محمد معتصم ـ محمد زفزاف و النقد الأدبي

1/في إطار الحديث عن التطور وعن دينامية الفكر المغربي الحديث والمعاصر، يقع الإطار الخاص بتطور النقد الأدبي المغربي، والوقوف على مراحله وخصوصياته وإسهاماته في الدفع بالحركة الثقافية والأدبية المغربية. وبالنظر إلى وتيرة التحول الفكري والإبداعي يمكن قياس درجة تطور الوعي النقدي المغربي. وما دام الأمر ، في هذا المقام، مرتبطا بكاتب مغربي رحل عنا في صيف 2001م بالدار البيضاء، وترك لنا رصيدا مهما ومتنوعا مما جادت به قريحته ومخيلته المبدعتان الخصبتان، فإنني سأتعقب التطور في الوعي النقدي من خلال ملامسة الوعي النقدي الذي رافق الكاتب الراحل محمد زفزاف في بداياته، وحتى منتهى دورة حياته، العمرية. وبالرغم من التركيز على القصة القصيرة فإنني سأعتمد على الآراء والدراسات التي تعقبت الرواية عند محمد زفزاف على اعتبار أن الكاتب واحد وإن اختلف النوع الأدبي الذي أنتجه. ثم لأن النقاد درسوا روايات زفزاف أكثر مما التفتوا إلى قصصه القصيرة – وهذه ملاحظة أولى هامة. واستخلصوا منها مواقفهم، ووجدوا بها ضالتهم. تلك التي كانت المراحل المتعاقبة للفكر والوعي النقدي المغربي تتطلبها.ثم عمموها على باقي إبداع الكاتب.

2/ الاستمرارية:
ومحمد زفزاف ليس كاتبا محليا فحسب بل استطاع بفضل مثابرته واستمراريته، وإصراره على إثبات ذاته الكاتبة أن ينشر ظله على الإبداع العربي، وأن يقتحم جدران بعض الجامعات والمؤسسات الغربية للنشر والترجمة. ولعل ما أثار اهتمام الناقد المغربي نجيب العوفي في التجربة الإبداعية لمحمد زفزاف، ومشروعه القصصي الذي ” افتتحه الكاتب بمجموعته (حوار في ليل متأخر) ووسع مداه بمجموعته الثالثة (الأقوى)…”، ص (253)، هو هذه الاستمرارية والروح المتفانية في الرعاية والعناية بالمشروع الشخصي الذي يسهم في إثراء الساحة الإبداعية المغربية والعربية. يقول نجيب العوفي في (درجة الوعي في الكتابة) بخصوص المجموعة القصصية الثانية لمحمد زفزاف (بيوت واطئة)، ما يلي:” تفرض ظاهرة الاستمرار أو التواتر هذه في المشروع الإبداعي لمحمد زفزاف نفسها وفي مقدمة هذه الدراسة، لأنها تشخص، في حد ذاتها، فضيلة هامة وأساسية لا بد من احتسابها والتنويه بها، لأنها تستدعي على نحو مباشر ظاهرة الانقطاع والتوقف، ولا أقول الكسل والتراخي، التي أضحت تجهض أكثر من مشروع إبداعي وفكري عندنا وتحكم عليه باليباس والبوار…”. ص (254).

وظاهرة الاستمرار والانقطاع في الأدب المغربي الحديث والمعاصر تحتاج إلى الكثير من التأمل والدرس. لأن الأسباب وراء ذلك ما تزال كامنة خفية، بين شخصية وموضوعية. ولا يمكن بأية حال تجاوز هذه الظاهرة الأدبية إلا بالوقوف على الأسباب الموضوعية ومن ثمة معالجتها. أما الأسباب الذاتية فإنها تعود إلى صاحبها.

ومما يعطي لظاهرة الاستمرار أهمية قصوى في نظر نجيب العوفي الروح القتالية لمحمد زفزاف وهو يصارع الشروط الموضوعية المحيطة بالمبدع والعمل الإبداعي. يضيف العوفي: ” في هذا الصدد لا يملك القارئ المهتم إلا أن يحمد لزفزاف هذه الروح الإيثارية المتفانية التي يتعهد بها مشروعه الأدبي، وهذا الحرص الدائب على الاستمرار والحضور، متحديا كل الصعاب مجالدا الشروط والظروف القاحلة، من أجل المساهمة في تأسيس وترسيخ إبداع مغربي حقيقي وتقدمي، في وطن أصبح فيه القابض على الكلمة النقية الملتزمة، كالقابض على الجمر أو ما أشبه.” ص (254).

ولولا استمراريته وروحه القتالية في ترسيخ إبداعه، وتطويره، والخروج به من روح التقليد والجمود الفكري الذي فرضته المراحل التاريخية والسياسية والإبداعية السالفة لما تم الاعتراف به مغربيا وعربيا. وفي هذا السياق تعد شهادة المرحوم الدكتور إحسان عباس في حق المرحوم محمد زفزاف ذات قيمة علمية وأدبية هامة. يقول إحسان عباس في معرض تقديمه لكتاب (القصة العربية أجيال وآفاق) :” فهناك كتاب في هذه المجموعة لا ندري هل استمر بهم طريق القصة القصيرة أو تغيرت بهم وجهتهم، وهم يجاورون كتابا تأثلت شهرتهم في هذا المجال مثل: عبد السلام العجيلي ومحمود تيمور وأبو المعاطي أبو النجا ومحمد زفزاف وليلى العثمان وياسين رفاعية وعبد الحميد هدوقة وجمال الغيطاني ويوسف القعيد وغيرهم. وما إن نذكر هؤلاء حتى يخطر لنا أن المشهورين من الغائبين – عن المجموعة – كثيرون أيضا، إننا لنفتقد هنا يوسف إدريس ويوسف الشاروني وسليمان فياض وإدوار الخراط وزكريا تامر ووليد إخلاصي وعادل أبو شنب وديزي الأمير ومؤنس الرزاز وفخري قعوار والميلودي شغموم وبنت الطبيعة [يقصد رفيقة الطبيعة، زينب فهمي] وخناتة بنونة ممن عبدوا في هذا الفن طريقا ورسموا فيه اتجاهات.” ص (12).

وتعد الاستمرارية والروح النضالية والتفاني من أسباب الشهادة لهؤلاء بالريادة والإبداع في مجال القصة القصيرة العربية. ولعل في شهادة إحسان عباس تقديرا واعترافا بالمجهود الإبداعي المغربي إلى جانب المجهود الإبداعي لمحمد زفزاف في ترسيخ القريحة المغربية محليا وعربيا.

3/ واقعية محمد زفزاف:
من مهام النقد الأدبي التصنيف والتحقيب. وهي تقنية أولية وضرورية لفهم المسار التاريخي الإبداعي، والتحول الفني مضمونا وشكلا، وتعاقب الأجيال، في تصادمها أو تواترها، أو انفصالها، وتحولها، وللتمييز بين كاتب وآخر في درجة الإبداع، أو في أسبقية الكتابة حتى ترتبط الكتابة في فهمها وتأويلها حسب الشروط التاريخية والظروف الاجتماعية والسياسية والفكرية المحيطة بالعمل الأدبي والأديب…

ومن مهام التصنيف والتحقيب الأدبي الوقوف على الاتجاهات الفنية المؤثرة في الإبداع، والشعب التي تفرعت عن الأصول، والمدارس الفنية والنقدية التي تؤول النصوص وتوجهها. وقد وقفنا عند هذه الظاهرة في مقام آخر، معتمدين على ما جاء في كتب ودراسات سابقة، لمهتمين بمجال القصة القصيرة في المغرب، خاصة، والأدب المغربي عموما.

وقد تم الاتفاق بين عدد من الدارسين والنقاد على وضع تجربة محمد زفزاف في خانة “الواقعية”. والواقعية في الفن تروم محاكاة الواقع وترفض التقليد الصوري للواقع لأنه يشوه الحقائق فتصبح متصلبة، كما نجد في (معجم النقد الأدبي) مادة “واقعية”. ويحددها إدريس الناقوري كالتالي:” الواقعية الحق فهي عدوة للفكرة الكاذبة. والواقعية الصحيحة لا تتحقق إلا بالالتزام المطلق بصدق الحياة وبالانطلاق من موقف علمي صحيح يوفر للكاتب حرية العمل وإمكانية التغلغل في مسارب الحياة كما يمنحه فرصة قليلة للخطأ.” ص (44).

وبالعودة إلى تحديدات النقاد المغاربة لواقعية محمد زفزاف نجدهم متأرجحين بين الخضوع للمرحلة التاريخية والسياسية والفكرية التي ظهر فيها محمد زفزاف ككاتب، وقد تميزت بالالتزام الأدبي والفكري. وبين هيمنة المدارس النقدية الواقعية في ذلك الإبان. وبين مضمون القصص القصيرة التي أنتجها محمد زفزاف. ثم إنها تنظر إلى محمد زفزاف في مرحلة تاريخية محددة ولا تحاول تتبع تطوره الإبداعي والجمالي، والفكري. فتجربة محمد زفزاف الإبداعية استمرت، كما أشرنا إلى ذلك في مقام وسياق آخر ” منذ الستينيات (بداية الاستقلال) إلى بداية الألفية الثالثة (حين وافته المنية)” ص (175). بتاريخ 13 يوليوز من سنة 2001م. ص (5، من كتاب: محمد زفزاف؛ الكاتب الكبير). وهذه الفترة الزمنية مهمة جدا في تاريخ المغرب والأدب المغربي الحديث والمعاصر. وتمتد على مدى أربعة عقود. ووقعت بها تحولات مهمة على مستويات مختلفة ومتعددة. ولا شك أن تلك التحولات قد مست تجربة الكاتب شكلا ومضمونا.

من النقاد المغاربة الذين اهتموا بمشروع محمد زفزاف القصصي، الناقد نجيب العوفي. وهو أيضا ممن وضعوه في خانة المدرسة الواقعية. يقول في هذا السياق: “ونظرا لحيوية الكاميرا القصصية عند زفزاف، فإن الواقعية تأخذ أشكالا متنوعة. فتبدو تسجيلية حينا. وغنائية حينا، وفانتازية حينا آخر، وقد تلتئم وتمتزج هذه الأشكال الثلاثة في غالب الأحيان، مع ملاحظة أن الشكل الفانتازي الهجائي هو الغالب عليها كذريعة وتكأة لاستخراج الفعاليات والطاقات النقدية الممكنة من هذه الواقعية. لكن مهما كانت هذه الفعاليات والطاقات النقدية المستخرجة. ومهما اتخذت الواقعية عند زفزاف من شكل. تبقى، في نهاية المطاف كما ألمحنا إلى ذلك من قبل. واقعية بصرية أكثر مما هي فكرية.” ص (271).

يحدد نجيب العوفي ومن خلال دراسته للقصة القصيرة عند محمد زفزاف ثلاثة مظاهر للواقعية: الواقعية التسجيلية، والواقعية الغنائية، والواقعية الفانتازية الهجائية. والحقيقة أن الكتابة القصصية عند محمد زفزاف قد مرت بمراحل مختلفة وتأثرت بتيارات متعددة، تأثر بها جيله. وأول وعي تشكل لدى جيل محمد زفزاف تمثل في الوقوف ضد الكتابة التقليدية التي حاكت النماذج القصصية المتوارثة. والوعي الثاني جاء مع الاتصال المباشر بثقافة الآخر، المتقدم فكريا وسياسيا وتاريخيا، وعلميا. وقد عبر زفزاف عن حدة هذا الاتصال في أعماله القصصية وخصوصا أعماله الروائية. وقد أثبت روجر ألن هذه الحقيقة في معرض حديثه عن (موسم الهجرة إلى الشمال) للكاتب السوداني الطيب صالح، وعند الحديث عن اشتغال الرواية العربية على موضوعة الاتصال بالغرب، تحت عنوان: العالم العربي وأروبا: ثقافات تلتقي. يقول روجر:” ويمكن القول إن دائرة توظيف هذا الموضوع اكتملت في رواية المرأة والوردة (1971) للمغربي محمد زفزاف (المولود عام 1945) التي يرحل بطلها محمد إلى فرنسا لتحقيق إحساسه الذاتي بهويته داخل الثقافة الأوروبية، غير أن نظرته للمجتمع الفرنسي تتغير بسبب ربطه نفسه بعالم الرذيلة في ذلك المجتمع. على أن الهدف الأساس من العمل هو إبداء بعض الملحوظات المعبرة عن فقدان الحرية في مجتمعه هو.” ص (299).

وتصادم وعي الكاتب بمحيطه الاجتماعي، واتصاله العنيف بالمجتمع الغربي، وخيبة أمله كباقي جيله بتحقيق الأماني التي تأسست على إثر انكسار الفكر التحرري، الوطني بعد الاستقلال السياسي…كل ذلك وغيره جعل الوعي القصصي عند محمد زفزاف حادا تجاه النص التقليدي، والواقعية الانعكاسية والتسجيلية، واللغة المسكوكة النقية، والأساليب البلاغية التقليدية…والشخصية البطولية، النمطية. لذا جاءت واقعيته لا تسجيلية، ولا غنائية رومانسية، بل صادمة ومحتجة على القيم التي تنقلب على ظهرها، كلما تتحول إلى الواقع الملموس والمعيش. لكنها جاءت ساخرة وهجائية كما قال نجيب العوفي.

فالكتابة القصصية لدى محمد زفزاف ليست واقعية بالمعنى الحرفي للواقعية. بل هي نظرة انتقادية وساخرة للسلوك الفكري والاجتماعي داخل المجتمع الجديد. وصعوبة حصر كتابة محمد زفزاف يأتي أولا من كون تجربة الكاتب قد امتدت على مدى أربعة عقود من الزمان. شهد فيها الأدب المغربي تحولات قد تكون جذرية. وتغيرت فيها المرجعيات الثقافية، وتطور الوعي النقدي، وارتقى مستوى المتلقي، وأصبح الكاتب يتوجه إلى فئة متعلمة، خلافا للفئات الواسعة التي لا تحتاج إلا إلى الصراخ العالي، والشعارات المدوية والواعدة. واختار محمد زفزاف الخوض في الهامش الاجتماعي. والتكلم بلغة الإنسان البسيط المغيب في القصص التقليدية، لأنه لا يتكلم بالفصيح، ولا يضع حدودا لنوازعه وميوله. إنه إنسان الجسد والرغبة لا إنسان الفكر والعقل.

يقول لحميداني في دراسته لقصة محمد زفزاف (أطفال بلد الخير) من مجموعته (العربة): ” ومن الطبيعي أن تتفاوت الواقعيات القصصية في استثمار هذه الأساليب الانتقائية والتركيبية بين واقعية شبه حرفية أو ساذجة وواقعية إيحائية. ونحن نميل منذ البداية إلى إدراج هذا النص في النوع الأخير.” ص (54).

ليس هناك اختلاف عند الناقدين في أن (زفزاف) كاتب واقعي، لكن الاختلاف يكمن في نوع واقعيته. في أي فرع من فروعها المتعددة. فهي ليست واقعية تصور تصويرا متطابقا الواقع في شموليته. أو لا تحاكي تماما موضوعها. بل يتدخل عند محمد زفزاف العنصر الذاتي والتخييلي. وهو ما فطن إليه الناقد إدريس الناقوري في حديثه عن واقعية الجيل الجديد. يقول: “وهذا التداخل يظهر كذلك في الرواية الواقعية الانتقادية التي تتفاوت فنا ووعيا، فهي أولا ليست واقعية إلا بسبب ما تتضمنه من إيهام بالحقيقة الواقعية، ومن وصف مقنع يعطي انطباعا مؤثرا عن موضوع الفن، ثم إنها على الرغم من اشتراكها في خاصة التصدي للواقع الاجتماعي بصراحة وشجاعة، إلا أن زوايا الرؤية، وطرائق الأداء تختلف فيها من نص لآخر، هذه الزمرة الثانية من الرواية، تختلفي رغبتها الدرامية لأنها تجد في ذلك تميزها، وما الجانب الدرامي فيها سوى توتر الشخصية ومعاناتها لحركة الصراع من أجل التغيير، يصدق هذا على الغربة- اليتيم- المرأة والوردة- زمن بين الولادة والحلم- أبراج المدينة- قبور في الماء- الأفعى والبحر- حاجز الثلج…” ص (119).

4/ ذاتية محمد زفزاف:
نعتبر الموقف النقدي لإدريس الناقوري أكثر وضوحا وإقناعا، لأنه لم يلجأ إلى توليد أبعاد مختلفة للواقعية بل ذهب مباشرة إلى القياس والمقارنة بين المكتوب، ومفهوم الواقعية. ونظر في نتائج ذلك على الشخصية القصصية، والسرد، والحوار، واللغة القصصية. ونظر كذلك في المؤثرات الثقافية والفكرية للمرحلة، وتفاعل محمد زفزاف معها. يقول الناقد:” وفيها-روايته الثانية،وينسحب ذلك على القصص القصيرة أيضا- يتجلى تأثره بالوجودية وفلسفة العبث والضياع. وعلى الرغم من طغيان عناصر السيرة الذاتية فيها فهي تحمل جوانب موضوعية بما عكسته من أجواء اجتماعية (الحياة الجامعية الإضرابات..).” ص (39.38).

إن حضور الذات الكاتبة في أعمالها ملمح طاغ وله قيمته الجمالية التي تخفف من حدة الواقعية بكل تفريعاتها عند الناقدين؛ نجيب العوفي، ولحميداني حميد. وأفضل من وقف عند الظاهرة القاص أحمد بوزفور في مقالة له عن الراحل محمد زفزاف نشرها بكتاب (محمد زفزاف؛ الكاتب الكبير) تحت عنوان: (ضمير المتكلم السارد في قصص زفزاف)، نسوق هنا خلاصته التي لا تعفينا عن التفسير والشرح، حيث يقول: “وبهذا المعنى، فإن زفزاف، باعتباره كاتبا، موجود في كل شخصياته القصصية، وكل شخصية من هذه الشخصيات، طفلا أو رجلا أو امرأة، إنسانا أو شيئا أو معنى، هو زفزاف في أحد أشكاله أو تجلياته أو مراحل عمره، بيد أن أغلب هذه الشخصيات هي أجزاء داخلية من زفزاف. هي زفزاف الذي لا يراه أحد، لا يراه أو لم يكن يراه حتى زفزاف نفسه.

“أما زفزاف الذي نعرفه، فإنه يتجلى في مظاهر خارجية أبرز، يتجلى في الشخصية الأولى مثلا في قصة (الغيلم) أو قصة (كيف تحلم بموسكو). إذ نجد في هاتين القصتين نمط عيش زفزاف كما نعرفه: بيته وغيلمه وأطفال جيرانه ووحدته، أو أفكاره وفلسفته في الحياة وطريقته الخاصة في الحوار…” ص (47.46).

والحضور الذاتي للكاتب محمد زفزاف في أعماله القصصية والروائية جعل النقاد يميلون بكتابته إلى الرومانسية. وهو ما أطلق عليه نجيب العوفي مفهوم “الواقعية الغنائية”. والكاتب يعزز في قصصه القصيرة ورواياته هذا التوجه، عندما يركز على العلاقات العاطفية، والاتصال الجنسي بين الرجل والمرأة.

لقد اعتاد المحللون والنقاد الذين واكبوا تجربة زفزاف منذ بداياتها، ووفق المرحلة تاريخيا، وفكريا، على النظر إلى الأدب كمبضع يوظف لتحليل الأوضاع الاجتماعية المتورمة ومن ثمة استئصالها. ومن المظاهر الواقعية الصراع القوي والعنيف بين الطبقات الاجتماعية المتضاربة المصالح. وهذا ما يركز عليه نجيب العوفي في دراسته لمجموعة “بيوت واطئة”. أما الحديث عن الجنس، وعن القهر الجنسي، واستعمال الكاتب للجنس كمستوى من مستويات تجلي الصراع المجتمعي، لم يكن مستوعبا وقتها. والحديث عن العلاقات العاطفية والتوترات الانفعالية للشخصيات القصصية كان وقتها يظهر نشازا في سياق التحليل الواقعي والملتزم للأدب. فالواقع لا يعترف بالحب، ولا يؤمن بالعواطف، ولا يستسيغ الحديث عن الذات في النص. وحضور الذات الكاتبة في النص دفع النقاد إلى وصف إبداع محمد زفزاف بالغنائي والرومانسي. وقد نعتها إدريس الناقوري بالكتابة “الشخصية”، و”الوجودية”، لأنها تقحم ذات الكاتب، بل تجعلها المحور المحرك للأثر. ولذلك اعتبرها غير واقعية بالمعنى الحرفي للكلمة، ولكنها لا تخلوا من بعض الإحالات على مواضيع واقعية كالحياة الجامعية والإضرابات.

وقد انتبه الدارس محمد الداهي إلى هذا الجانب الذاتي في إبداع زفزاف في مقال عنونه ” بتجليات البعد الانفعالي في رواية الحي الخلفي”. تعرض فيها الناقد إلى هوى الحب”، واستخلص الإضافات الجديدة التي قدمها محمد زفزاف في هذا المجال. خاصة قلب الظاهرة الاجتماعية والعرفية الأخلاقية التي تفرض على المرأة الارتباط برجل واحد. أي أن زفزاف كان ميالا إلى الحديث عن المرأة القضيبية. المرأة التي لا تكتفي برجل واحد بل تجد نفسها في تعدد الرجال واحتكارهم، وبالتالي إخصائهم. متشبهة بالرجال.

وقد برزت ذات الكاتب في مظاهر متعددة من إبداعه. منها البعد اللغوي. وقد أشرت إليه في مقالة بجريدة الاتحاد الاشتراكي تحت عنوان “اللغات المنسية”. وقد أثارني وقتها تركيز الدارسين والنقاد على المظهر الجنساني في كتابة محمد زفزاف. وكاد المظهر اختزال تجربة الكاتب المهمة، والتي ساعدت على التعريف بالأدب المغربي، وترسيخه، وساعدت وقتها على ربط النص بالقارئ، وبالتالي تشجيع فعل القراءة.. كادوا اختزاله في موضوعة “الجنس”. ومن ثمة أشرت إلى أن الجنس ليس إلا لغة من بين اللغات المنسية المعتمدة في الإبداع الأدبي. ولا يراد الجنس لذاته، كما في الكتابات الإباحية، التي تجعل كل همها وصف التجربة الحميمة، وبالتوغل في الاستجابة للطابع اللزج للكتابة في الموضوع فتضفي عليه من خيالها الكثير. إن محمد زفزاف استعمل الجنس كلغة منسية، وجدت صداها في نفوس القراء. لأن الجنس محرم، ويعد من الطابوها الثلاثة المشهورة: الدين، والسياسة، والجنس. والدارس المتمعن لا يعثر على الأوصاف الدقيقة للعملية الجنسية الحميمة عند زفزاف بل يعثر على الإيهام بالعملية الجنسية باستعمال قرائن لغوية،وصوتية، وتلميحات. ولا يعد الجنس إلا بنية صغرى، عرضية في السياق العام للقصص. ولا يعد الهدف العام والاستراتيجي للكتابة.

5/ زفزاف والنقد الأدبي:
لقد ساعد محمد زفزاف النقد الأدبي كثيرا دون أن يدري. فقد هيأ له المادة الصالحة للاختبار، والتجريب، والتطوير. فقد وجد النقد الأدبي في مرحلة السبعينيات في قصص وروايات زفزاف مادة حيوية، من خلالها جرب مفاهيمه ومصطلحاته. ورأينا كيف كان محمد زفزاف أداة مهمة عند الناقد إدريس الناقوري، في التصنيف. والتعريف. فقد اعتمد الناقوري على البعد الذاتي عند محمد زفزاف للفصل بين الأدب الواقعي الملتزم، وبين الأدب الجديد الذي يخترق مفهوم الالتزام والواقعية. كما أنه وجد السند الرئيس في ذلك الاختراق متجليا في الاعتماد على الهموم الشخصية المرتبطة بالتجربة الذاتية والمغامرة الفردية التي لا تعبر عن الجماعة بل تكتفي بذاتها. وحكم عليها الناقد بالعبث والفوضى لأنها لم تراع البعد القيمي في المجتمع. فالأدب في تصور الناقوري له وظائف اجتماعية محددة، تتمثل في الخضوع للجماعة، والتكلم بلسانها، مع نفي مطلق للذاتية، والتجارب الشخصية. ويندرج النقد الأدبي عند إدريس الناقوري ضمن ما كان يعرف “بالنقد الإيديولوجي”. الذي يرى في الإبداع موقفا من المجتمع. وعليه أن ينعكس على المضمون الأدبي والشكل الفني (الصيغة).

أما نجيب العوفي فقد حصر محمد زفزاف، وبعد تحديد مواقفه الفكرية، وآرائه المستخلصة من الشخصيات القصصية، ضمن البورجوازية الصغيرة. يقول :” إن المجموعة التي تضم أربع عشرة قصة، تعرية صادقة وتصوير حي من جهة، لمرحلة اجتماعية هامة زاخرة بالتساؤل والصراع والتوتر، ولسان ناطق بحال الكاتب وترجمة أمينة لفكره ورؤيته من جهة ثانية. كما تبدو المجموعة، من جهة ثالثة تتويجا للقناعات الفنية والخصائص الشكلية التي استخلصها الكاتب وارتكن إليها إلى حدود تاريخ صدور المجموعة، عبر تمرسه بالقصة القصيرة كشكل للتعبير ومحاولته السيطرة على قوانينها وأسرارها.” ص (255). البورجوازية الصغيرة التي يناقض موقفها تطلعاتها. أي أن مضمون القصص القصيرة في “بيوت واطئة” يسعى لقول الجمعي، فيسقط دون وعي في القول الشخصي. وبدل التطلعات الجمعية، تظهر التطلعات الشخصية، والفردية في الحياة. لقد كان الأدب وقتها يحمل ما لا يحتمل. ولم يكن مجرد تخييل. أو مجرد تمثيل للواقع في حدود الإمكان. بل كان الأدب قلب المعركة الاجتماعية والفكرية والسياسية. وكان النقد الأدبي الحارس الأمين على نوايا الكتاب. يوضح العوفي هذا القول فيما يلي:” إن هناك كابوسا ملحاحا وثقيلا يجثم على فضاء المجموعة ويأخذ بمخانق القصص الأربع عشرة التي تشتمل عليها. وهذا الكابوس ناتج عن الطريق المسدود الذي انحشر فيه الواقع الاجتماعي السياسي المغربي بعد سنوات طويلة من التخبط والمعاناة[...]كما أن هذا الكابوس في الآن ذاته وعلى المستوى المضمر، [يعبر] عن الطريق المسدود الذي انحشر فيه الوعي، وبالتحديد، الوعي البرجوازي الصغير، الذي يعيش حربا ضروسا وباردة مع الذات ومع الواقع، أو على نحو أدق، يعيش انفصاما شقيا وحادا بين تأملاته النظرية الثورية وبين مواقفه الانعكاسية العملية.” ص (255).

وقد مثلت هذه المرحلة الأرضية الأهم لدراسة محمد زفزاف، وتصنيف أعماله، والتعريف به وترسيخ اسمه من خلال تركيزها على نبل الأهداف المتوخاة من أعماله، بالرغم من وجود البعد الذاتي، الرومانسي، والغنائي، والشخصي بها. وبالرغم من التركيز على موضوعة الجنس، وبالرغم من تناقض المضمون مع المطلوب من الأدب وقتها (الالتزام). لكن أعمال محمد زفزاف أبانت عن جدواها وعن أهميتها الأدبية من خلال التطور الذي حدث في المسار التاريخي لنظرية الأدب. وانعكاسها على النقد المغربي الحديث. وقد تناول نقاد كثيرون في مقالات ودراسات منفصلة، أعمال زفزاف من وجهات نظر نقدية مختلفة، وكانوا في كل حين يعثرون على ضالتهم.

لهذا فمحمد زفزاف لم يقم فقط بتطوير القصة القصيرة المغربية، أو اكتفي باجتراح مواضيع جديدة، وبعضها كان محرما، بل ساعد النقد الأدبي على التطور وعلى اكتشاف ذاته، واختبار مفاهيمه وأدواته وأساليبه التي فرضتها عليه المذاهب والمدارس النقدية الحديثة.

وتبقى إشارة مهمة وهي أن كل ما قيل وما سيقال عن الراحل محمد زفزاف من ريادة في مجال القصة القصيرة، ورسوخ القدم في الإبداع المغربي الحديث والمعاصر، وإضافاته الفريدة والشخصية، فإن الاهتمام به كان أقل بكثير مما قدمه للثقافة المغربية. وأنا أبحث في كتب النقد عن محمد زفزاف لم أجد سوى مقالات متناثرة هنا وهنالك، ضمن كتب، ومجلات وجرائد وملاحق ثقافية أسبوعية مغربية، وقد قام المرحوم المهدي الودغيري بجمع بعضها في بيبلوغرافيا (مختصرة) ألحقها بالعدد المزدوج لمجلة (آفاق) لاتحاد كتاب المغرب، ص (264…277)، الذي تضمن دراسات ومقالات، كانت عبارة عن يوم دراسي أقيم للكاتب بالدار البيضاء، تحت عنوان “الكتابة والحياة”. وكذلك كتاب “محمد زفزاف؛ الكاتب الكبير” الذي نشرته رابطة أدباء المغرب. ونشر محمد عز الدين التازي كتبا عن المرحوم بعنوان “السرد في روايات محمد زفزاف. 1985″. أما الرسائل الجامعية فإنها تبقى رهينة الرفوف ولا يطلع عليها إلا القليل من الباحثين والنقاد. ويجب نفض الغبار عنها تقديرا للكاتب ولإسهاماته التي أخلص فيها للكتابة الجادة والجيدة وللروح المغربية حتى مماته.

::. محمد معتصم
المراجع المعتمدة:
1/ نجيب العوفي. درجة الوعي في الكتابة.دراسات نقدية.ط1. 1980م. دار النشر المغربية.
2/ جماعة من الباحثين. محمد زفزاف الكاتب الكبير. ط1. منشورات رابطة أدباء المغرب.
3/ ج.ك.طامين وم.ن.هوبيرت. معجم النقد الأدبي. 1998. سراس للنشر.
4/ مجلة (آفاق) لاتحاد كتاب المغرب. العدد المزدوج:61/62. 1999م.
5/ كتاب العربي. القصة العربية، أجيال وآفاق. الكتاب 24. يوليو 1989م
6/ إدريس الناقوري. الرواية المغربية، مدخل إلى مشكلاتها الفكرية والفنية. دار النشر المغربية. ط1. 1983م.
7/ تاريخ كيمبردج للأدب العربي. الأدب العربي الحديث. ط1. 2002م.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى