أدب السجون بلال عودة - من ذاكرة السجن..

جدران وحواجز تفصل بين جانبين تُعلِّن عن انتهاء عالم وبداية عالم آخر، وكلٌّ في عالمِه. في الجانب الأول، كوكبٌ تعمُّه الحياة بكافة أشكالها، تأخذ الطبيعة حيَّزها وتمارس البشريَّة نشاطها، وعلى الجانب الآخر حياة مع وقف التفيذ بما تحمل من معاناةٍ وعزلٍ وحرمان. احتلت هذه الفكرة حيزا كبيراً من تفكيري، جدار يفصل بين عالمين مختلفين، أمتارٌ قليلةٌ تفصلني عن الحياة، نعم، إنَّها أمتار، وفي بعض الأحيان أقل من متر واحد. ولكن في الحقيقة، إنَّ المسافة التي تخلقها هذه الجدران هي مسافة شاسعة، وكلما طالت فترة وجودي خلف القضبان ازدادت المسافة بعداً.

رغم إدراكي لكل ذلك فإنَّ الزمن، أي زمن السجن، يضعني في حالة وكأنَّني نسيت كل ذلك، حتى في بعض الأحيان أشعر وكأنَّني وُلدِت في الأسر. فتبقى صورة مُتخيَّلة للحياة على أطلال ما كنت أعيش قبل الأسر. والخيال يتطور ويتراكم ليصبح أقوى من الحياة ذاتها.

ولأعود للحياة، قررت أن أحاول تدخين سيجارة في الهواء الطلق، وقد أنجح في ذلك أو أفشل، لكنها تبقى محاولة لكسر الجدران ولو لدقائق، فهذه الفكرة إن نجحت تُشكِّل لي تحدياً لتجاوز فكرة السجن القائمة على عزل وفصل الإنسان عن الحياة ومكوناتها.

في أوائل شهر آب تم نقلي من سجن النقب الصحراوي لإجراء فحص طبيّ، كان من المقرر إجراء الفحص منذ سنوات عِدّة في مشفى "برزيلاي" المُقام على أراضي مدينة عسقلان الساحليَّة، تمَّ نقلي بسيارة تشبه زنزانة متنقلة، انتقلت بنا من سجن بئر السبع وصولاً إلى المشفى، حاولت طوال الوقت الإحساس أو التعرُّف على مكان تواجدي، وذلك لعجزي عن المشاهدة بسبب صفائح الحديد التي تغطي الجهات الأربعة، وتحجب الرؤية في داخل الزنزانة المتنقلة.

توقَّفت الزنزانة، وبعد دقائق فتح السجَّانين الأربعة البابين الخلفيين للسيارة، ودعوني للنزول، ووجدت نفسي تحت السماء، ولأول مرّة أدوس الإسفلت، شعورٌ جميلٌ لأول مرة منذ أعوام طويلة، انقطع هذا الشعور عندما سحبني السجانين بشكل مباغت من الأصفاد المزدوجة المقيدة ليدي، وأدخلوني للمبنى المخصص للفحص الطبيّ، والأصفاد المقيدة لقدمي تنخر الأرض، فكانت دعوة لكل من تواجد بالمكان لمشاهدة دخولي وسيري بين عدد من الحرّاس المسلَّحين، فكان الصوت والمشهد ملفتاً للأنظار دون شك، وخصوصاً وأنا أرتدي الزي البني الخاص بالأسرى.

بعد انتهاء الفحص كان على السجّانين الانتقال لمبنى آخر لحجز موعد لي لإجراء العمليَّة الجراحيَّة، وبسبب بُعْد المسافة نُقلِت عبر الزنزانة المتحركة، وبمهارة السجانين وبسرعة خاطفة وجدت نفسي من جديد بين جدران الزنزانة الحديديّة. ما هي إلّا دقائق حتى توقَّفت الزنزانة، خلال هذه الفتره حاولت أن استخدم دهاء وخبرة سنوات السجن للتعامل مع السجّانين، لأحقق أمراً بسيطاً جداً بالنسبة لهم، ولكنَّه حلم كبير جداً بالنسبة لي، كنت أحاول أن أدخن سيجارة بالهواء الطلق، لأخرج من زنزانتي ولو لدقائق وأطل على الكوكب الآخر. فجاء الضابط المسؤول وقال لي ستبقى هنا لحين عودتي من حجز موعد العمليَّة، قلت له بأنّني منذ وقت طويل لم أُدخِّن وأريد أن أدخِّن سيجارة، كان رده بالرفض كما هو متوقَّع ودار جدال طويل بيننا تمكنت من خلاله انتزاع موافقته، وأبلغ السجانين الثلاثة بأنَّه سمح لي بتدخين سيجارة واحدة فقط. وبما أنَّ الزنزانة محكمة الإغلاق وصغيرة جداً، سيتم فتح الأبواب وإخراجي إلى الشارع لأدخِّن.

فُتِح الباب الأول والثاني وقال السجّان: أخرج. توترت قليلاً، لملمت ذاتي ونزلت درجات السيارة، هاجمتني الدنيا دفعة واحدة، شعرت وكأنَّني أخرج من عنق زجاجة. توقفت إلى جانب السيارة على الإسفلت للمرة الثانية بعد سبعة عشر عاماً، نظرت يساراً نحو موقف السيارات وأمامي وجدت مبنى ضخم، نظرت نحو الأعلى كانت شمس الظهيرة حارة وقاسية، تمكنت من رؤية السماء، شعرت بدوار شديد، تعب نظري لعدم قدرته على التعامل مع المسافات البعيدة، أخفضت رأسي وأخذت نفساً عميقاً وقلت: الدنيا واسعة ورحبة. تشعرك سنوات السجن ومساحاته الصغيرة بأنَّ الكوكب أصبح صغيراً جداً حد الإختناق. قطع دواري صوت السجّان وهو يشير بأصبعه نحو الغرب ويقول: أنظر لهذا الاتجاه، أدرت رأسي نحو الغرب، من شدة الصدمة أعدت رأسي مجدداً نحو الشرق، عاودت الكرة مجدداً، ثم أدرت جسدي وأدرت أصفادي رفيقتي في المرحلة، حبست أنفاسي، وفجأه صرخ صوت في أعماقي يقول: إنّه البحر، إنّه البحر يا إنسان. فعلاً على بعد أمتار أمام ناظري كان بحر عسقلان، لم أصدق ما تراه عيناي، فسألت السجان هل هذا البحر؟ فأجاب مستغرباً: نعم!

هذا أكثر ما كنت أحلم به، أردت هواءً طلقاً وسيجارة، ووجدت بحراً أمامي، من شدة الفرح هبط قلبي وشعرت أنّه فجأة قفز من مكانه، واقشعر بدني لهذا المشهد الرهيب والهائل، إنَّه البحر اللامتناهي طولاً وعرضاً أمامي. أخذت نفساً عميقاً من هواء البحر، شعرت بسلام وهدوء لم أشعر به منذ سنوات. الشمس تسقط على رأسي، أتلذذ بحرارتها، هواء البحر يداعب وجهي، ورائحته أعادتني إلى سنوات خلت، فلم أعد أرى سوى البحر ولم أعد أسمع سوى صوت أمواجه. أخذت نفساً عميقاً من سيجارتي بعد أن أشعلتها، تطاير الدخان مع نسيم البحر، وأخذني معه إلى اللامكان، ركبت أمواج البحر وصلت بيتي والتقيت بأحب الناس إلى قلبي، تذكرت الأحبّاء والأصدقاء، شدني البحر نحو أعماق الذاكرة، نحو طفولتي وشبابي، ذكرني بالأماكن والأزِّقة، وبكل من كانوا معي وكنت معهم. حلمت بالمستقبل المُنتظر، تخيَّلت لقاء الوطن، لقاء الأحبَّة والأماكن، تعطَّشت لرؤية الأعزاء والتعرف على وجوه أسمع عنها ولم أتمكن من لقاءها، شعرت بالحاجة لاحتضان الكون.

انتابني قلق ورهبة مفاجئة، عدت الى أمواج البحر مجدداً مُثقلاً على سيجارتي وجاء سؤال البحر مجدداً: أين أنت من كل هذه السنوات أيها الإنسان؟ والدمعة في عيني، إنَّها سبعة عشر عاماً، نعم كل هذه السنوات أيها البحر والرحلة لم تنتهِ بعد.

لقد جئتني يا بحر مباغتاً، لم أتوقع أن أصلك أو تصلني في هذا الوقت وهذا الحال. وعلى كل حال هذه الصدفه ذكرتني بوجودك ووجود كل الأشياء التي أُرغمت على نسيانها، هذه الصدفه ذكرتني أنَّ الهواء هواء وأنَّ الحياة ما زالت حياة. أنت يا بحر أكدَّت لي مجدداً قول الشاعر محمود درويش على هذه الأرض ما يستحق الحياة، هذه الأرض أم البدايات وأم النهايات، كانت تسمى فلسطين وصارت تسمى فلسطين.

جاء حديث السجان قاطعاً تأملي، لقد أنتهت السيجارة، هيا اصعد إلى السيارة، كم تمنيت ألا تنتهي السيجارة، حاولت التأمل في مكاني، لكن إصراره وضعني مجدداً داخل الزنزانة، في ثوان عدت إلى عالم ليس لنا، عالم السجن والجدران، آلمتني جداً تلك الألواح الحديديَّة التي تفصل بين العالمين، وقد تذكرت الأديب الراحل غسان كنفاني في روايته رجال في الشمس حين قال: لماذا لم تدقوا جدران الخزان. وانتابني إحباط وضيق وإذ بالبحر يناديني مودعاً، لاتحزن اللقاء أمسى قريباً، فمهما طال الجزر سيأتي المد، فجزرنا مؤقت ومدنا باق أيها العربي.

تحركت الزنزانة نحو الشرق، ووجدت نفسي أغني على إيقاع الأصفاد وهي تعانق بعضها البعض...

هدي يا بحر هدي طولنا في غيبتنا...ودي سلامي ودي للأرض اللي ربتنا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى