عبد الرحيم التدلاوي - فطام

تلبس جلبابها البني على عجل واضعة طرحتها ذات اللون الغامق على رأسها كما اتفق، تريد إخفاء شعرها الكثيف والفاحم عن الأعين الجاحظة، تمسك بيدي، تجرني خلفها كما خروف العيد الأرعن، تسير بي إلى محل النجارة بحينا، تودعني لدى "لمعلم" المشهور ببراعته في مجال النجارة وصنع التحف؛ محله شبيه بمحرار، وكانه شكل بهذه الطريقة لقياس ضغط فقرنا البين، وارتفاع درجة حرارة غضبي قبل الانفجار حتى يتخذ التدابير الوقائية؛ يعاملني بحنية لا أحظى بمثلها من لدن أبي...
تعالي أمي، وانظري بنفسك إلى أبناء حيي، هاهم يخرجون من منازلهم؛ ركزي على وجوههم، ألا ترين البشر قد علاها؟ ألا ترين علامات الفرح بادية عليهم؟ هاهم يلعبون ويمرحون.
لماذا تحرمينني من الخروج للعب معهم؟
طبعا، لأنك ستودعينني لدى معلم، لا لأتقن الحرفة، بل لتتخلصي مني.
أبدا، بل لأحميك من رذاذ الشارع الملوث!
لا، لست وديعة غالية الثمن، تودع في البنك!
بل أنت أثمن، لذا، من واجبي الحفاظ عليك طاهرا، فالخارج عفن.
صدقت، فالمحل الذي أودعتني فيه كان أكثر عفونة، وما حنيته إلا قناع يخفي لؤما...لم أخبرك، لأنك لا تتركين لي فرصة التعبير. كرهتني في العطل، لم أعد أطيقها، أفضل عليها الدراسة رغم مرارتها، على الأقل هي أهون الضررين.

لم تترك لي أمي فرصة حلم، فوأدت رغباتي في أعماق نفسي كما يدفن شخص حيا بعد أن يكبل ويثقل بالأحجار، ويلقى به في اليم.
رفعت أصبعها الآمر في وجهي، غدا ستلتحق بورشة النجارة القريبة منا. أمر واجب التنفيذ. إذا صدر فلا مراجعة ولا تأخير. ارتبكت، غضبت، وفي الأخير، وككل مرة، رضخت...
وفي حلمي لم أر الطيور تحلق في زرقة السماء، لم أسمع تغريد أمواج البحر، لم أمسك بالرمال أبني قصور أحلامي. فالعناكب نسجت خيوطها على خيالي، واستدعت الغربان ليجثموا على صدري إلى أن تنفس الصبح، فتنفست بصعوبة، وأزحت الغطاء عني لأستنشق هواء يجدد خلاياي، وينعشني قليلا، وأنا أدرك أن أمي ستأتي باكرا لتحثني على تنفيذ الذهاب.
ما أقساها!
أحيانا أشك في أمومتها، أشك في اهتزاز قلبها؛ قلبها لا ينبض حبا لنا، أظنها تكرهنا أشد الكره، لا لأن أبي يضربها، بل لأنه شبه غائب، لا يهتم بما تفعله بنا. مرات يلقي على مسامعنا كلمات كحبات دوليبران، تسكن غضبنا إلى حين، تمنحنا قليلا من القوة لمواصلة الصبر.
ألا تدركين، يا أمي! أني سأنفذ للمعلم طلباته، سأكون سخرة، لن يعلمني، بل سيأمرني بجلب الماء، وحمل الأخشاب إلى ورشة التقطيع وجلبها بعد أن تأخذ الشكل المطلوب.. يفرض علي أن أكون خادما طيعا له، أستجيب لرغباته؛ وهي كثيرة وغريبة...
أمي!
ها ظهرك قد تقوس، وابيضت تلك الشعيرات المتبقية على رأسك الصخري، وها أنت تتمسكين بي كما يتمسك الغريق بقشة، بعد أن غادر أبي مسرح الحياة، وانفض من حولك الأبناء، وبقيت إلى جوارك؛ لأني لم أستطع فراقك؛ فقد سحبت مني قراراتي، وصيرتني رجلا فارغ العزم، جبانا، تراودني أفكار، وأرى الفقيه يحمل عصا الرضا ليهش بها عليها؛ فالجنة تحت أقدام الأمهات.
يا ويلي من تلك الأقدام، لقد داست على أحلامي، وصيرتها بساطا أحمر...

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى