جميل حمداوي - مسرح الصورة بين التنظير والتطبيق

توطئة:
يعتبر الفنان العراقي صلاح القصب من المخرجين العرب المتميزين في مجال الدراما والمسرح ، وذلك إلى جانب الطيب الصديقي، وفاضل الجعايبي، وحبيب شبيل، والمنصف السويسي، ومنير مراد، ومحمد إدريس، ومحمد كوكة، وروجيه عساف، وتوفيق الجبالي، وحكيم حرب، وشفيق المهدي، وعز الدين قنون، وحمد الرميحي، وجواد الأسدي، وقاسم محمد، وعوني كرومي، وفاضل خليل، وكريم رشيد، وباسم قهار، وناجي عبد الأمير. ويعد أيضا من السباقين إلى بلورة المسرح السيميائي في العالم العربي، والتنظير لما يسمى بسيميائية الصورة المسرحية . وقد أصدر في هذا مجموعة من البيانات المسرحية (خمسة بيانات) ، وألف عددا من الدراسات النظرية، والتي جمعها في كتابه:" مسرح الصورة بين النظرية والتطبيق"، والذي صدر بالدوحة في طبعته الأولى سنة 2003م، فضلا عن مجموعة من الأعمال والعروض المسرحية التطبيقية.
ويعني كل هذا أن الدكتور صلاح القصب من المخرجين الأوائل الذين أسسوا مسرح الصورة ، وأرسوا دعائم المسرح السيميائي في العالم العربي، وذلك لكونه أعطى أهمية كبرى للعلامات والرموز والإشارات والأيقونات، واهتم اهتماما لافتا للانتباه بالصور البصرية والكوريغرافية التي تبوأت مكانة الصدارة ، وذلك على حساب اللغة والحوارات الأدبية التي أصبحت لها مكانة ثانوية، فأضحت عنصرا متمما للحركة والصورة ليس إلا.
هذا، ويشارك صلاح قصب في مشروعه النظري ومختبره المسرحي المتعلق بمسرح الصورة كوكبة من المخرجين ، مثل: كريم عبود، وشفيق المهدي، وكريم رشيد، وعواطف نعيم، وسامي عبد الحميد، وباسم قهار، وناجي عبد الأمير، ورضا ذياب، بالإضافة إلى مجموعة من النقاد كمحمد مبارك، وحسب الله يحيى، ونازك الأعرجي، ومعد فياض، وماجد الأميري، وعبد الخالق كيطان.

 مفهوم مسرح الصورة:

يعرف مسرح الصورة بأنه حزم من الشعر والفلسفة والتشكيل . وبالتالي، فهو مسرح سيميائي حركي طقوسي شعائري سحري يعتمد على توليد مجموعة من المفردات البصرية ، والتي تتحول بدورها إلى رموز وإشارات وأيقونات دالة تساهم في خلق المعنى حسب مقاماتها السياقية، ومستلزماتها التداولية، وذلك عن طريق خلخلة أفق انتظار الراصد، وتخييب توقعاته الجمالية. وبمعنى آخر، فمسرح الصورة هو مسرح تجريبي حداثي يستعمل الحركة والإيماءة والأيقون والإشارة والرمز ، ويستعين بالرؤية البصرية ، عوضا من استعمال الكلمة واللغة والحوار كما في المسرح الكلاسيكي . والمقصود من هذا أن المسرح الصوري:" يقوم على شبكة من التكوينات، والأنسجة المركبة الغامضة المصممة بقصدية، أو عفوية، وفق إيقاع صوري لعلاقات شكلية متغيرة لا يهدف إلى إيصال معنى محدد، كما في المسرح التقليدي، أو تثبيت ما يسمى ب" التمركز المنطقي"، كما يقول الناقد البنيوي جاك دريدا، وإنما يقوم بإرسال مجموعة كبيرة من الإشارات، والعلاقات، والدالات إلى المتلقي عبر سياق وشفرة، لتولد في ذهنه مجموعة مدلولات. ويستبعد العرض في مسرح الصورة أي عنصر من العناصر البنائية التي تستخدم عادة في العرض المسرحي التقليدي، كما أنه يلغي قدر المستطاع أي شكل من أشكال الحوار، ويستعيض عنه بلغة الحركة، والتكوين، والإيماءة."
ومن هنا فمفهوم الصورة عند صلاح القصب بصفة عامة هو عبارة عن:" فضاءات جمالية، وأسطورية، وسحرية، وطقوسية، وماورائية، يبحث عنها مسرح الصورة ليشيد خطابه الفني."
وعليه، فبنية الخطاب المسرحي في مسرح الصورة يقوم على حد تعبير الناقد العراقي عواد علي على :" شبكة من التكوينات والأشكال والأنسجة المركبة الغامضة المصممة بقصدية أو عفوية على وفق مهرجان صوري لعلاقات شكلية متغيرة ، ويستبعد الخطاب أي عنصر من عناصر البناء المنطقي التي تستخدم عادة في الحوار، ويستعيض عنه بخطاب الحركة، والتكوين، والإيماءة، والهمهمة، والصرخة، والتأوه."
وعلى أي، فلم يتم الاهتمام بمسرح الصورة في الغرب إلا مع المخرج الفرنسي أنطونان أرطو صاحب كتابي:" مسرح القسوة"، و" المسرح وقرينه"، ولم يتم هذا الاهتمام عربيا كذلك إلا مع المنظرين العراقيين: حميد محمد جواد وصلاح القصب، وفي هذا النطاق يعترف صلاح القصب قائلا:" هناك تجارب نظر لها أنطونان أرطو أراد فيها أن يحرر المسرح من الحوارات الأدبية الطويلة التي تعيي الرؤية، وتنتهك الزمن. لذلك، فإن طروحاته النظرية تؤكد على عظمة الصورة، وقد أطلقت على ذلك مسرح الصورة، وهو أسلوب ورؤية لم يسبقني إليها أحد من المخرجين، أو المنظرين سوى المخرج العراقي الكبير حميد محمد جواد الذي كان يبحث عن الصورة، وعن قاراتها، لتتجول فيها رؤيته وفلسفته، الصورة انطلقت من أرطو ومحمد جواد ، وبعدهما جاءت البيانات المسرحية الأربعة التي ترجمت إلى اللغة الفرنسية، لتؤكد فلسفة هذا الأسلوب الجديد في المسرح الذي جاء في عمق العراق وثقافته العريقة."
وهكذا، نتوصل إلى أن مسرح الصورة هو مسرح سيميائي يركز كثيرا على البعد الحركي والبصري والتشكيلي والسينوغرافي، وذلك على حساب سلطة النص، وهيمنة اللغة والحوار الأدبي كما هو الشأن في المسرح التقليدي.

 الأعمال المسرحية المجسدة لمسرح الصورة:

أخرج صلاح القصب مجموعة من الأعمال والعروض المسرحية التي تندرج ضمن مسرح الصورة كمسرحية" عزلة في الكريستال"، ومسرحية" حفلة الماس" ، وهما قصيدتان شعريتان طويلتان للشاعر العراقي خزعل الماجدي، ومسرحية" الحلم الضوئي"، ومسرحية" الخليقة البابلية"، ومسرحية " الفردوس"، ومسرحية" أحزان مهرج السيرك" ، وهو عبارة عن سيناريو سينمائي قصير للكاتب والشاعر الروماني ميهاي زانفير. كما أخرج بعض المسرحيات لشكسبير كمسرحية"هاملت" ، ومسرحية" الملك لير"، ومسرحية " العاصفة"، ومسرحية" ماكبث" ، دون أن ننسي مسرحيات الكاتب الروسي تشيكوف كمسرحية " بستان الكرز" ، ومسرحية" الشقيقات الثلاث"،ومسرحية" الخال فانيا"، ومسرحية" طائر البحر أو النورس".
وقد كتب صلاح القصب أيضا مجموعة من السيناريوهات الصورية الشاعرية في شكل مشاهد درامية مكثفة بالرموز البيرسية، والعلامات الأيقونية، والمفردات السيميائية، والطقوس الشعائرية السحرية.

 مقومات مسرح الصورة:

يعتمد مسرح الصورة عند المخرج صلاح القصب على مجموعة من المرتكزات والمقومات الضرورية، والتي يمكن حصرها في الشعر والتشكيل والسينما والدراما. وعلى الرغم من أن مسرح الصورة :" ينحدر من عائلة الدراما، إلا أن أصوله العميقة تكمن في ثلاثة جذور غير درامية بالمعنى المسرحي، أسهم كل منها بدور معين في تكوين مسرح الصورة – فالشعر كان الجذر الشامل الأول لمسرح الصورة، ومازال هذا الجذر محتشدا في جانبيه الصوري واللغوي بالكثير من الأغوار والخامات التي يمكن أن تطور مسرح الصورة، أما الرسم والفن التشكيلي عموما فهو الجذر الثاني لمسرح الصورة، وقد بلغ ذروة عطائه لمسح الصورة في الفن الفوتوغرافي، أما السينما فهي الجذر الذي يعطي للصورة حيويتها وصيرورتها، وإذا تأملنا في هذا المثلث أمكننا الاستعانة بهيغل لإعادة ترتيبه وفق الجدل الهيغلي، فالمثلث الجدلي الأول المكون من الشعر والرسم والدراما، أنتج دراما الصورة بحالتها الديناميكية، أما المثلث الجدلي الثاني، فيتألف من دراما الصورة (وهي الصيرورة) مع السينما لينتج مسرح الصورة. وهكذا، يتشكل مسرح الصورة جدليا بتضافر خلاق بين أربعة فنون إنسانية عريقة ، هي: الشعر والرسم والدراما ثم السينما. إن مسرح الصورة يشبه شجرة وارفة تمد في هذه الفنون، وتأخذ منها."
فعلى مستوى الشعر، يتجاوز مسرح الصورة الحوار اللغوي المباشر وغير المباشر إلى استخدام الشعر الفضائي الحسي والبصري بكل مكوناته الباشلارية الدالة، وتشغيل جميع مفرداته الموضوعاتية البصرية التي تحمل دلالات شاعرية وأيقونية ورمزية:" إن الصورة تعتمد الشعر المركب، لهذا نرى أن الصورة تستبدل شعر الحوار بشعر الفضاء، الذي يجد بالذات حلا في مجال ما لا تملكه الكلمات فقط. إن شعر الفضاء قادر على خلق أنواع من الصور المادية تساوي صور الكلمات، فهو- أي شعر الفضاء- يوجد نتيجة لتركيبات من الخطوط، والأشكال، والألوان، والأشياء الخام، تلك التي توجد في الفنون كلها إلى جانب لغة الإشارات، والحركة، والوقفة كتلك التي توجد في البانتوميم."
ويعتمد مسرح الصورة إلى جانب الشعر على المرجع التشكيلي الذي يساهم في توليد الصورة البصرية، وتحويلها إلى إشعاعات ذهنية وفنية وجمالية. لذلك، ترى أن الحاجة:" لظهور المرجع التشكيلي ازدادت مع ازدياد أهمية هذا الفن في مسرح الحياة الثقافية والفنية للقرن العشرين، وبدأت القرائن تزداد بين تقنيات الرسم والشعر والمسرح..."
كما أن السينما ساهمت في تطوير الصورة المسرحية، وإغنائها فنيا وجماليا، وذلك بسبب احتوائها للرموز التشكيلية والرموز الدرامية، وإثراء المسرح بالصور الفوتوغرافية توليفا وتقطيعا وتخصيبا وتوليدا.
ويستعين مسرح الصورة كذلك بالسحر والحلم والرموز السيميائية والطقوس والشعائر والميثولوجيا والأنتروبولوجيا:" تعتمد الصورة على طقسية العرض المسرحي، لهذا فإن التشكيل الذي تعتمده، وتوظفه هو سحر الطقوس، والميثولوجيا، والرموز. ذلك الكم اللوني والتشكيلي كله الذي يميل إلى بدائية الفنون هو الذي يفجر وحدة العرض الذي يملأ مكانية العرض، لذا فإن وحدة المشاركة ما بين وحدة العرض والجمهور هي كتلك الوحدة التي يؤكدها كروتوفسكي، وبروك، وري هارت، وساندا مانو ما بين الممارسة الطقسية للقبيلة وأبنائها."
ومن هنا، فالصورة المسرحية لها عدة مقومات ومكونات ، ومن بين هذه المقومات نستحضر: الشعر، والدراما، والسينما، والتشكيل، والنحت، والسحر، والطقس الشعائري، والذي يحيلنا بدوره على العالم البدائي الفطري الذي كان يستعين بالحركة والرقصات المعبرة الدالة.
 مفهوم الممثل والمفردة والمكان في مسرح الصورة:
ينظر مسرح الصورة إلى الممثل على أنه صورة جسدية بلاستيكية، ولوحة تشكيلية إيمائية تملأ الفضاء ، وتشغله سيميائيا ودلاليا:"الممثل طاقة تعبيرية... وهو الحروف التي يكتب بها المخرج ليشكل الجملة البصرية... جمل تحمل دلالات بلاغية، ونحوية، وفنية، يكون الممثل فيها هو العنصر المفسر، فالممثل في مسرح الصورة فكرة تشكيلية مهمتها إشغال المكان، فالتمثيل هنا يعني خلق أشكال بلاستيكية في الفضاء.
إذاً، خطاب الممثل في مسرح الصورة خطاب حركي إيمائي يفجر طاقات الجسد التعبيرية للوصول إلى التألق الصوفي، يبني رموزا وإشارات تتجاوز الحدود البيولوجية الساكنة، إنه منتج لعلامات مشهدية، فهو في بنية العرض كائن بشري يتلخص دوره داخل عمله في صنع العلامات، وتحويل ذاته إلى علامات، لكن هذا التحويل لا يمكن أن يكون تحويلا تاما، لأن هناك دائما جزءا يظل غير مكتسب المعنى، من هنا تصبح العملية المسرحية عملية تحويل الكائن البشري إلى نسق سيميائي."
وإذا كان المسرح التقليدي في تكوين الممثل يعتمد على الجوانب السيكولوجية كما لدى ستانسلافسكي ضمن ما يسمى بالواقعية النفسية، فإن تكوين الممثل عند صلاح القصب مرتبط بتأهيله فلسفيا وجماليا وصوريا وسيميائيا(التجربة السيميائية).
أما المفردة في مسرح الصورة عند صلاح القصب، فتشكل أهم عنصر معجمي وبصري، وتتخذ دلالات سيميائية ورمزية حسب سياقاتها المقامية والتداولية. ومن ثم، فمسرح الصورة يبحث عن:"مفردات صورية نختزل دلالتها- يقول صلاح القصب- ، ونعمق فعلها العلاماتي داخل العرض لتأخذ المفردة معاني عديدة ضمن سياق العرض غير معناها التقليدي، إنه يؤسس على مفرداته المبتكرة صرح التشكيل الحركي(المظلة، والقماشة الكبيرة المتحركة، والآلات الموسيقية، وأشرطة السينما، والتوابيت، والنار الموقدة،...الخ). ففي مسرح الصورة تتداخل الأشياء(المفردات) في غير وظائفها، وعلاماتها، وأحجامها بشكل غريب وعجيب، مكونة علاقات سريالية بين المتلقي والمفردات، علاقات تبرأ مما هو كائن، وتسعى إلى ماهو ممكن أو محال.
إن بنية المفردة في عروض مسرح الصورة بنية غير ثابتة ، ديناميكية، تحرك الفضاء بروح التناقض، والانفصال، والتشتت، واللانظام، وصولا إلى حالة التجمع، بمعنى اشتغال المفردة في الواقع، وتتم عملية إحلال دلالي لنظم المفردات الجديدة تلائم سياق العرض العام، من هنا فإن للمفردات تغيرات ظاهرية وباطنية على مستوى الوضع السياقي والدلالي والتشكيلي تعطي لتشكيلها قدرة فائقة على التبدل لاكتساب صفات علاماتية متعددة أفرزتها أجواء العرض الطقسية."
أما المكان في مسرح الصورة ، فهو فضاء بصري طقوسي شعائري حلمي غير محدد في دلالاته. ويعني هذا أن المكان: " فضاء مطلق لا تحده حدود، أو تقف في بعث جغرافيته أي سمات للتقليدية الهندسية، فعملية إفراغ المكان من علاقاته ومكوناته التقليدية، وتوظيف مساحات بلغة رمزية حلمية طقسية هو ما يهدف مسرح الصورة للوصول إليه في توظيفه للمكان.
إن المكان المسرحي المعاصر لم يعد ينتمي إلى عالم المعطيات البديهية، بل أصبح اقتراحا يقدم للمتفرج، ويتعلق هذا الاقتراح بالمفهوم الجمالي للمكان، ونقد فكرة العرض في حد ذاتها، فالمكان المعاصر جعل لكي يتخلى المتفرج عن نظرته إلى العالم من خلال النظم الموروثة التي تلقاها، ولقنت له."
ويعني هذا أن الفضاء في مسرح الصورة فضاء احتفالي طقوسي شعائري كفضاء مسرح القسوة لدى أنطونان أرطو، بل هو فضاء سيميائي مجرد:" وترتبط فضاءات مسرح الصورة للمخرج الدكتور صلاح القصب بتلك المناطق التي سعى السيميائيون لاكتشافها، إذ تستند رؤيته الإخراجية، في جانب كبير وحيوي منها، إلى كثافة العلامات التي يطرحها العرض، إذ تستند رؤيته الإخراجية، في جانب كبير وحيوي منها، إلى كثافة العلامات التي يطرحها العرض، وعلاقاتها المتداخلة فيما بينها... فالفعل العلاماتي يقوم عنده من خلال عدد لانهائي من التراكيب المحتملة باستشارة وتكرار واستبعاد، وتصحيح، ومعارضة، وتشكيل علامات أخرى بشكل متزامن ومتراتب."
وهكذا، ينطلق صلاح القصب في تنظيره للممثل والمفردة والمكان من خلال رؤية سيميائية تعطي الأولية للبصري على ماهو سمعي ولغوي.
 مضامين مسرح الصورة:
يتناول مسرح الصورة لدى صلاح القصب مجموعة من العوالم الممكنة المركبة من الواقع والخيال والحلم والطقوس الشعائرية. وبالتالي، ينبني هذا المسرح على مجموعة من التيمات الموضوعاتية كالأحلام، والعذابات، والفرح، والتأمل، والقلق، والظلمة، والغياب، والحضور، والفن، واللاوعي، والوحدة، والغربة، والموت، والحياة، والظاهر المغلق. ويعني هذا أن مسرح الصورة قائم بشكل جلي على سيميائية الأهواء في كل تناقضاتها الصارخة، ومفارقاتها الانفعالية والوجدانية شعوريا ولاشعوريا. ويصدر مسرح الصورة عن فلسفة مركبة غامضة قائمة على ثنائية الموت والحياة:" وبذلك، تحمل الصورة منطلقات فكرية وجمالية لمضامين فلسفية ضمن إشكالية الوعي، قائمة على البحث عن الروح المطلقة ، أو سر الأسرار، إنها تتكلم لغة الجسد، والضوء، والخطوط، والمساحات الفارغة، والألوان، والكتل السحرية، لتشيد عالما طقوسيا احتفاليا تبدأ حركية الصورة التشكيلية فيه بإثارة المكبوت، وخلق فوضى المرئي، ولا تنتهي هذه الفوضى إلا بالقلق والموت، لتتحرك ذاكرة المشاهد المستهلكة، وتخلق من فعل اتصالها حركة لاشعورية تبحث عن تساؤل الوجود.
فالصورة تبني خطابا فنيا ماورائيا قانونه الهدم والبناء، وهي (رؤية الرؤى) تتوغل في عالم اللاجدوى، تكسر قوانين الظواهر الحياتية، وتبني لها قانونا فلسفيا جديدا يفجر معنى التساؤل ليبحث عن تساؤل كوني آخر مداره منطلق الأسرار ومتلقيه متعدد القراءات. لا تبحث الصورة عن قيم وأفكار ضمن حدود التسلسل المنطقي أو المعقولية، بقدر ما تكشف عن ثنائية الموت والحياة، واللذين يقف بينهما الكائن البشري بإزاء سحرية الصورة وبدائيتها ليستحضر باندهاش أسرار الكون الماورائية.
مسرح الصورة بحث جمالي في فلسفة الروح المطلقة، تشييد للإرادة البصرية المعبرة عن غموض العلاقات، ذاكرة مرئية تخاطب اللاوعي. أحلام مستوطنة في الذاكرة الجمعية تفجر الصورة مكنوناتها ، ويتحرك هذا العالم السحري كله ليضفي الأجواء القدسية على العرض، ومن هنا تتشكل بنية النص وتحولاتها في تشكيل العرض المسرحي."
وعليه، فمسرح الصورة عند صلاح القصب على المستوى الدلالي يركز جل اهتماماته الموضوعاتية على ثابتين موضوعيين ، وهما: ثابت الزمن، وثابت الموت، وهذا يذكرنا بشكل جلي بمسرح الموت عند المخرج الغربي تادوز كانتور T.Kantor.

 مرجعيات مسرح الصورة:

تأثر مسرح الصورة عند صلاح القصب كثيرا بآراء ماييرخولد الروسي في مجال البيوميكانيك، كما تأثر بالمسرح الفقير لكروتوفسيكي، ومسرح القسوة لأنطونان أرطو Antonin Artaud ، والذي أعطى أهمية كبيرة لمسرح الحركة على حساب مسرح الكلمة والحوار. ويعني هذا أن أرطو كان يحبذ مسرح الصورة ، ويفضله على مسرح الكلمة الذي ارتبط به المسرح الغربي ارتباطا وثيقا لفترة زمنية طويلة؛ مما جعل أرطو وكوردون كريك Gordon Graikيثوران على المسرح الغربي بصفة عامة ومسرح اللغة والحوار بصفة خاصة.
ومن التأثيرات الأخرى لمسرح الصورة ، نذكر: المسرح الصامت، والمسرح السريالي، والمسرح الاحتفالي ، والمسرح التسجيلي، والمسرح الأنتروبولوجي، والمسرح العابث، ومسرح اللامعقول، ومسرح الموت لتادوز كانتور، ومسرح جاك ليكوك ، ومسرح الشمس لآريان مينوشكين ، ومسرح بيتربروك، والمسرح الثالث لأوجينيو باربا...
هذا، ويرتكز مسرح الصورة في عمومه على الفلسفة والسيميولوجيا والشعر والتشكيل والسينما، ويستند إلى :" ركام من الأفكار والمضامين تبثها ذاكرة الصورة لتعلن عن جذور عميقة من الشعور والشاعرية تبثها في محطات الذاكرة الإبداعية، تنساب في الصورة معان فلسفية كبيرة عن حدس برجسون، وجليل شوبنهاور، وعن أفكار السرياليين في بيانات أندريه بريتون. صور وأشكال، ومساحات لونية من رسومات الفنان سلفادور دالي، طروحات عن الطاعون، والثقافة والميتافيزيقية، واللغة المسرحية الخالصة في كتابات أنطونان أرطو. تجتمع هذه المعاني في بنية واحدة لتعلن عن منظومات تفكير جمالية تمثل خطاب الصورة بكونيته وعالميته."
ويقول الدكتور صلاح القصب متحدثا بكل وضوح عن مرجعياته المناصية قائلا:" دخلت الفن، بالتحديد المسرح، من خلال الصدفة، لم تكن لدي أية رغبة في اقتحام عالم الفن، حلمي هو أن أكون بحارا.
كنت أحب الشعر، وقارئا جيدا للأدب، ويمتلكني عالم الرواية والقصة. دخلت عالم الفن من دون تصميم سابق، وعندما سجنني هذا العالم، شعرت، بلذة كبيرة، وتأثرت بأرطو، وبطروحات شوبنهاور، وكان لتأثيرات لفيوجولي وساندامانور وحميد محمد جواد، وجاسم العبودي، وسامي عبد الحميد، وإبراهيم جلال أثر مازال مرسوما على جسدي، كتلك الرسوم والإشارات على وجوه القبائل البدائية، تأثرت أيضا بالفن التشكيلي البدائي الأفريقي، وكذلك بملحمة كلكامش، وعالم الأساطير الذي يشدني كثيرا، كما أن سحر الفن التشكيلي هو مصدر أيضا من مصادر التأثيرية التي تدخل في إشارات الصورة."
ويبدو لنا من كل هذا أن ثمة تأثيرات كثيرة تتحكم في مسرح الصورة منها ماهو فلسفي، وماهو درامي، وماهو تشكيلي، وماهو سينمائي، وماهو أنتروبولوجي.

 الإخراج في مسرح الصورة:

يعتمد المخرج في مسرح الصورة على ثنائية الذهن (التفكير) والرؤية البصرية:" إن المخرج في مسرح الصورة يفكر، ويرى، ويعرف كيف يرى. إنه يبحث عن أشكال للتجربة مثلما نبحث عن المضامين، ونبحث عن صور للحركة الذهنية، وعن صور للطبقة الخارجية. إنها حالة من التقدم، تقدم وتطور الوعي الذاتي، كما أنها تمثل الجرأة في تكوينات أشكال جديدة."
ومن هنا، فمخرج مسرح الصورة يحول النص إلى عرض طقوسي أنتروبولوجي حركي ، يقدم من خلاله تجربة سحرية أسطورية حلمية عميقة قائمة على التخيل المفارق والتخييل الإبداعي الغريب والمدهش، وذلك في شكل مجموعة من الرموز والإشارات والأيقونات والإيماءات الفكرية والجمالية والسيميائية، والتي تحمل في طياتها وظائف دلالية متعددة ومتنوعة حسب السياق التداولي والمقام التواصلي. ويتم التركيز فيها على تجسيد أشكال السلوك والأفعال التي تقوم بها الشخصية المرصودة سواء أكان ذلك التصرف واعيا أم غير واع:" المخرج في مسرح الصورة – إذاً- صانع مبدع للمفردة وقوتها، إنه كاتب خيالات مفعمة بالسحر، خيالات تكشف عن قلق الإنسان، ورعبه الوجودي والاجتماعي."
هذا، ويلتجئ مخرج مسرح الصورة إلى تقطيع العرض المسرحي، وذلك بطريقة بنيوية إن هدما وإن بناء ، إن تفكيكا وإن تركيبا، مع خلخلة أحداث العرض المسرحي ، وذلك بطريقة فوضوية قلقة ومحيرة مبنية على التداخل والالتباس بغية تحقيق التجلي الصوفي، دون مراعاة ترابط الأحداث منطقيا وزمنيا، أو مراعاة الوحدة العضوية والموضوعية التي يتسم بها العرض المسرحي الكلاسيكي أو التقليدي.
هذا، ويعد المخرج عند صلاح القصب مبدعا وفنانا وساحرا سيميائيا في تعامله مع المفردة والممثل والمكان:" إن الدراما السحرية، أو السيميائية- في المعنى الأشمل- ، لا توصل لنا طقوسا سحرية ساذجة، بل توصل لنا شحنة السحر عبر الصورة... الصورة غير التقليدية، وغير النامية بفعل قوانين منطقية، أو وضعية، ولذلك يصبح المخرج الدرامي ساحرا بالمعنى العميق لهذه الكلمة، فهو خلاق مقترحات، وأشكال، وصور متعاقبة تنتج من تلك البئر السرية للسيمياء. يمكن للمسرح أن يضع نفسه في منطقة السيمياء، إذا اعتمد صورا مستحيلة التحقيق بالوصف العادي. إن طبيعة السيمياء هي تفاعل الأشياء مع بعضها بعضا، من دون حدود تعطي صورة عن الدراما المدهشة من خلال الصورة، إن اختلاف الدراما السيميائية عن الدراما التقليدية يكمن في أن الأولى تمنحنا القدرة على مس طقسي قديم، وإضرام النار في صور غريبة (فتيشية وطوطمية) من نبع جمالي لاشعوري، وخلق احتمالات شبه مستحيلة.
إن الدراما السيميائية لا توصل لنا طقوسا سحرية ساذجة، بل توصل لنا شحنة السحر عبر الصورة غير التقليدية، وغير النامية بفعل قوانين منطقية أو وضعية، ولذلك يصبح المخرج الدرامي ساحرا.إن تصيد الصورة سيميائيا، أو سحريا، سيقودنا إلى نمط من بث الروح في الأشياء جميعها، في شقها التشكيلي في التجربة أصلا، وهي تجربة جزئية وتقدمية، لأنها أسقطت ثنائية الفن/ الحياة، وجعلت التشكيل – بوصفه فنا- يصبح ملتحما وملتصقا بالحياة اليومية وبقضايا الناس واهتمامهم، فهي في المقام الأول لم تركز على اللوحة/ الصورة، بوصفها بنية قارة وثابتة، ولكنها ركزت على الفعل(فعل رسم يرسم ونرسم وترسمون). إن المسرح الشعائري- تحديدا- هو الطقس الدرامي المركب للصورة، وإن هذا الأفق ينفتح على السحر والسيمياء بالمعنى الصوري الذي حددناه، كما أن مسرح المرآة تنعكس على مادته صور العالم الضمني(الباطني)، والكوني عامة، ولذلك تتضافر هذه القوى كلها لإقامة دراما شعائرية متعالية."
هذا، ويرتكن مسرح الصورة إلى ثلاث مراحل إخراجية: مرحلة الاكتشاف(اكتشاف حركات البناء الدرامي الفلسفي للنص)، ومرحلة المعالجة والتكوين، ومرحلة العرض( الطقس الاحتفال ). كما ثار صلاح القصب ضمن رؤيته الفنية والجمالية الجديدة على سلطة المؤلف، حيث لا يبقي المخرج صلاح القصب أثناء الاستعداد لعرض عمل مسرحي من مائة ورقة تمثل نصا مسرحيا ما سوى عشر أوراق، وذلك عن طريق استعمال الشطب والحذف والمونتاج. وقد ثار أيضا على سلطة المخرج التقليدي، وذلك بإحراق دفاتر(سكريبتات) مدير المسرح التي تثبت الحركة. وبالتالي، فقد استبدل المخرج الحرفي والمخرج المفسر بالمخرج المبدع السيميائي الذي يحول النصوص الدرامية إلى علامات بصرية حركية ولونية وتشكيلية. كما ألغى سلطة تقنيي السينوغرافيا بإحراق خرائط وتصاميم المصممين ( أزياء - ديكور - إكسسوارات). وألغيت كذلك كلمة الإخراج من قاموس مسرح الصورة، وعوضت بكلمة فرضية الذاكرة، أو ذاكرة الرؤية الصورية، أو فرضيات الصورة.
هذا، ويتسم العمل المعروض في مسرح الصورة بالانزياح والتفكك والهدم والغموض على جميع المستويات، حتى يصعب إدراك العمل من قبل الراصد العادي بسهولة ؛ ذلك لأنه يستفز المتلقي، ويربكه فنيا وجماليا وذهنيا ووجدانيا. ومن ثم، لم يعد عمل المخرج فرديا على مستوى البناء والتشكيل والصياغة والتصوير، بل أصبح العمل جماعيا يشارك فيه كل الممثلين والراصدين.
وهكذا، فقد : " تطورت الصورة – يقول صلاح القصب- ، وتجذرت في أعماق الشعر، ودخلت الآن مرحلة ما أسميه بمسرح الصورة فرضيات الذاكرة، وهو إضافة ومدخل جديد للصورة... في هذا المسرح سنلغي سلطة ذلك المصطلح الأكاديمي أو ما يسمى بديكتاتورية المخرج، ذلك لأن روح الجماعة بتفكيرها المتعدد وأحلامها المتقاربة والمختلفة في بعض التفاصيل هي التي تعترف بالعمل وتحدد فرضيته. في مسرح الصورة كانت المشاهد والحالات مركبة، أي إنني كنت أنقل- يقول صلاح القصب- الشكل إلى المشاهد مركبا، أما في مسرح فرضية الذاكرة، فإن الصورة مفككة والإيقاع، هو الذي يعيد بناء ذلك التفكك، كما يساهم المونتاج في خلق الألفة والترابط بين هذه الصور والمشاهد، كما أنني أميل إلى استفزاز المتلقي والممثل، وأحفزه على أن يفترض حالات ومواقف مضافة إلى العمل، وتتعرض فرضياته للحذف أحيانا."
ومن هنا، فعمل المخرج في مسرح الصورة عمل سيميائي يقوم على تفكيك الدوال وتركيبها، وذلك للبحث عن آثار المعنى الفلسفي باختيار طريق الحركة والصورة على حساب اللغة الإنشائية والحوار الأدبي.

 مسرح الصورة والمتلقي:

تحمل الصورة المسرحية عند صلاح القصب حمولات فلسفية غامضة تخلخل أفق انتظار المتقبل، وتزرع فيه الخوف والرهبة والقلق، وفي هذا النطاق يقول صلاح القصب :" كما أن للفلسفة تأثيرا كبيرا في منحي هوية الصورة وذاكرتها في تأمل وسكون، لهذا فإن سرية الموت وقلقه المخيفين قد أثرا في الصورة، وحركاتها، وجعلتني أكمل جملة الموت ومنطوقها الفكري والفلسفي ببناء وتركيب ثان لتلك الجملة التي قد أثرت في، ومنحتني حقا أثيريا بأن أمنح الصورة وذاكرتها لغة خاصة تبعث في المتلقي شعورا برهبة وتأمل عظيمين لقراءة هذا الكون الذي يحيطنا بسريته غير المعلنة، ولهذا تسكب الألوان كلها في فضاء الصورة الأزلي التي تكون دائرة يشطرها فيصل هو فيصل الحياة- الموت ضمن سيميولوجية إشارية ، ثم ما يتفرع عن الحياة من (حب- فن- حضور- قلق- خوف)، ثم ما يتفرع عن الموت من(اغتراب-لاوعي- ظلمة-غياب)، وما بعد الموت، وهي إشارات تبعثها حركات النص، لا تستطيع الكلمة ولا الحوارات الطويلة أن تجعلنا نرى الخفي السري الأثير الذي يلامسنا إلا عظمة الصورة وذاكرتها. إنها رؤى حالمة في الشعر تنشره الروح الهائمة في مساحات العرض المسرحي."
وهكذا، يهدف مسرح الصورة إلى خلخلة أفق انتظار الراصد، وتخييب توقعاته، وإرباك مسافاته الجمالية والافتراضية، وتوسيع التجربة الذوقية للمتلقي بعيدا عن النظريات والمذاهب الجاهزة . وبالتالي، يمنح المتلقي فرصة استخدام عقله لإنتاج قراءات متعددة ؛ لما يزخر به النص من حمولات دلالية لامتناهية العدد. ويعني هذا أن مسرح الصورة ليس أحادي الدلالة أو نصا مغلقا، بل هو نص مفتوح ومتعدد الدلالات. لذا، يستلزم متقبلا متنورا واعيا قادرا على تفكيك العرض المسرحي هدما وتشريحا ، وتركيبه من جديد على أسس تحليلية وتأويلية جديدة؛ لأن" متلقي هذا التشكيل الصوري الغرائبي السحري هو منتج لدلالة العرض، ويملأ فجوات الخطاب الإبداعي، ويمارس فك شفرات الصورة الغامضة، ويبعث فيها روحا فلسفية متجددة متعلقة بوعيه الفني في التلقي.إنه متلق غير مستلب الإرادة والفكر، بل تلعب مواجهته للتشكيل الصوري في لحظة العرض دورا فاعلا في اكتمال الرسالة الاتصالية للعرض."
ويلاحظ كذلك أن المتلقي في مسرح الصورة ينبغي أن يكون مؤلفا ومخرجا ومفكرا، فالمتلقي هو الذي :" يكتب إنشائية العرض بصريا، ولذلك فجمهور هذا المسرح هو النخبة الأرستقراطية، والتي تعني الجلالة المتعالية على الذات، مثل: الرسامين/القصاصين/ الشعراء/ الموسيقيين. هذا الجمهور الذي يسمح له بالدخول إلى أجواء تلك السرية الثقافية المتقدمة"
ومن هنا، نفهم بأن الراصد لمسرح الصورة لدى صلاح القصب لا ينبغي أن يكون متقبلا بسيطا عاديا أو ساذجا ، بل لابد أن يكون متلقيا سيميائيا يعيد كتابة العرض المسرحي على أساس الهدم والبناء ، متتبعا في ذلك عمليتي التحليل والتأويل.

 خصائص مسرح الصورة:

يمتاز مسرح الصورة عند صلاح القصب بمجموعة من الخصائص والمميزات، والتي يمكن حصرها في السمات التالية:
1- التجريب: يتسم مسرح الصورة عند صلاح القصب بالتجريب الميداني الحلمي، والبحث عن الجديد والمستجد ، والسعي الجاد من أجل التفرد والتميز، والثورة على قوالب المسرح الكلاسيكي الأرسطي:" عندما تغرق سلطة الخطاب في سبات الوعي، يستيقظ التجريب ليوقظ سلطة الحلم/ الحر/ خطاب الأنا الباطني.إن منطقة ما قبل التجريب منطقة يضطرب فيها الخطاب باطمئنان حائر، في استقرار، ومشروخ في انسجام، يتكلم بعقل باطني يتحدث بعاطفة عاقلة، ويحلم بوعي، ويعي في حلم، وتمتزج لغة العقل بلغة الحلم. إن معمارية الخطاب الحر وقواه البصرية تحتاج إلى رسم التناقض والصراع سواء في الذات الواحدة أو بإضافة الشخصية النقيض.إن الرؤية التجريبية للعرض لا تخضع كما هو الشأن في البنية التقليدية للمنطق الشديد في تعاقبية الأزمنة: ماض، حاضر، مستقبل، وإنما تخضع لمنطقها الداخلي المنفلت، الباحث عن الحرية في التمظهر وممارسة الحضور من قيود العقل الكابت والقامع، ومن الوعي الذي لا يعد سوى جسر الذات إلى العالم الخارجي، وبهذا التحرر تتداخل الأزمنة التي تأتي نتيجة تصادم الذات برغبتها، وبموضوع الرغبة، والحلم، أو بالمانع لينعكس أثرها في لاوعي المتلقي، وفي التجريب الصوري تنكسر خطية الترتيب الزمني العقلاني الذي تؤسسه سلطة العرض التقليدي، والتجريب في مسرح الصورة حضور زمن غير آلي لا تعتقله الساعات، زمن لا يعتمد الترتيب الكرونولوجي، ولا يخضع له، بذلك تتحرر الصورة من سلطة الزمن، ومن سلطانه القاهر، ليصبح فعلا شفافا كالحلم والأسطورة."
ومن ثم، فالتجريب في مسرح الصورة يعتمد على تداخل الأزمنة، وتكسير منطق الأحداث، وتنويع الأمكنة والفضاءات، والارتكان إلى لغة الأحلام والأساطير والطقوس الشعائرية، وذلك بعيدا عن سلطة العقل والمنطق. وهذا ما يلاحظه أيضا الناقد العراقي فاضل تامر أثناء تقويمه لمسرحية:" حفلة الماس":" تمثل أقصى درجات التجريب في المسرح العراقي، وهي تنزع لقطع الجذور كافة التي تربطها بالمسرح الأرسطي.إنها باختصار تتجه نحو خلق مسرح-مضاد- يمتلك بدائله التعبيرية والجمالية الخاصة، وأرى أن هذه التجربة، وإن كانت تمتلك امتدادا لها في تجارب الدكتور صلاح القصب السابقة فيما أسماه ب" مسرح الصورة"، فهي تجربة جديدة تماما، وتقع خارج الإطار المألوف لمسرح الصورة ذاته. في هذه المسرحية تم التخلي عن الوحدات التقليدية في المسرح، وألغيت جغرافية الخشبة المسرحية، وتعطلت وظيفة اللغة الحوارية والاتصالية، وبرز إلى الصدارة العرض المسرحي بوصفه غاية نهائية، قائمة بذاتها، ومكتفية بإمكاناتها، لقد تحول العرض المسرحي إلى عمل فني يصارع العمل التشكيلي، وينحو بشكل خاص نحو موازاة تقنيات المسرح الكوريغرافي، لذا لم تعد اللغة تشتغل بوظيفتها المألوفة على خشبة المسرح، لقد تحولت بالأحرى مجرد ملصقات وعلامات- أو بالأحرى دوال تفتقد إلى مدلولات محددة- ولذا لم تطمح لأن تحتل موقعا مهما في بنية العرض المسرحي،إنها تميل إلى الانزواء وإلى التهميش، والصمت أحيانا.
إن حركية العرض المسرحي، بأقانيمه الأيقونية، والمؤشرية، والرمزية هي التي تهيمن على خشبة المسرح، بل يمكن القول: إن اللغة، شأنها شأن مظاهر العرض المسرحي والسينوغرافيا أصبحت جزءا ثانويا، وليست جزءا رئيسا أو عضويا من البنية المسرحية، وهو جزء معرض في المستقبل إلى الشلل التام أو الغياب."
وهكذا، فمسرح الصورة عند صلاح القصب قوامه التجريب والبحث عن الجديد النظري والتطبيق لتخصيبه ميدانيا وعمليا.
2- الحداثة: يتميز مسرح الصورة بكونه مسرحا تجريبيا حداثيا، يتمرد عن السائد، وينزاح عن كل التجارب المسرحية التقليدية الموروثة. وبذلك، فهو يتخطى الجاهز والكائن نحو المستحدث والممكن المستقبلي:" يشكل مسرح الصورة أحد أهم العناصر التي أسهمت في خلخلة السائد في اتجاهات المسرح العراقي، إذ ولد صدمة، وخلق سؤالا فلسفيا وجماليا في بث عدد من الثغرات التي لابد من إعادة فكها، إذ تقترن بتركيب البنية المؤسلبة، موحية بالوجد والصوفية في انعزالها الموجود على رصيف القلق الإنساني، معانقة خيالات الهذيان الباحث في أعقد إشكالات النهوض المتولد لزمن أسطوري في خفاء متخيل يجسد اللامرئي في تركيبه مشهدا ليس من السهولة حصره في قوالب وأساليب جامدة، ذلك لأنه امتحان لوجودية المتخيل المسرحي، فهو ضد التمركز المنطقي، على حد تعبير الباحث جاك دريدا، وإنما يقوم بإرسال مجموعة كبيرة من الإشارات والعلاقات والدالات إلى المتلقي عبر سياق وشفرة، لتولد في ذهنه مجموعة مدلولات يعارض فيها المسرح الصوري أي عنصر من عناصر البناء المنطقي التي تستخدم عادة في العرض المسرحي التقليدي. ومن منطلق فلسفي وجمالي، انعطف المسرح العراقي إلى آفاق أخرى تحررت من الأطر السائدة على المستويين الدرامي والمشهدي، ذلك لأن الرسالة الجمالية في هذا المسرح نظام متواصل متعدد المستويات، ولأنه يرمي إلى توسيع التجربة الذوقية للمتلقي في ذاتها بعيدا عن النظريات والمذاهب الجاهزة، فهي لا تنتهي للفن الراكد الذي لا يمنع حركة للفكر والتصور من أن تنطلق في تأمل وصلاة للروح."
وعليه، فمسرح الصورة لدى صلاح القصب مسرح حداثي يقوم على التثوير، والتغيير ، والتجديد، والابتكار، وتجاوز الكائن والسائد والزائف نحو الممكن الإيجابي.
3- السيميائية: تتسم الصورة المسرحية عند صلاح القصب بطبيعتها السيميائية والرمزية والأيقونية، وتعدد دوالها وقرائنها الإشارية والإيحائية، وكثرة علاماتها الإحالية والكنائية:" فالصورة علامة رمزية في ذاتها يعبر شكلها الخاص عن استقلالية وذاتية، يحاور بصفاته الجليل الفني.إنها فكرة عاجزة عن تحقيق ذاتيتها بشكل يمثل المظاهر الخارجية الحية بدقة، ولهذا تبنى الصورة في منظومات إنشائية تشكيلية على مستويات من التنافر وعدم التطابق بين المعنى والتعبير...
إن الصورة ، بنظمها الفكرية ومنطوقها الفلسفي وتراكيبها اللانهائية الغامضة الأثيرية، تمنح المتلقي فرصة شعورية، وتأملا مخيفا يقرأ سحرية الكون، ويكشف عن سريته غير المعلنة... ولهذا، فإن دلالة الصورة أزلية تتضمن إشارات سيميولوجية متنوعة، ومتشظية، ومتناقضة، ومتناصة عن عالم الخوف المغلق المحيط بالإنسان."
ويعني هذا أن مسرح صلاح القصب مسرح سيميائي ، مادام يستند إلى مفردات شكلية صورية، ويستعمل العلامات والرموز والإشارات والأيقونات والصور البصرية الملموسة ، والتي تحمل في طياتها عوالم ميتافيزيقية غريبة ومدهشة وطقسية واحتفالية وسحرية:" إن قوة التأثير الدرامي من خلال التشكيل الصوري ذات الطبع السيميائي تمد الدراما بقوة كبيرة، ويمكن هنا القول: إنها كذلك تمنع فن الدراما من الفناء، أو التحجر والموت، لأنها تنشط أعماق دراما الخلايا الديموزية السحرية، والديونيزسية، والباخوسية."
وعلى أي ، فمسرح الصورة كما نظر له صلاح القصب مسرح سيميائي بصري يشغل كل العلامات التي أشار إليها السيميائي الأمريكي بيرس في نظريته الفلسفية المنطقية حول العلامات.
4- تعدد الدلالات: يتميز مسرح الصورة بكونه عالما سيميائيا متعدد الدلالات والمعاني:" إن الصورة تحمل معها عوالم وتصورات ميتافيزيقية قادرة على خلق استجابة تنفجر مدلولاتها لتشكل هذا الخطاب المدهش والمثير، وهو خطاب اصطناعي، وليس طبيعيا، بمعنى أن اشتغال العلامة يتضمن عملية إبداعية في التوصيل تعنى بتحويل الواقع إلى تصور جمالي، فالصورة بوصفها علامة لها قدرة دلالية ديناميكية تشير إلى شيء غير كيانها أو معناها التقليدي. ولذلك، فإن ممارسة التحويل في مسرح الصورة تعد أقرب الممارسات في الفعالية السيميائية، لكون السيميائيين يركزون في نظرياتهم على أهمية الخطاب الذي لا تأخذ فيه الأشكال والأشياء دلالات الواقع الاعتبارية، فهم يرفضون أفعال المحاكاة الطبيعية كلها على الخشبة، لأنها تؤطر حركة الدوال داخل العلامة الكبرى وحجمها، وتوحي بعلاقة مطابقة تفتقر لخاصية المسرح العلاماتية في التوليد الدلالي."
وهكذا، فمسرح الصورة مسرح مفتوح متعدد الدلالات، وقابل لكل الاحتمالات والتأويلات الممكنة.
5- تعدد الوظائف: تتخذ المفردات والأشياء والأيقونات والصور في مسرح صلاح القصب دلالات وظيفية متعددة ومتنوعة، أي يتم تشغيل كل مفردة أيقونية بصيغ متعددة وبوظائف متنوعة حسب السياقات الدرامية والميزانسينية. ويعني هذا أن حضور كل مفردة صورية وبصرية على خشبة العرض المسرحي تتخذ وظائف بنيوية وسيميائية متعددة الدلالات حسب السياق والمقام.
6- النزعة الطقسية: تتسم الصورة المسرحية عند صلاح قصب بكونها صورة طقسية وأسطورية وحلمية وأثيرية:" الشكل في منظور مسرح الصورة هو المستودع(المخزون) الذي يفجر سرية النص، وهو العمق الفلسفي في تفسير المضمون. ولغة الفضاء هي المنطلق الذي يمثل جماليات مستوى الشكل في العرض، فالصور تستبدل شعر الحوار بشعر الفضاء، وجمالياته. إنها تعتمد على طقسية العرض المسرحي، لهذا فإن التشكيل الذي تعتمده وتوظفه هو سحر الطقوس والأساطير، والميثولوجيا، والرموز."
وهنا، يتأثر مسرح الصورة بشكل واضح بمسرح القسوة لدى أنطونان أرطو، ويتقاطع أيضا مع المسرح الثالث عند أوجينيو باربا، و يلتقي كذلك مع المسرح الاحتفالي عند عبد الكريم برشيد.
7- التحول: تقوم الصورة المسرحية على فلسفة التحول والتوليد الدلالي:"إن علامات العرض المسرحي تتمحور بمجموع أنظمتها الإرسالية لتضع في دالة الصورة المسرحية دالة رمزية قادرة على التحول والتوليد بما ينسجم وفعل دلالتها ضمن ظروف صناعة العرض التجريبية، إنه قانون جمالي جديد خاص بالاشتغال على مستوى التحويل أولا ومستوى التلقي ثانيا، قانون يعتمد حدود تجاوز التقليد إلى حدود الابتكار.
إن فلسفة التحويل في مسرح الصورة تعتمد على آلية اشتغال مبنية على المغايرة الدلالية بين بنية النص وأدلته، وبنية العرض وأدلته، فالتحول هو الاستخدام السحري، لا على أنه انعكاس لنص مكتوب ومجموعة القرائن المادية التي تنبعث من المكتوب، بل على أنه انعكاس ملتهب لكل ما يمكن أن نستخلصه من نتائج موضوعية في الحركة، والكلمة، والصوت، والضوء، والموسيقى، وتركيباتها."
ومن هنا، ففلسفة التحول قائمة على صهر التناقضات، وجمعها في بوتقة فنية وجمالية واحدة، مع الارتكان إلى الرؤية البصرية الحلمية والطقسية ، والتلاعب بالتشكيل الفضائي الرمزي في توليد الصور الدرامية وتنضيدها:" إن فلسفة التحول بلورت الشكل، واختزلت المتناقضات كافة، وجمعت العناصر ذات العلاقات المتباينة، وجعلت من الفضاء تشكيلا رمزيا، إنها فلسفة قائمة على تأويلات طقسية حلمية، فصور الحلم هي الوحدات التفجيرية التي تعطي الفضاء لغته المرئية الخالصة في صيغ بلاغية بصرية تعتمد التحول، والتوليد الدلالي، رؤوس، وأرجل، وأيد تعزف سمفونية القدر( أحزان مهرج السيرك)، ممثل يفترش الأرض، وآخر يتكور ليعلن بجسده عن لحظة الخلق الأولى ( قصة الخليقة البابلبة)، توابيت تتحرك على عجلات تحمل شخوصا ميتة حالمة تنطلق بحقيقة التناقض بين الموت والحياة، السلطة، والتشرد، والضياع ( الملك لير)، أكوام من الأشرطة المبعثرة تعلن عن ذكريات مهشمة للشخصيات ( العاصفة)، فضاء رملي غرست فيه شواهد للقبور ( الشقيقات الثلاث).
إنها صيغ من التحولات الأثيرية التي تبحث عن روح النص السرمدية الضائعة لتظهرها في فضاء تشكيلي تدمر فيه الكلمات وتنفى، فيؤسس خطاب التحولات لغة فضاء شاملة وظفت العناصر التشكيلية بالعمق، والارتفاع، والطول، والعرض، والزمن، وتحتياته أيضا، فامتلكت الخشبة بوصفها سطحا مساحة للتشكيل نحتت عليها الأجسام، فأصبحت قاعدة ينبثق منها معنى ودلالات العرض التكوينية."
ومن هنا، فمسرح الصورة ليس مسرح الثبات والسكون والصخب الحواري والثرثرة اللغوية، بل هو مسرح حركي صوري قائم على التحول والنفي والتجاوز.
8- الغموض: تتسم الصورة المسرحية عند صلاح القصب بغموض مفاهيمها ومعطياتها النظرية والتطبيقية، وارتكانها إلى شعرية سيميائية ترد في شكل رموز سيميائية وأيقونات علاماتية:" تبقى هذه العناصر البنائية المشكلة لبنية الصورة(ممثل، ومفردة، ومكان)، تشتغل على المستوى التركيبي والدلالي لتبحث عن الغامض المكتشف بالغموض، والساحر المؤثر بشعرية طقوسية، وبإمكانات اللغة المسرحية الشعرية الخالصة التي تفجر معانيها حقيقة الباطن المخفي في العلاقات. وبهذا، فإن الصورة بدعائمها الفلسفية والجمالية تفتح لكل عرض عالما مليئا بالأسرار علينا أن نسعى جاهدين لفك رموزها."
وهذا الغموض الفني والجمالي الناتج عن سيميائية العروض داخل الرؤية الصورية هو الذي يجعل الراصدين والنقاد على حد سواء لا يفهمون مسرحيات صلاح القصب في مجملها، ولا يدركونها بكل سهولة ويسر. وبالتالي، يتهمونه بفشل أعماله، وسقوطها في مطبة الغموض، وخلق فجوة وهوة واسعة بين العمل المسرحي والجمهور الحاضر.

استنتاج تركيبي:
وهكذا، نصل إلى أن مسرح الصورة عند المخرج العراقي صلاح القصب هو في الحقيقة ثورة على المسرح العربي الحواري واللغوي، ودعوة صريحة لتقويضه بشكل جذري، واستبداله بمسرح الصورة والحركة.
ومن ثم، فمسرح الصورة عند صلاح القصب مسرح سيميائي يشغل العلامات والرموز والإشارات والأيقونات والمفردات البصرية. وبالتالي، يستوجب هذا المسرح الطليعي الحداثي والتجريبي في الحقيقة متلقيا واعيا بفنون الفرجة المسرحية تأليفا وتمثيلا وإخراجا وتأثيثا ،ويستلزم أيضا متلقيا متمكنا بقواعد العرض الدرامي المعاصر، ومتفهما لكل اتجاهات المسرح العديدة والمتنوعة، ومستوعبا لجميع مناهجه النظرية والتطبيقية ، ومدركا لجميع تياراته الفنية والجمالية والإخراجية ، ويتطلب هذا المسرح الجديد كذلك راصدا سيميائيا مثقفا ومتنورا قادرا على تفكيك الصور المسرحية تقطيعا وتفتيتا وتشريحا، وبنائها من جديد تركيبا وتكوينا وتأليفا.

* مسرح الصورة بين التنظير والتطبيق

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى