فنون بصرية سعد القرش - حنين إلى ذاكرة الفوتوغرافيا

في كل مناسبة تخص قناة السويس يستعين الكسالى بلوحة للفنان التشكيلي محمود سعيد (1897 - 1964)، باعتبارها صورة فوتوغرافية للحظة ارتقاء منصة حفل افتتاح القناة في نوفمبر 1869، ويتصدرها الخديو إسماعيل، ومعه فرانسوا جوزيف إمبراطور النمسا والملكة أوجيني زوجة نابليون الثالث. وخلفهم ديليسبس وملوك وسفراء وحضور أدنى درجة.

الكسل البحثي حرم أكاديميين مطمئنين من فضيلة القلق؛ لتقصّي ذلك التاريخ البصري الثري المفقود. وفي صمت، كنت أراهن على الباحثة شذى يحيى، بعد دراسات شاقة وغير مسبوقة رحّبت بنشرها في مجلة «الهلال» أثناء رئاستي لتحريرها. منها «الاستشراق عبر بوابة الرقص الشرقي»، سبتمبر 2015، عن هوس انتقلت عدواه إلى معرض باريس 1889 ومعرض إكسبو شيكاغو 1893.

وكما نستعير الآن «لوجو»، علامة شهيرة ونكسو بها منتجا محليا «أوسكار الأغنية العربية، أوسكار السينما العربية، إلخ»، اتخذت راقصات أميركيات أسماء عربية، فقدمت كاثرين ديفين رقصة «مصر الصغيرة»، وقد صار اسمها عائشة وهبي، وامتازت الدراسة بصور فوتوغرافية تنشر للمرة الأولى. وفي يونيو 2016 فاجأتني الكاتبة بدراسة «فرقة العمال المصرية في الحرب العظمى.. مئة عام من النسيان»، مصحوبة بصور فوتوغرافية نادرة من الأرشيفين الفرنسي والأسترالي لعمال مساكين سيقوا إلى الشام وفرنسا وغيرهما، طعْما للموت في معارك ليسوا طرفا فيها.

وفي كتاب «فوتوغرافيا مصر.. صور وذكريات 175 عاما»، تكامل شغف الباحثة شذى يحيى وخيال الفنانة التشكيلية سماء يحيى، وأثمر جمعا وتوثيقا للمئات من بواكير الصور في تاريخ الفوتوغرافيا، وربما لم يضمها من قبل كتاب، قبل هذا المجلد النادر (560 صفحة كبيرة القطع) ونشرته دار الهلال.

عمل يسدّ فراغا بحثيا وجماليا، ويلقي أضواء على رواد فن غيّر العالم، وأربك الفنانين التشكيليين، فأعادوا النظر في مستقبل فن الرسم، وبحثوا عن طرائق وحلول فنية تستعصي على الكاميرا. وفي فترات طويلة كنا نسمّي أي كاميرا «كوداك»، واتضح أن الاسم لنوع من الكاميرات أصبح اسما شعبيا للكاميرا، وكذلك حملت الكاميرا الفوتوغرافية الأولى اسم «داجير تايبست»، طابعة داجير، «وكانت أعجوبة زمانها» ونسبت إلى مخترعها لويس داجير (1787ـ1851).

وفي المؤتمر الخاص بالإعلان عن اختراع داجير، 7 يناير 1839، قال عالم المصريات فرانسوا راجو إن أبرز وظائف «هذا الاختراع الفريد القدرة على نسخ ملايين الكتابات الهيروغليفية التي تكسو جدران معابد طيبة (الأقصر) ومنف.. وتختصر عقودا من الزمن وجهود عشرات من النساخ والرسامين على يد رجل واحد يحمل عدسة داجير».

كاميرا داجير، المثقلة بخمسين كيلوغراما من الأدوات والمواد الكيمياوية، دام عمرها عشر سنوات، وفتحت باب الولع بمصر، فقدّم صانع العدسات الثري الفرنسي نويل بايمال لوربور منحة إلى من يجيدون استعمال الكاميرا، للسفر إلى مصر لتصوير معالمها، وتعاقد مع المستشرق الفرنسي رسام المعارك هوراس فيرنيه وابن أخته فريدريك فاسكوا، وفي 4 نوفمبر 1839 وصلا إلى مصر، ومعهما خطاب رسمي يزكيهم لدى الوالي محمد علي، وأعد لهما القنصل الفرنسي بالإسكندرية مقابلة، بعد يومين في قصر رأس التين بالإسكندرية، مع الوالي الذي أبدى اهتماما بمعرفة عمل الكاميرا، وطلب العودة صباح اليوم التالي، لإجراء تجربة تصوير.

وفي الصباح صورا البوابة والسور الخارجي لجناح الحريم، وأبدى الوالي دهشة وإعجابا بهذا «العمل الشيطاني». وفي 7 نوفمبر 1839 التقطت لحاكم مصر أول صورة فوتوغرافية لإنسان في أفريقيا، وفي عام 1844 نشر فاسكوا ذكرياته عن الزيارة، وسجل انزعاج محمد علي من تعرضه للمرايا المصقولة، وأنه طلب تعلّم كيفية استعمال الكاميرا؛ ليصور حريمه بنفسه. ثم توالى حصول المغامرين منحة لوربور، وإذن بالتصوير في مصر.


* حنين إلى ذاكرة الفوتوغرافيا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى