سواكن، باع زوجة الأعرج وأبحر بالغنيمة. في عرض البحر يبس الطين فتسلل الضياء الباهر. تجمَّع الركاب والطاقم البحري.. وسط الدهشة، والانبهار، غرق المركب وجميع ركابه، وغاصتْ الجوهرة إلى أعماق البحر.


■ تدب الصيرورة في القيعان السحيقة، تمور الأعماق المجهولة بالإيقاع، ويحمل الموج الأملاح البلورية، والأصداف، إلى رمال السواحل. المراكب تمخر العباب، والميناء المزدهر يربط قلب القارة البكر بالحجاز والبحر الوسيط، بحضرموت والمحيط الهندي. توافد إليه التجار من الشام ومالطة، أتراك وإغريق. يقصده الحجيج من كانو وتمبكتو، يعبرون مفازة الشوق، يلفحهم صهد الشقاء، ثم تحملهم المراكب تلبيةً لنداءٍ انبعث من شعاب مكة، إلى الناس أجمعين..

في جزيرةٍ صغيرةٍ شُيّدتْ قصور الحاكم والأثرياء، وكبار قادة العسكر والإدارة. بعض البنايات يرتفع إلى ثلاثة طوابق، وتطلُّ الشرفات الخشبية على البحر. الأزقة بين الجدران الحجرية العالية، وغبائن أرتال المسحوقين كامنةٌ تحت الحيطان، ميقات دمارٍ قادم. المراكب تفرد أشرعتها للريح، وموجات اصطياد البشر تعربد في الأدغال والجبال. القوافل تجلب الذرة، والسمسم، وسن الفيل، وريش النعام، وتعود بالملح، والثياب والعطور.

زوجة الأعرج اشتراها تاجرٌ عجوزٌ، واهن العظم.. قال لزملائه الشوام، واليهود، والأرمن: ((إنَّها هدية العمر ساقتها إليَّ الأقدار)).. ولما قضى وطره منها نسيها. عاشت أيامها وسط زميلاتها بين مطرقة الأسى، وسندان الذكريات. أنجبت طفلة، فعادت إلى روحها الحيوية، وإلى جسدها النضارة. عملتْ بنشاطٍ وهي تغني شوقاً، وحنيناً، للزوج، لأهل المغارة، للأبقار ورقصات الحصاد..

نشأتْ الطفلة ذكية العينين. شبَّت صبيةً فارعة، بشرتها جدل الأبنوس والكاكاو. تراوغ أهل الدار وتتسلل إلى البحر. تراقب المياه الزرقاء، والأمواج، الأشرعة والبحارة. وكلما حذروها، أو عاقبوها، أو أوصدوا دونها الأبواب، ازداد شغفها بالبحر. تسرج خيالها مع الموج إلى مدارات الدهشة، وتحلم بالإبحار إلى عوالم رحيبة..

على الساحل تردّدت خطواتها الهائمة تنشد خلاصاً ما، يحدّثها قلبها بأنَّ ثمَّة احتمالاً لنجاة، ولمكانٍ آخر، أقل تعاسة.. وذات مساء، وخطواتها وئيدةٌ على الساحل تحت القمر، سمعت ترتيلاً شجياً:

يا زهرةً

فاجأها الضبابُ في الدجى

فأينعت

قُبيل أن

تطلّ شمس ذلك اللقاح

يا زهرةً

غازلها الندى

فأثمرت سماح

تردّدت حولها أصداء النشيد مراراً، قبل النوم وفي الأحلام. وبينما هي على الساحل، كان الغيم يظللُّ التلال. تستعر بصدرها الأشواق، ويغازل خيالها موج الارتحال. وحينما داهمها القلق والتوتر، نهضت.. جسدها فارعٌ كنخلة. سارت فوق التراب اللين على حافة التوقُّع، بين الحذر وأطيافٌ من الخوف المبهم. انتشر العطر وأصداء النشيد الصادح؛ ثم هبط تحت قدميها جنّيٌّ شاب. اختلج جسدها كأنَّها تدوزن إيقاع النجاة. همَّت بالفرار لولا أن رأت صفاء عينيه. قال لها: ((جئتكِ أطلب سماحاً لأنَّني اقتحمت خلوتك، ولأهبك فضةً وماء، رمز الخصوبة والنماء)).. وقال لها: ((أهلي طيبون، يحترمون الضيف ويكرمونه)).. أسبلت جفنيها ودندنت خواطرها بالأسئلة. قدَّم لها زهرة لوتس ندية قائلاً: ((جلبتها من ضفاف النيل، رمزاً للحب والوفاء. هيا لنعش معاً، أحراراً، طلقاء))..

عادت إلى أمها في ذلك المساء صريعة الفكر والحروف. تعلّلت بالمرض واندست تحت الأغطية يتواتر بخيالها طيف الجنِّيُّ الساحر. انقطعت عن الساحل لأيام، قابعةً في فراشها على صهوة القلق والشرود. لكنَّ أشواقاً تمور بصدرها دفعت أقدامها إلى البحر، مساءً.. وتكررت لحظات الوجد والشجن.

وبينما الأم تعمل بلا كللٍ استعداداً لزواج أصغر أبناء التاجر، قالوا لها: ((اخترنا ابنتك لتقديمها كأجمل هديةٍ لوالد العروس)).. بعد ظهور الهلال ستقلع المراكب إلى الحجاز تحمل الهدايا وجهاز الزفاف.. وحين علمت البنت باختيارها هديةً لرجلٍ عجوز، أسرَّتْ إلى أمها بأخبارها ولقاءاتها مع الجنِّي الشاب. ذعرت الأم، وبعد لحظاتٍ من الذهول لطمت خديها، ولولتْ متسائلةً عن صدق الرواية! رنَّ صوتها حزيناً: ((هل يمكنني أن أراه؟!)).. مضت أيام وهي لا تريد التصديق. وفي ليلةٍ ماطرة، تواصل حوارٌ شائك. ولما ارتفع أذان الفجر، توسلت البنت إلى أمها، كي تسمح لها بالرَّحيل، فهمس الصوت الحنون:

- وحدكِ، ترحلين إلى المجهول!

- إنَّه معي. سأعيش معه حرةً، كريمة.

- وَمَن هو؟

- إنَّه طيبٌ وأهله يكرمون الضيف.

- ولن أراك ثانية؟!

- مَن يدري

مضت لحظاتٌ عصية، ثم قالت البنت:

- وإذا حملتني المراكب إلى شيخ الصحراء، فهل سنلتقي مرةً ثانية؟!

- لستُ أدري..

ظلت الأم وسط دوامة الحيرة والأرق، تقلـِّبُ خياراتها بحثاً عن خلاص. تردّد سراًّ، همهمةً وجهراً: ((العبوديةُ أم المجهول)).. وعندما ظهر الهلال في سماء المدينة، تسلَّلت الأم وابنتها من الدار خلسةً. وسط الأزقة سارت الخطوات المرتابة على أسنة الفزع، والصمت. عند الساحل توقفتا.. رفَّ الوجدان ثم تعانقتا. انفلت نشيجٌ محمومٌ وسالت دموعٌ حارقة..

وحيدةً، واصلت البنت سيرها، يسترها الظلام، وعلاَّم الغيوب. وانتصبت شرايينها صوب السماء، توسلاً، وتضرعاً، ودموع. غازلتها نسمات الرجاء، ترنو للهجوع، على أريكةٍ من سندس الحبور، عند ظلٍّ وغدير، وكأنَّما، داعبتها نسمات السرور.

وقف الجنّي أمامها وحولهما رفرفت سبع جنّيات. قال لها: ((ستحملك الفتيات إلى عيون موسى، وسأمضي لانتظارك في قصر الأحلام)).. اختفى وتركها زائغة البصر، كسيحة الخيال، وحولها الفتيات يتمايلن مترنمات:

أنا سوداءٌ وجميلةٌ يا بنات أورشليم

كخيام قيدار.. كشقق سليمان

ها أنت جميلةٌ يا حبيبتي. عيناك حمامتان

ها أنت جميلٌ يا حبيبي وحلوٌ وسريرنا أخضر

كالسوسنة بين الشوك كذلك حبيبتي بين البنات.

كان رفيف الأجنحة ينضح عطراً. طِرْنَ بها سابحاتٍ في الهواء إلى صحراء التيه. هبطن على الرمال عند السفح، حيث ينبثق الماء من الجبل. قلن لها: ((سنغسلك من أدران الماضي، ونمضي بك إلى قصر الأحلام، ناصعة الخاطر والوجدان)).. الأنامل اللطيفة دلكت جسدها بالماء المنساب من عيون الصخر.. الترانيم توشوش صدرها. وبينما هي على قوس الرجاء، في خضم ارتعاش التوقُّع، انداحت رؤاها إلى سواحل المدينة..

قبسٌ تلظى عند الأفق، ثم تناثر على حافة العتمة. شعلةٌ خفقـت والليلُ ساجٍ، رفرف اللهيب يخضِّب الآفاق. آلاف المشاعل على السواعد. إنَّهم قادمون، فوق الموج قادمون.. تحت أستار الظلام يشتعل الضياء وشوقٌ دفاق. الأقدام ساعيةٌ فوق الرمال. انداح اللهيب المتصاعد أنصاف دوائر.. قبسٌ ينبض في الأحداق، وجوهٌ سوداء، أسنانٌ بيضاء، وعيونٌ لامعةٌ كسؤالٍ صريع. المشاعل ترتفع عالياً، الأقدام تجوب الأمواج إلى الساحل المزدحم بالعناق. قبسٌ خفاقٌ، والمدينة أطلالٌ، حجارةٌ فتات. وحول الركام تنعق الغربان، تهـوِّم القطط، الحكايات والمحن. توهَّج حولها الساحل: مراكبٌ شراعيةٌ مكدسة، العيون لامعةٌ، الخرز على الأعناق، كتلٌ من الأرواح البشرية ترسف في الشقاء..

اختلجت جوانحها تحت وطأة المشهد المهيب. وعلى شفير الانهيار تناهى إليها ترتيل الجنّيات، وأعادها العطر من التوهان. رفرفت الجنّيات ثمّ طِرْنَ بها..

أمام القصر تفرَّقن من حولها، ثم اختفين وتركنها وحيدةً أمام بابٍ عتيقٍ من الصندل. حيطان من الرخام المصقول، صمتٌ وتوقُّع. وسمعتْ صوتاً نقياًّ، شجياًّ. نبراتٌ صادحةٌ، لسانٌ عربيٌ مبين: ((قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَهُ استَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الجِنِّ فَقَالُوا إِنَّا سَمِعْنَا قُرءَاناً عَجَباً يُهَدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَلَن نُّشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً))..

انسرب ضوءٌ شفيفٌ من تحت قدميها. انفرج الباب قليلاً، مشت خطوة، صدَّتها العتمة. صوتٌ غامضٌ يدعوها للتقدُّم، نداءٌ ينبجس من بين طيات النفس المتوجِّسة. مشت خطوات.. تردَّدت حائرة الفؤاد. مشت خطوةً أخرى، ثم سكنت قليلاً تستجمع أنفاسها. انبعث العطر والموسيقى. راودتها أطياف الأمان؛ اتسقتْ إيقاعاتها وخواطرها، سمعت صوتاً خافتاً ثم اشتعل ما حولها ضياءً. تلفَّتتْ ذاهلةً وحولها المناضد والكؤوس، المقاعد والأرائك، ولا أحد.. سيمفونية الضوء تنساب مدوزنةً مع الموسيقى والعطر والدخان. أقواسُ قزح، نسقٌ باهرٌ فريد، نسقٌ بسيط. رنَّ بصدرها هاتفٌ فقالت:

- السلام عليكم.

- وعليكم السلام ورحمة الله تعالى وبركاته.

صوتٌ ناعمٌ رحَّب بها ودعاها للجلوس. قرب نافورةٍ ذهبيةٍ يترقرق ماؤها، جلستْ على أريكةٍ جوار الزعيم، وحولهما أطياف الفتيات اللائي حملنها إلى هنا. وُضِعَ أمامها اللبن والعسل. كانت الأجساد من حولها تتموَّج مع الموسيقى الحالمة، والضوء الشفيف. تطلَّعت حولها وخيالها ما انفكَّ يطارد أطياف الحبيب. قرأ الزعيم أفكارها فقال بصوتٍ ودود:

((إنَّه قريبٌ وأكثر شـوقاً لرؤيتك. سـنزفُّكِ إليه مع شـروق الشـمس. لـقد انتظرناك جميعاً، ودعونا الله كي ينجيك من مسالك الشقاء. كلمات الله لا تنفد، فافعلي خيراً بكل العزم والحيوية. كلمة الله هي عروة الخلاص))..

ظلَّ يحدِّثها كزورقٍ طليق، حيث الدلالة مفصل الرنين. تداعى بصره إليها فأدرك تفاصيل حياتها منضدةً فوق عينيها اللامعتين، وأسراب دموع البراءة ترفُّ في غور الأحداق. صَمَتَ كأنَّه أشفق عليها من كلماته. كانت الأجساد تتموَّج في نسقٍ فريد: رجالٌ في سمت الرزانة والوقار، نساءٌ على قوس الإخصاب، غلمانٌ في بهاءٍ صاعق، وصبايا يانعات. وبينما هي في انتظار فتاها، فارس الأمل الوحيد، ترقرق النشيد:


لا أحد

لا بحر

لا حضور

لا جسد

أحدٌ.. أحد

حيٌّ قيومٌ، صمد.

اعترتها نشوةٌ عابرة ثم انسربتْ إلى أغوارها لإدراك نبضٍ ما، هسهسةٍ أو حضور. حاولت التوغُّل في سراديب النفس، حيث مكمن السؤال والرجاء. وسط حيرتها نهض الزعيم للوداع قائلاً: ((هيّا شاركي الجميع، فكلهم تأنقوا وتعطروا لاستقبالك، ستساعدك أنفاسهم على الاتساق)).. وحين نظرت إليه تستجلي الموقف، ابتسم ثم قال: ((نحن أهل الموج والأسحار))..

في خضم الاحتمال؛ تتواتر بدماغها المعاني، كأنَّها غُسِلَتْ في نبع المعرفة واليقين. وعندما تسللَّ الفجر من بين ظلمات السحر، تململتْ تحت جلدها نبضات الخوف، والسؤال. شَهِدَتْ مدينة الجمال والعطور، الميناء المتحرك بالمراكب، بالدراهم وعذابات الإنسان. درة البحر المالح تخبو، يصفعها الخراب، ثم تَضْرِبُ في تيه الهمود. وكأنَّها مصلوبةٌ فوق الخطى المحايدة على صراط الأمل. تعرَّتْ من رماد الوقت، غشيتها السكينة. وسمعتْ، شهقات الرعب، يوم اقتادوا أمهاتها سبايا، ينبضُ بصدرها وقعُ حوافرِ الخيول.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى