عبدالكريم العامري - الموتى لا يُقرأون - مونودراما

(اقتيد اللبناني الجنوبي مصطفى الصدقي مع العديد من الشباب الى معسكر أنصار بعد الاجتياح الإسرائيلي.. النص حكاية حقيقية رواها لي الصدقي)
ثقوب من إثر رصاصات على الجدران، عتمة تخنق المكان، ليس هنا سوى كرسي واحد يجلس عليه مصطفى الصدقي دون حراك. بقعة ضوء حمراء تلونه، يخرج زجاجة نبيذ من جيبه. يحتسي منها قليلا ثم يرجعها الى مكانها. صوت مؤذن يسمع من بعيد. الصدقي يلتفت حيث جهة صوت المؤذن. يصغي للصوت ومن ثم ينهض من مكانه.
الصدقي:
ما زلت تكبّر أيها المؤذن الهرم. وما زلنا نخبّئ تلك التكبيرات في الصدور (يصمت قليلا وهو يخرج زجاجة النبيذ ثانية ويحتسي منها بقدر قليل ثم يرفعها امام ناظريه. يحدّق بها ويكلمها) حتى أنت، أيتها الزجاجة لم توقفي ألمي. يقولون أن جرعة واحدة منك تنسيك الدنيا وما فيها وها آنذا كلما احتسيتك ترجعين لي ذاكرتي الى الوراء. وليس في ذاك الوراء سوى الألم. (يصمت وينظر حيث صوت المؤذن الذي انتهى) هل انتهيت؟ ان انتهيت فأنا لم انتهِ ما زال في هذه الزجاجة بقيّة. أنت تدعو الى الله وهذه تدعونني الى الماضي. ليتني أستطيع التقرّب منك ولكن.. (يشير الى الزجاجة) هذا الشيطان يزحزحني عنك. لست مؤمناً كما يجب لكنني مؤمن بالقضيّة. (يصمت وكأنه يتذكّر) القضية؟ أي قضيّة؟ ما خلاص باعوها! (يسأل نفسه) أما زلت مؤمناً بالقضيّة؟ ايّها الساكن فيّ هل ما زلت مؤمنا بها. لماذا لا تنساها مثلما نسيها الاعراب وبالوا عليها. (يضحك بهستيريا) لا بل زربوا عليها! قضيتك يا صاحبي كانت قضيّة شعب ولم تعد كذلك. هم يشترون ويبيعون بنا كالخراف (يهتف بصوت عال) نحن خراف الامة العربية المجيدة. تحيا امتنا العربية المجيدة نحن خرافها نصفّق للجزّار وهو يحزّ رقابنا. (يصمت قليلا) أرأيتم كم نحن طيبون ومسالمون؟ (يضحك) مسالمون حدّ الموت. هل تعرفون ما هو الموت؟ هل تعرفونه حقّاً؟ هل جربتموه؟ أنا سأخبركم. انتظروا قليلا (يرتشف من النبيذ قليلا) الموت يا سادتي رقصة من باعونا وتاجروا بدمائنا! لنرقص رقصة الموت.. هيا.. هيا كلكم معنا. لنرقص معا رقصة الموت. ارقصوا معي. هيا. هيا. لن تخسروا شيئا سوى أرواحكم. هيا انهضوا وارقصوا معي. (يتوقف وينظر الى الجمهور) ما بالي اراكم لا ترقصون؟ هل نسيتموها؟ طيف نسيتم رقصة الموت وأنتم ترقصونها كل يوم. في المنزل ترقصون. في الشارع ترقصون. في كل الازقة والحارات ثمة من يرقصها منكم! حسناً أنتم لا ترغبون في الرقص الآن لأنكم تعبتم من الرقص. أسألكم يا سادتي: هل حدّقتم مرّة في عينيّ الخروف وهو يرى السكّين بيد الجزّار؟ ان لم تروا ذلك المشهد انظروا في مراياكم. سترونها حتماً. ذابلة مستسلمة. (يصمت قليلا وهو يحتسي النبيذ) هكذا هي دائماً، ذابلة ومستسلمة. (ينظر الى زجاجة النبيذ ثم الى الجمهور) اطمئنّوا لم تنتهِ بعد. لم تنتهِ قبلما انهي ما بيّ ويصمت الساكنُ فيَّ. اطمئنوا أيها السادة (يضحك) والسيدات طبعاً، ذكورا واناثاً (يصمت وهو يفكر) هل قلت ذكوراً للتو؟ (يهزّ رأسه وهو يحتسي النبيذ) اظنني قلت هذا. معذرة فذاكرتي مثقوبة. (يهزّ رأسه) نعم مثقوبة مثل وضعنا العربي تماماً. احياناً أنا أنسى وفي أحايين كثيرة أتناسى. لأتفق معكم منذ الآن، ان نسيت شيئاً فذكّروني به. هل اتفقنا؟ (يصمت قليلا) حسناً. ذكّروني الآن ماذا كنت أقول؟ (مع الجمهور) ماذا؟ لم اسمع.. أنت الجالس في المقدمة ماذا كنت أقول. لم اسمع. رفقا بسمعي ليكن صوتك عاليا. لماذا اصواتنا خافتة هكذا. لم لا تصرخ بصوت عال. (يشير بإصبعه الى الجمهور) ماذا قلت يا سيدي. أكنت تذكّرني ام كنت تسبّني؟ لا بأس عليك فقد تعودت على السب والشتم. ها الآن تذكرت. اناثا وذكورا. هذا ما قلته. (يصمت قليلا) أخشى ان لا أرى ذكرا في هذه الامة المجيدة. (يحتسي قليلا من النبيذ) ان تكن ذكرا لا يعني أنك رجلا. الرجولة تتطلب أشياء غابت عن اعيننا منذ زمان! (يتحرك الى جانب من المسرح) كنّا يا سادتي، نتغنّى برجال ذاك الزمان. نحتفظ بحكاياتهم التي ربما احدكم لن يصدّقها. من يصدّقني ان قلت أنا آخر أولئك الرجال؟ (يضحك بهستيريا) لن تصدقوا. اعرف ذلك فالصدق من شيمة الرجال أليس كذلك؟ (يحتسي من النبيذ) عذرا فأنا لا اشتمكم. لكنها الحقيقة المرّة. لكنها الحقيقة المرّة. (ينظر الى الزجاجة) شكراً ايتها الرفيقة. أنت تجعلينني هادئاً، مستسلماً. كيف لا وقد صرتُ عبداً لك. (يصمت قليلا) أن أكون عبداً لك خير من أن أكون عبداً لهم. (يصمت) من...؟ ألا تعرفونهم؟ أولئك الذين يقولون شيئا ويفعلون آخر. هل هذا يكفي لكي تعرفون من أقصد؟ (يهز رأسه) هذا جيد. (يحتسي قليلا من النبيذ ويعود ليجلس على الكرسي) شطبوا تأريخنا. كل من يأتي يشطب تاريخ من سبقه حتى صرنا بلا تاريخ. من الثورة الكبرى حتى الخريف العربي وسقوط عواصم كنا نتغنّى بها (يغني ثملا):

(بلاد العرب أوطاني

من الشام لبغدان

ومن نجدٍ الى يَمَنٍ

الى مصرَ فتطوانِ

لسان الضاد يجمعنا

بغسّانٍ وعدنانِ

بلاد العرب أوطاني.)*

كنت واحداً من أولئك المتغنين بأمجاد الآباء. ربما مثلكم ما كنتُ اشكّ بالنوايا. ولم أكن اعرفها. حتى حصل الذي حصل.
(اظلام تام. أصوات لسرفات دبابات وإطلاق رصاص تستمر لبعض الوقت ثم تتوقف، بقعة ضوء على الصدقي وهو في منتصف المكان)
الآن أنتم لن تروني. ربما بعضكم مثلي وقع في العتمة ولم يخرج منها بعد. قد تتساءلون: ما هي الحكاية؟ لا تستعجلوا فهي حكاية تافهة سخيفة سخافة وضعنا العربي. لا شيء سوى بضع رصاصات استقرت في جسدي لأنني ما نطقت الا الصدق. (شاشة كبيرة تظهر مجموعة من الأسرى يحرسهم جنود مدججين بالأسلحة)
هنا، في معسكر أنصار. اقتادونا بعد اجتياحهم للجنوب. أترون؟ ذاك أنا (يشير الى الأشخاص الاسرى في الشاشة) لا..لا.. ذاك أنا. (يصمت قليلا) ياه، لا أتذكر كيف كانت ملامحي يومذاك. كنت في الصف الأول من الطوابير الكثيرة. كثير من أولاد بلدتي اقتادوهم الى المعسكر. اختطفونا من البلدة بعد الاجتياح. يومها صرخ الضابط بأعلى صوته: من فجّر الدبابة؟ وراح يرددها أكثر من مرة وهو ينظر في وجوهنا المتعبة. ولكي أريحه خرجت من الطابور رافعاً يدي صارخا مثله تماما أنا.. أنا من قام بذلك.
(تطفئ الشاشة وتعود بقعة الضوء)
كنت واثقاً أنى سأموت. لكن موتي سيحيي أبناء بلدتي. يموت واحد خير من ان يموت الجميع (يحتسي من النبيذ) قلت أنا فانهالوا عليّ بالضرب المبرح وأطلقوا الرصاص باتجاه جسدي. رصاصة في كتفي وأخرى في بطني ورصاصة في ساقي ومؤخرتي! (يضحك) حمداً لله انهم لم ينالوا من عربيد رجولتي! (يضحك بهستيريا) هو كل ما املك في هذه الدنيا وهذه الرفيقة (يشير الى الزجاجة) لم أكن بطلا. ولا مجنونا. كنت انسانا عادياً كل همّه ان يعيش بسلام وبكرامة. اعرف ان البطل لم يكن بطلا ما لم يكن مجنونا. لكني لم أكن مجنونا. ان اعتبرتم حبّي للأرض جنوناً فلا بأس. لكني والله لست كذلك. ربما هناك من قام بأكثر مما قمت به أنا بالمعسكر. لم يذكرهم أحد. واطمئنوا. لن يذكروهم ابداً لأنهم ابطال خارج منظومة الخنوع العربي.
(يحتسي آخر قطرة من النبيذ)
أتعرفون لماذا لا يُذكر الأبطال الحقيقيون؟ لأنهم حقيقيون! والتأريخ المزيّف لا يذكر الا المزيفين. ابطال المنصات والشعارات الفارغة. فالموتى يا سادتي لا يُقرأون!.

اظلام- ستار

14 آ1ار/مارس 2019 لبنان-صور
-----------------
* بلاد العرب أوطاني هو نشيد عربي يتغنى بالوطنيّة القومية العربيّة ويمتدح الوحدة. نظم كلماته الأستاذ فخري البارودي ولحَّنَ موسيقاه الأخوان فليفل. (ويكيبديا- الموسوعة الحرة)

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى