حسن المسعود - من الكتابة الى الخط

تطورت الكتابة العربية كثيرا منذ القرن السابع ولحد اليوم، فالاساليب تعددت، والاصلاحات تتابعت، وعلى مواد مختلفة كتبت. كالرق والورق. وكذلك على جدران المعالم المعمارية والاواني والحاجيات الكثيرة المستعملة في الحياة اليومية.

كان العرب قبل الاسلام يعتمدون على التقاليد الشفوية، ويهتمون بالشعر. اذ كان الشاعر هو ذاكرة القبيلة يحفظ تاريخهم عن ظهر قلب.
وعندما اراد العرب الكتابة استعملوا في البداية حروف قليلة. وكانت كعلامات بسيطة تساعد على استذكار النص.

ماهو مصدر الحروف العربية الاولى؟
هنالك آراء متعددة لا تتفق فيما بينها حول المصدر الحقيقي لهذه الحروف، بسبب قلة الوثائق الواضحة عن بداية الكتابة العربية.
يميل اكثر المؤرخين الى الرأي الذي يقول بأن هذه الحروف مستوحاة من الحروف النبطية، والتي هي متأثرة بالثقافة والحضارة الآرامية. ومن المعروف ان الحروف الآرامية تنحدر مما يسمى بالحروف الفينيقية. وهي 22 حرف. ومن الآراء الاخرى هنالك من يرى ان الكتابة العربية آتية من الكتابة السيريانية. وأخرين يرجعون اصل الكتابة العربية الى شكل الكتابة في جنوب الجزيرة العربية. وبما ان قوافل العرب الرحل كانت في اتصال مع كل المناطق المجاورة فربما هنالك تأثيرات متعددة في بداية ولادة رسوم الحرف العربي.
وان نؤمن برأي الاصل الفينيقي فأن العرب اضافوا الى الاثنين وعشرين حرف فينيقي، ستة حروف تمثل اصوات ينطقونها ولا توجد في الالفباء الفينيقية، واسمها الروادف. فأصبحت الالفباء العربية تحوي ثمان وعشرين حرفا.
كانت القراءة أنذاك تلقائية، تشترك فيها المخيلة والمعرفة. ومعاني الكلمات لا يمكن ان تفهم الا عبر المضمون العام للنص، ويعود ذلك الى سببين. أولا ان الكتابة عند العرب كانت تتم باستعمال الحروف الصائتة فقط وبدون الحركات.
وثانيا ان بعض الحروف تتشابه برسمها. وكمثال ان حرف الباء في أول الكلمة يمكن ان يكون هو نفسه حرف التاء او الياء او النون او الثاء.

ولصعوبة القراءة للجميع تمت في بداية الاسلام ثلاث اصلاحات مهمة للكتابة العربية. الاول هو وضع نقاط دائرية حمراء أعلى واسفل الحروف الصائتة للاشارة الى الحركات.
الاصلاح الثاني هو وضع نقاط كعلامة تفريق على الحروف التي تملك نفس الرسم. وكمثال ان حرف الباء اخذ نقطة في الاسفل والنون نقطة في الاعلى، ونقطتان في الاسفل للياء ونقطتان في الاعلى للتاء. وهكذا طبق هذا النظام لكل الحروف المتشابهة في الرسم.
الاصلاح الثالث جاء بسبب الخلط بين الاصلاحين الاولين. فان بعض الخطاطين لا يستعمل اللون الاحمر للحركات بسبب الاستعجال. فدعا الاصلاح الثالث الى استبدال النقاط الحمراء للحركات بأشكال مميزة لها. كوضع حركة مدة صغيرة اعلى الحرف للدلالة على الفتح. ونفسها في الاسفل للدلالة على الكسر. ورسم واو صغيرة في أعلى الحرف ترمز للضم. ويتضمن الاصلاح الثالث ثمان حركات يمكن ان توضع بنفس المداد للكتابة.
وقد رفضت هذه الاصلاحات في البداية من بعض المحافظين. ولكنها طبقت بعد ذلك في كل البلدان الاسلامية ونستعملها لحد اليوم.
ومع كل هذا فان الكتابة العربية تبقى صعبة القراءة لأن الحركات لاتوضع دائما. ويقال عن الكتابة العربية: لابد ان نفهم لنقرأ، أي من الضروري تخيل موضوع الكتابة، بينما في اللغات الاخرى نقرأ لنفهم.
ويرى آخرون فضائل في الكتابة العربية لكونها مختزلة، اذ تكتب الكلمات بحروف اقل مما هو مستعمل في الكتابات الاخرى.
أخذت الكتابة العربية اهمية كبرى في بداية الاسلام لانها اعطت الكلام المقدس شكلا مرئيا. والقرآن هو أول كتاب كتب بالحروف العربية. وله دور مهم في تطوير الكتابة العربية نحو فن الخط.
وضعت منذ البداية قواعد للخط، واستعمل القلم كآلة للكتابة، ويقصد بالقلم انذاك القصبة المبرية. والتي تستعمل لحد اليوم من قبل الخطاطين لكثرة فوائدها التقنية والعلاقة السليمة مع التنفس.
ان تحضير القصبة لكي تصبح قلما كان في الماضي امرا مهما، فان قط منقار القصبة يختلف من اسلوب لآخر ومن خطاط لآخر. كذلك ان تحضير الحبر كان يتم باهتمام كبير، وكالقلم، كان ذلك يتم بسرية واحتياط.

في نهاية القرن السابع الميلادي اصبحت اللغة العربية لغة الدين والدولة، و انتشرت في كل البلدان الاسلامية. وأصبحت لغة الادارة.
في ذلك الزمن كان هنالك اسلوبان شائعان للكتابة، أي هنالك نوعين من الرسم لنفس الحروف. نوع مدور، ونوع مبسوط تكثر فيه الخطوط المستقيمة، سمي بالكوفي. ومن زواج هذين الاسلوبين ولدت بعد ذلك اساليب عديدة.

كانت الاسماء تعطى للحروف انذاك حسب مصدرها الآتي مع قوافل التجارة. وكمثال فتلك الآتية من مدينة الحيرة تسمى بالخط الحيري، والحروف الآتية من الحجاز تسمى بالخط الحجازي، والحروف الآتية من الكوفة بالخط الكوفي.

وما نراه اليوم من خطوط تعود الى القرن السابع الميلادي، نجدها لم تكن متناسقة وتنقصها الاناقة التي اشتهر بها الخط العربي فيما بعد. والسطور لم تكن مستقيمة. ورسم الحروف كان بسيطا، ثم أخذ الخط بالتحسن تدريجيا.

طريقة التعليم الاولى كانت تتم بأن يكتب المعلم حروفه على الرمل بأصبعه. فيقلده التلاميذ، ثم يمسحونها ويكررون كلمات اخرى. ثم استخدم اللوح للكتابة بعد ذلك. واللوح هو قطعة من الخشب بحجم الكتاب تنعم وتطلى بطبقة رقيقة جدا من الطين ذو اللون الفاتح. يكتب عليها التلميذ بالقصبة المبرية ـ القلم ـ وبالحبر، وعندما يحفظ النصوص المخطوطة يمسح ماكتبه، ويبدأ كتابة عبارة اخرى.

ورايت في بعض المدن الموريتانية الصحراوية مدارس تقليدية لازالت تستعمل اللوحة.

من اوائل الكتابات التي صعدت على الجدران، مانراه لحد اليوم داخل قبة الصخرة بالقدس في نهاية القرن السابع الميلادي. كلمات كتبت بالخط الكوفي وعملت بالفسيفساء الذهبي على ارضية من اللازورد الازرق. وكانت خطوط قبة الصخرة نقطة انطلاق الى الكثير من الخطوط التي زينت المعالم المعمارية بشكل فني ولحد الزمن الحالي.

كان الاسلوب الكوفي في البداية يكتب بحروف سميكة وسطور ضخمة. ولكن مع استعماله في المعالم المعمارية تأثر برشاقة المعمار. وتأثرت بهذه الرشاقة بعد ذلك كتابة الكتب فطولت الالفات واللامات الى الاعلى. وأخذ الخط الكوفي مظهر الاناقة. ومع الحروف العمودية والزوايا الحادة تحولت سطور الخط الكوفي الى ما يشابه رسم مدينة ببيوتها ومعالمها وقبابها ومنائرها، او مشهد صف مصلين في الجامع.

مع مرور الزمن اصبح للخط الكوفي عشرات الانواع في الكتب او على المعالم المعمارية. كالكوفي القيرواني والكوفي المظفر والكوفي المورق والكوفي المربع. وهذا الاخير يتكون من خطوط مستقيمة فقط تتقاطع في زوايا حادة. ويتميز بالبساطة والقوة. الطابوق هو قاعدة هذا الخط. واعتبر المربع كوحدة اساسية للكتابة. وقد سمح هذا الاسلوب في التبسيط والتحرر. ولم تعد الكلمات تسير على خط افقي، كما هو متعارف عليه في الكتابة العربية. انما اتجهت نحو الفضاء المطلق ولم تعد الحروف واقفة كالبشر على الارض وتخضع لقانون الجاذبية، انما تعوم في الفضاء.

اعطى هذا الاسلوب للخطاط امكانية استعمال الكلمات داخل سطر مائل. كما في السطور الحلزونية على الجسم المستدير لبعض المنائر الشرقية. ومن خلال هذا الاسلوب توصل الخطاط الى دفع الخط اليابس الى اقصى امكانياته. مقابل الخط اللين المدور والذي يستعمل دائما على نفس البنايات وبمساحات مجاورة.

الفضاء المحيط بالحروف في اسلوب الكوفي المربع اصبحت له نفس قيمة الحروف تماما. وما يسمى بجسم الحرف واللاجسم المحيط به تعادلا تماما.

وقد تطلب هذا الاسلوب من الخطاط قدرات فهم عالية للسطح التشكيلي. فان الكلمات التي لا تريد ان تدخل ضمن الفسحة المتوفرة، كان عليه ان يطول بعض حروفها، او يدمج بعض الحروف في ما بينها، يستعيض بحرف عن حرف آخر، او يقلب ويلوي بعض الحروف والكلمات.

المعالم القديمة الاولى التي تحتوي على خطوط بهذا الاسلوب تعود الى القرن الرابع عشر. نشاهد فيها ان الخطاط قد اهتم بالمظهر الفني على حساب معنى الكلمات، اذ اضاف رغباته الفنية. فتعطي هذه الخطوط امكانيات قراءات متعددة لنفس العبارة. قراءات جمالية تشكيلية. تختلف من شخص لآخر. اذ سيدرك كل انسان منظر الخطوط امامه حسب حالته الوجدانية وحسب حاجته.

اخذت الدولة الاسلامية في القرن الثامن الميلادي معرفة صناعة الورق من الصين. فانتشرت صناعته بسرعة في كل العالم الاسلامي، مما ساعد على انتشار الخطوط بشكل واسع. وتأكدت الفروق المتعددة في اساليب كتابات المدن والبلدان الاسلامية المختلفة. فاصبحت هذه المظاهر للحرف العربي اساليب تعود لثقافة واحاسيس كل مجموعة بشرية. فالخط الكوفي الذي يستعمل لكتابة القرآن لم يعد بنفس المظهر في الهند او في العراق او في مصر او في الاندلس. الحروف هي نفسها لكنها تتطور في حضارة تلتقي فيها ثقافات متعددة.

الخط اللين المدور هو الآخر ولدت منه عشرات الاشكال الجديدة بسبب التفنن الذي طرأ عليه والاستعمالات المتعددة التي اوكلت اليه. ففي العهد الاموي ابتكر الخطاط قطبة المحرر خط الطومار للرسائل الدبلوماسية على ورق بطول ذراع وبقلم عريض. ثم ابتكر جليل الطومار لكتابة النصوص حول ابواب المساجد والمحاريب.
بعد ذلك ابتكر ثلاث اساليب تنحدر من الطومار وبحسب اختلافات في المقاييس لمنقار القلم ومساحة الورق، سماها الثلث والنصف والثلثين. ففتح قطبة المحرر مجال الابداع في الخط العربي.
خطاط آخر هو خالد بن الهياج، كان خطاط الخليفة الوليد ( حكم مابين 705 و 715 ) يقال عنه انه خط القران بشكل لامثيل له حسب شهادة المؤرخين، كذلك خط كتب الشعر والتاريخ وعمل خطوط مسجد المدينة بخطوط طليت بالذهب.

في القرن التاسع كثر عدد الخطاطين وانتشرت حلقات التعليم، وكان من بين المتعلمين ابناء الوزراء والعلماء وكذلك متعلمين من الوسط الشعبي.
ومن خطاطي القرن التاسع الذين وصلت لنا اخبارهم الضحاك والخطاط اسحاق اللذين اضافا خفة واناقة لاسلوبي الثلث والثلثين، والتي استعملت بكثرة في زمانهم، كما اضيفت اساليب اخرى، ويقال ان عدد الاساليب المستعملة في ذلك الوقت تجاوز العشرة اساليب ترتبط باستعمالات معينة.

ومن بين تلاميذ اسحاق الخطاط احمد القلبي الذي كان خطاط الخليفة المأمون ( حكم مابين 813 و 833 ) والخطاط ابراهيم الشجري ( توفي عام 825 ) واللذين وضعا اشكال رهيفة جديدة لخط الثلث والثلثين، تحت اسم خفيف الثلث وخفيف الثلثين.
وابتكر الخطاط يوسف الشجري ( اخ ابراهيم الشجري ) اسلوب انيق للخط اسماه ـ الخط الرياسي ـ وكان قد اعجب الوزير الفضل بن سهل فأمر بأستعماله في الرسائل الدبلوماسية والعقود الرسمية. وابتكر الخطاط الاحول المحرر تلميذ يوسف الشجري اسلوب الخط المسلسل حيث ترتبط الحروف كلها، كما ابتكر اسلوب الغبار ذو الحروف الناعمة لكتابة رسائل الحمام الزاجل.
وهكذا استمر الابداع في عهد الخليفة المأمون فبالاضافة للخط الرياسي المخصص للخليفة. وخط الطومار لمكتبه، فكان هنالك اسلوب مختصر الطومار للوزراء واسلوب الثلثين من الخلفاء الى الامراء، اسلوب المدور الصغير لنقل الحديث والشعر، واسلوب العهود للمبايعات، واسلوب الرقاع للرسائل الصغيرة،
وخط خاص للاغراض العسكرية وهو خط الحمام الزاجل، وخط للمالية و.. الخ

وكانت هذه الفترة بداية فترة غنية للخط العربي. ويقول ابن الحبيب الحلبي:

( وأصبحت مهنة الخطاط في هذا الزمن من اشرف الوظائف والمناصب، وافلح صناعة، واربح بضاعة. )

ولم تعد الخطوط تستعمل للكتب والمعالم المعمارية فقط، انما وضعت على الملابس والاواني والموبيليا ... الخ
وهناك عبارة تنسب الى ابن المقفع: الخط للامير جمال، وللغني كمال، وللفقير مال.
سبب الاهتمام بالخط انذاك يعود الى كونه الفن المرئي الاول في المدينة الاسلامية، بغياب التمثال والصورة. اذ شدد الفقهاء:

( ولابد من خلو اماكن العبادة من صورة كل ذي روح. )

وهكذا حل الحرف بمكان الصورة على جدران المعالم المعمارية كالمسجد والقصر والمكتبة والمدرسة. بينما سمح للتصوير في الكتب العلمية والادبية، ولكن باسلوب صغير خاص وذلك بالغاء المشهد الواقعي، والغاء التجسيم والعمق، واضافة طابع زخرفي يلعب الخيال فيه دورا كبيرا.
اخذ الخطاط قاموس الفنان المصور. فيتكلمون عن صورة الحرف وجسم الحرف، ويخفون عبر الكلمات صورا، ويزيدون معاني جمالية اضافية للنص كما في التكوينات الخطية التي تسمى ـ المرآة ـ حيث التقابل في الخطوط يعكس المفهوم الصوفي للوحدة الالهية.
لم يعد الخط على جدران المعالم المعمارية كتابات للقراءة انما علامات للتأمل والحدس والتفكير.
فيبني الخطاط حروفه على هياكل هندسية ونغمية. ويفضل الجوانب الجمالية والمشاعر الوجدانية على حساب النص الذي لم يعد يقرأ في اكثر الاحيان.

عمل الخلفاء على تقريب الخطاطين، فكان لكل خليفة خطاط يثق به ويضعه على رأس دواوينه. وهكذا يبرز اسم الوزير الخطاط ابن مقلة ( 886 ـ 940 ) الذي وجد ان الخط الكوفي اصبح ثقيلا للكتب في مجتمع يتجه اكثر فأكثر نحو الترف. لذلك يقال انه ابتكر خطا لينا اسماه ـ خط النسخ ـ وجعل له نسب كاملة للقياسات لكي يأخذ نفس اهمية الخط الكوفي، ولكي يستحق ان يكتب به القران. ووضع قواعد للسطور واعتبرها نسب فاضلة:
( ان زاد عنها قبح، وان قصر دونها سمج ) كما قال.

وان جدد الحرف العربي قبل ابن مقلة الكثير من الخطاطين، فانه اعطاه مظهرا اكثر نبلا من السابق، وجعل القراءة اكثر سهولة. وذلك حسب شهادة المؤرخين.

قصدت دار الكتاب في القاهرة عام 1980 لرؤية كراسة خط تركها لنا تحت عنوان ـ رسالة في علم الخط والقلم ـ ولكني وجدت انها لم تكن قد كتبت بيده وانما من قبل الخطاط محمد الشافعي عام 1663. ولم نرى لحد اليوم خطوط له.

خطاطي دول المغرب، وهي الدول الاسلامية غرب مصر وحتى الاندلس سابقا. حيث يعم الزهد والتقشف بعكس ترف دول المشرق انذاك، رفضوا تغيير الخط الكوفي للكتب، ولم يعتبروا اصلاح ابن مقلة. ولم تطبق عندهم القواعد الهندسية بدراسة مقياس كل حرف. لذلك ان رفض هذه القواعد اعطى فروق محلية واضحة لكل منطقة وحتى لكل خطاط. وبالتالي ولدت اساليب خاصة متعددة تشكل بكاملها اثراء لحركة الخط العربي ومسيرته.

هنالك اسباب عديدة لتطور الخط العربي منها تعدد وتغير اشكال الحروف، مما يجبر الخطاط عند كتابة كل كلمة ان يعيد البحث من جديد لكي يعادل الحروف والفضاء المحيط بها. فهنالك حروف صاعدة واخرى تستلقي على خط افقي، ونوع ثالث يهبط للاسفل. حروف طويلة واخرى قصيرة، كما ان كل حرف يأخذ شكلا مختلفا حسب موقعه ان كان في بداية الكلمة أو وسطها أو نهايتها، وشكل رابع عندما يكون معزولا. اكثر الحروف تتصل في ما بينها واخرى تبقى منفصلة.
كل هذا جعل الخطاط يدرس في كل خط جديد كيفية السيطرة على سواد الحروف وبياض الفضاء حولها. وان كان الفضاء غير متعادلا يضيف الخطاط الحركات واحيانا اشكال لامعنى لها تشبه الحروف الصغيرة، بهدف جمالي بحت.

ومن الاسباب التي طورت شكل الحرف العربي ايضا، الا وهو خيال الخطاط، فالمدات الطويلة مثلا في ما بين الحروف، تشابه تطويل الصوت في التجويد القرآني. علما ان المدارس الاسلامية القديمة تعلم الاطفال تجويد القرآن قبل تعلم الكتابة. المدات الصوتية المتماوجة تكثر ايضا في الغناء العربي والشرقي عموما. فان المغني يمكنه ان يغني ـ ياليل ياعين ـ عشرين مرة ولكن في كل مرة تختلف عن الاخرى، فتكون هذين الكلمتين كوعاء يحتوي رغبات الفنان الابداعية في لحظة الغناء نفسها.
وفي الخط يقابل تطويل الصوت في الغناء، المدات الطويلة ما بين الحروف، فهل هناك رغبة لا واعية لرسم هذه المدات الصوتية كمناطق راحة للعين، وكمجال يطلق فيه الخطاط العنان لمخيلته؟
رغم وجود قواعد مفروضة للخط لاتسمح بتحوير كثير لاشكال الحروف، الا ان الخطاط القدير يتجاوزها دائما. وكل قرن في تاريخ الخط العربي له ابتكاراته.

يدرس الخطاط ويتعلم لسنوات عديدة تركة الاجيال التي سبقته، الا انه يشعر لحظة الخط ببعض الاحاسيس الوجدانية العميقة، الواعية او اللاواعية، والتي تفرض نفسها عليه، فتنكشف مخيلته ويفرض الفن اشكال تتخطى القواعد السابقة. وهكذا يتطور الخط في كل مرة.

وبهذا الصدد يلخص هذه الحالة الخطاط ابراهيم الصولي بشكل رائع في عبارته:

( وربما طغى القلم فوصل منفصلا وفصل متصلا)

ينسب الى الخطاط الايراني مير علي ( القرن الرابع عشر) وضع حروف خط التعليق بعد رؤية حلم رأى فيه الحروف على شكل بط طائر، فأوحى له هذا الحلم عبر الاجنحة حروف ممتدة، وعبر شكل البطن حروف مدورة. وفي هذا الاسلوب الانيق نرى بعض الحروف السميكة تتحول فجأة لحروف رفيعة رهيفة، والخطوط العمودية قصيرة ونحيفة. المدات ممتلئة والاستدارات لينة.
وعلى الرغم من الثراء في الخط عند الاسبقين، تمكن الخطاطين الجدد دائما وفي كل قرن من اضافة ابتكارات خاصة بهم.

بعد الخطاط ابن مقلة يذكر لنا التاريخ اسم خطاط مشهور ايضا هو ابن البواب، ( توفي في بغداد عام 1022 ) ويقال انه اتقن اساليب كثيرة وأكمل هندسة الحروف التي وضعها ابن مقلة. ورأيت له كتاب بالحجم الكبير فتح على صفحة تبدأ بخط بسملة انيقة كبيرة باللون الاسود المحاط بخط رفيع باللون الذهبي. بمتحف طوب كبي في اسطنبول. كما توجد كتب وصفحات بخطه في متاحف عالمية، كمكتبة جستر بتي في دبلان بايرلندا.
وقد شهد القرن الثاني عشر الكثير من الخطاطين والخطاطات، ومنهم الخطاطة فاطمة البغدادية، التي كتبت عام 1087 عقد الصلح بين خليفة بغداد القائم بالله وبين الملك البيزنطي. والخطاطة شهدة بنت الابري (1089 ـ 1187) والتي علمت الخط الى الكثير من التلاميذ.

اسم آخر وصل الينا كمبدع في الخط العربي من القرن الثالث عشر وهو ياقوت المستعصمي الذي رأى تداخل وتشابه وتنوع الكثير من الاساليب في الخط العربي. فدعا الى تقديم ستة خطوط متباينة الاشكال ومتكاملة في ما بينها. وهي الثلث، والنسخ، والتواقيع، والريحان، والمحقق، والرقاع. على ان تعتبر الاساس في الكتابة العربية، وكل الاساليب الاخرى تترك لحرية الخطاط. وطبقت طريقته منذ الف عام في دول المشرق وتواصلت عبر اجيال الخطاطين. ولكن الاساليب الستة لم تعد هي نفسه في عصرنا الحالي. ومن الاسماء الشائعة اليوم الثلث، والنسخ، والفارسي، والديواني، والرقعة، والكوفي.
وقد ادخل ياقوت المستعصمي اصلاحات تقنية على الخطوط وحرّف قط منقار القصبة ـ القلم ـ مما اعطى وضوحا وتمييزا للجوانب النحيفة داخل الحرف. فأخذت الحروف عنده رشاقة واناقة. واصبحت قاعدته اساسا لانطلاق المدرسة العثمانية في ما بعد. ويقال عنه انه لايتاخر عن التمرن على خط الحروف يوما واحدا، وعندما حوصرت بغداد من قبل المغول عام 1258 وكانت قذائف اللهب تحرق المدينة التجأ ياقوت الى اعلى احدى المنائر مع اقلامه والحبر والورق لمواصلة التمرين.

ومن العصر المملوكي ( 1250 ـ 1517 ) وصلتنا خطوط كثيرة في الكتب والمعالم المعمارية والاواني وحاجيات كثيرة اخرى. وقد رأيت بعض الكتب بارتفاع يقارب المتر في دار الكتاب بالقاهرة. خطت وزينت بشكل رائع.
كما نرى في بعض معالم القاهرة خطوط محفورة على الصخر من العصر المملوكي لازالت تقاوم عواصف القاهرة الرملية، وتعطينا منظرا موسيقيا متناغما بتكرار متقارب لحروف الالف واللام.
كما ان تواقيع السلاطين للعصر المملوكي تمتاز بدراسة هندسية ذكية واخراج فريد. وتوجد اليوم في المتاحف العالمية اواني وحاجيات معدنية من النحاس مطعمة بالفضة والذهب، وفيها خطوط مبتكرة لكل مساحة متوفرة، تنم عن قدرات فنية عالية.
كان اهتمام الخطاط في ذلك الوقت واحدا في خط واجهة بناية كبيرة او على استدارات اناء صغير. وعلى الرغم من ادراك الخطاط لضرورة الحفاظ على القواعد القديمة، ولكنه استمر في الابداع واضافة اشكال جديدة في الخط العربي. فبعد ان يهضم الخطاط تركة الاقدمين يترك العنان لمخيلته ويدع يده تطيع رؤاه الفنية.

حوالي ثلاثين لغة كتبت بالحرف العربي، وان ابدع الخطاط الايراني التعليق والنستعليق والشكستة. فان الخطاط العثماني طور الخط بشكل لامثيل له.
ونرى ذلك في التكوينات الخطية. اذ يلجأ الخطاط احيانا الى تعقيد التكوين واحيانا يبسط الشكل. كان يعكس احاسيسه الوجداية ازاء الكون وكل ثنائياته، كالقبض والبسط، والجمع والتفريق، والشهود والغياب. ومن اللوحات المبسطة خط جداري في الجامع الكبير بمدينة بورصة في تركيا، حيث لا نرى الا حرف الواو داخل ديكور يمثل ستائر مسرحية، ويبقى كعلامة خالصة دون أي نص.
وهكذا تحول الخط الى فن مجرد، يعبر الخطاط من خلاله عن السعادة أوالشقاء الانساني. والهدف امام خط كهذا انما هو تحرير احاسيس المشاهد نفسه اذ سيعطي ترجماته الذاتية لما يرى امامه من تشكيلات خطية.

طبقت الدولة العثمانية تقاليد للخط تتمثل باحترام الخطاط الكبير. اذ لايحق للخطاط الناشيء ان يعلم الاخرين، ولا يستطع القيام بعمل خطوط على المعالم المعمارية. قبل ان يحصل على اجازة من خطاط كبير. وهي نوع من الشهادة يوقع فيها الاستاذ على احد خطوط تلميذة، يقول فيها انه يجيز التلميذ بالخط، انذاك يستطيع التلميذ ان يوقع تحت خطوطه وان يعطي دروس بالخط وان يحق له تنفيذ طلبات خطوط رسمية. فيصبح التلميذ معترفا به اجتماعيا. ولكن هذا النظام انهار مع انهيار الدولة العثمانية. ولم يعد المجتمع ان ياخذ هذه الامور بالاعتبار.

ابدع الخطاط العثماني خطوط جديدة وطور الخطوط القديمة. وعندما اعاد السلطان محمد الثاني ( حكم من عام 1451 الى عام 1481 ) بناء معالم اسطنبول، فتحولت المدينة الى ورش مشاغل معمارية، شارك الخطاطين فيها بشكل واسع.
وقد برز عند العثمانيين خطاطين كبار كالشيخ حمد الله الاماسي ( 1436 ـ 1520 ) الذي طوع وطور اساليب الخطاط ياقوت المستعصمي فأعطاها جمال واناقة وأصبحت طريقته سائدة لمدة قرنين من الزمن. ومن الخطاطين الكبار احمد القره حصاري ( 1469 ـ 1556 ) والذي كان اسلوبه الشخصي يمتازباعادة رسم و بناء الحرف بشكل يوحي بالقوة والفخامة. وكان تحت حماية وتشجيع السلطان سليمان القانوني.

ومن بين الكثير من الخطاطين الكبار يبرز اسم الخطاط الحافظ عثمان ( 1642 ـ 1698 ) الذي اضاف الى خط النسخ رهافة ونقاء. وعلى ذكر الحافظ عثمان يقال ان السلطان مصطفى الثاني كان ينظر اليه بتعجب وهو يخط، فتسائل: هل سيأتي يوما حافظ عثمان آخر، فأجابه حافظ عثمان: سيكون هنالك حافظ عثمان آخر طالما سياتي سلطان مثلك يحمل المحبرة للخطاط.
خطاط آخر ترك بصماته على الفترة العثمانية، وهو مصطفى راقم ( 1757 ـ 1826 ) وقد جدد التكوين في الخط العربي بحروف وكلمات ترتفع في توازن نغمي وتعادل هندسي. واشتهر بخط جليل الثلث لتزيين المعالم المعمارية كما في بناية القديسة صوفيا. وكذلك معروف بخط طغرة السلطان محمود، حيث صفاء ونقاء الخط يتجاوز الزخارف التي كانت تطغي على الطغرة سابقا. وقد رأيت له لوحة في متحف قصر طوب كبي بأسطنبول، تدهش المشاهد بجرأته على تجاوز المألوف و بقدرته على تطويع الحروف للتشكيلة الخطية.
وعندما استوردت مطبعة في اسطنبول في القرن الثامن عشر حوربت من قبل المتشددين. ولكن المطابع دخلت تدريجيا في القرن التاسع عشر مما اقلق ذلك الخطاطين. فخرجوا بمظاهرة في شوارع اسطنبول حاملين تابوت مليء بأقلام القصب.

وعند استقلال الدول العربية في بداية القرن العشرين، لم يجد الخط العربي اهتمام من المسؤولين عن الثقافة. وطبقت مدارس الفن الاسلوب الغربي في الفن التشكيلي، والذي بقي الى زمننا الحالي في حوار مع نخبة مثقفة، ولم ينجح في تغذية روح الجمهور العريض كما كان فن الخط سابقا.
بقي الخطاط وفنه على هامش الحياة الثقافية وبدل الاعداد الكثيرة للخطاطين تضائل عددهم وقل انتاجهم.
وقد فقد الخطاط دوره بسبب تغير بنية المجتمع الاسلامي، والتغير الثقافي الذي طرأ وذلك بعودة الصور عبر التلفزيون ووسائل الصور الاخرى، وتطور وسائل الطباعة المختلفة. والتي لم تترك مجالا للخط كمهنة. ولكن ومن حسن الحظ ان كل وسائل الكتابة الحديثة لايمكنها الوصول الى اناقة وجمال انتاج أنامل الخطاط.
فبقي مجال ضيق جدا لعمل بعض الخطاطين الذين يقاومون للبقاء في الكثير من البلاد العربية والاسلامية. وهناك معارض عن الخط العربي في دول عربية متعددة لكنها تبقى قليلة. وبرزت بادرة من دول الخليج العربي بتشجيع للخطاطين فأن امارة دبي تنشر مجلة قيمة وانيقة ـ حروف عربية ـ عن الخط العربي تلعب دور مهم في الدفاع عن هذا الفن والتعريف به وبالخطاطين الاحياء، وفي دبي ايضا مركز للخط العربي له نشاطات متعددة. كما تقوم امارة الشارقة بعمل معارض مستمرة عن الخط تساهم في اعادة الحياة للخط، وفي هذه الامارة يقوم متحف الخط بمعارض دورية. وكذلك بعمل لقاءات وحوار حول الخط القديم والحديث.

كما ان وعي بعض الفنانيين التشكيليين بضرورة الاشارة للحرف العربي أعطي زخما جديدا للخط العربي. ولكن مقارنة نشاط الخط اليوم بالنسبة لما كان عليه توضح ان كل ما يقام في عصرنا يكون قليلا بالنسبة الى اعداد الملايين من البشر اللذين يكتبون ويقرأون الحرف العربي.
كذلك لابد ومن الضروري ان يكون هنالك اهتمام بالخطاطين الاحياء، بمن يعيد الينا الخط القديم قبل فقده تماما، وكذلك لابد من الاهتمام بمن يريد ان يعمل التجارب الجديدة كي يتبؤا الخط العربي مكان نشط في مجالات الحياة المعاصرة.
فان الاعتقاد بنقل ماهو جميل في السابق فقط لايكفي لان الخطوط القديمة من عصر الحصان ستبدو جامدة في عصر السيارات والطيران. وبنفس الوقت لابد من التاكيد ان عدم الاهتمام بكل تجارب الماضي معناه ضياع كنوز جمالية يمكنها ان تعطي الايحاءات والالهام لكل من يهتم بالخط في عصرنا الحاضر.

هنالك من لايريد التجديد في اساليب الخط القديمة، وهنالك على العكس من يرى ان مواصلة الخط في عصرنا الحالي هو عودة الى الوراء.
وأخيرا ومن نص يعود الى ابن الهيثم في القرن الحادي عشر يتكلم فيه عن العلم، والعلاقة بالتراث، يمكن ان نطبقه ايضا على علاقتنا بالخط وعلى كل ما وصل الينا من آلآف الخطوط للخطاطين القدماء. فربما ينير لنا هذا النص الحوار حول مستقبل علاقتنا مع خطوط الماضي:

( فطالب الحق ليس هو الناظر في كتب المتقدمين، المسترسل في طبعه في حسن الظن بهم، بل طالب الحق هو المتهم لظنه فيهم، المتوقف فيما يفهمه عنهم، المتبع الحجة والبرهان لا قول القائل الذي هو انسان، المخصوص في جبلته بضروب الخلل والنقصان.
والواجب على الناظر في كتب العلوم، اذا كان غرضه معرفة الحقائق، ان يجعل نفسه خصما لكل ما ينظر فيه، ويجيل فكره في متنه وجميع حواشيه، ويخصمه من جميع جهاته ونواحيه، ويتهم ايضا نفسه عند خصامه فلا يتحامل عليه ولا يتسامح فيه.
فانه اذا سلك هذه الطريقة انكشفت له الحقائق، وظهر ماعساه وقع في كلام من تقدمه من التقصير والشبه.

حسن المسعود

* لا يجوز اعادة النشر دون موافقة الكاتب

** لمواصلة الموضوع بشكل اوسع لابد من الرجوع الى هذين الكتابين
Désir d'envol
Hassan Massoudy
Edition Albin Michel – Paris
ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* تأليف : حسن المسعود
يحتوي هذا الكتاب على 120 لوحة خطية. نصف بالاساليب القديمة ونصف بأسلوب حديث وبالالوان
كما يحتوي الكتاب على نصوص نظرية كثيرة عن الخط العربي الحديث باللغتين العربية والفرنسية
208 صفحة وبقياس 33 في 25 سنتمتر


Calligraphie Arabe Vivante
Hassan Massoudy
Edition Flammarion – Paris


* تأليف حسن المسعود
يحتوي على دراسة عن الخط العربي القديم باساليبه المتعددة. وكيفية خطها وتحليل قواعدها الجمالية. مع اكثر من 200 صورة للمعالم المعمارية المزينة بالخطوط وكذلك صور خطوط في لوحات وكتب وحاجيات متعددة. اكثرها تنشر لأول مرة
كما يحتوي على نصوص نظرية عن الخط العربي باللغتين العربية والفرنسية ومنذ عام 1981 يعاد نشرهذا الكتاب بدون توقف
176 صفحة وبقياس 32 في 24 سنتمتر


www.massoudy.net

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى