سلوى الرفاعي - أهديك صيفاً آخر.. قصة قصيرة

أهديك صيفاً آخر، صيفاً واحداً فقط. تفرست في عتمةِ عينيه مروعة من الضجيج. ثمة طائر أزرق صفق الأفقَ بجناحيه. لو كانت الأمور أكثر شفافية لتحدثا عن الطائر والمدى. في الأعماق ابتلعت سمكة كبيرة قافلة أسماك صغيره. رائحة صيف نفاذه تلتصق بالزجاج المغبش.‏

"أتنفس مثل جبل" استرسلت مع الفكرة. لم تكن مهتمة بالرجل الذي أهدته صيفاً آخر وهو محملق في الفراغ. رأسها مثل ضباب بدأ يتبدد. بدايات النهاية، فكرت.. نظرت إليه عبر الضباب، في الهواء رائحة واخزة، رائحة خيانة ما. ربما لم تحدث واقعياً، لكنها غزت خاطره ولو لوهله، وإلا لماذا تشقق جلد وجهه؟ لماذا نبرات صوته ثقيلة وظالمة.‏

ـ حمقاء وغبيه! انظري في المرآة، عيناك مطفأتان. تذكرت لقاءاتهما الأولى على سرير المرض حين كانت تراه رجلاً قادماً من بلاد النار، حاملاً في عينيه سرير الشهوه، بكت على كتفيه وانتابتها الرغبة أن تستلقي على ذلك السرير العالي الجاف عارية من كل الأقنعة، حين داهمها السؤال فجأة: لماذا أنت مستعجل أبداً، تود أن تلتهم الحياة التهاماً؟ تلك اللحظة كان المنظر يبدو سخيفاً. امرأة نصف عارية تثرثر وطبيب يدلك يدها المعطوبة ولا يفلح في جعلها تسترخي، ثم فجأة وبانحراف صغير يحدثه بإبهامه يجعلها تصمت وتسترخي تماماً، ثم يطبع قبلة خاطفة. عندها فقط ارتسم على وجهها سؤال الحيرة الذي سيلازمها طيلة حياتها.‏

حاولت أن تخاطبه بلغة الزهور مرة، وبخبث راقبته كيف يتعامل مع المسألة. اكتشفت حياديته تماماً، ولم تلحظ انبهاراً في عينيه لأجل باقة أمضَت ساعاتٍ تنسقها بيدٍ واحدة.‏

واجهته بقسوة، قالت له: أنت تحب تدمير أشياء صغيرة حلوة لدى الآخرين، في لحظة عابرة، هل تعرف أي ألم ينتاب المرء أن يكون ابن لحظة عابرة تمضي وهو يتمنى أن تدوم؟‏

تبتسم! أحاولت مرة معرفة سر الطبيعة والبشر كطفل بلا خبرة؟ كتلك الزهرة التي نمت على طرف قلبي مرة تنتظر قطرة ندى فقتلتها السيول الجارفة؟‏

ـ ما رأيكِ أن تتحللي مني حتى لو ارتكبتِ المعصية الكبرى‏

كلامكَ يشبه الرماد.. لو قليل من المطر.‏

أحست بالشلل، عادت إلى فكرتها "أتنفس مثل جبل". تذكرت قصصاً عن أناس صادقوا جبالاً، بل هي نفسها صادقت مرة جبلاً. أصغت إلى همهمات بطنه، وشمت فيه روائح بشر. نامت في طيات مغاوره، سمعته ينوح ويبكي، تجرأت أن تدخل أحلامه. كانت أحلام رجال يحنون إلى موائد طعام حولها زوجات وأطفال، يتمنون حيوات هانئه وسهرات حول كانون شتوي، وأباريق شاي. في الصباح أيقظتها مواويل وعَتابات تستقبل خيوط الشمس الضئيلة. قيل لها فيما بعد إن في بطن الجبل معسكر اعتقال، لكنها أبت أن تصدق واحتفظت للجبل بذاكرة خاصة.‏

رددت: أتنفس مثل جبل. أنا حبلى بأوجاع الكلام.‏

استسخف الفكرة وابتسم هازئاً، ملاحِظاً الهالات الزرقاء المنزرعه حول عينيها.‏

ـ "تفقدين تألقك". لم تهتم بموضوع التألق، لكنها ودت أن تخبره أنها تحب تلك الصفرة الخفيفة التي صبغت سحنته نتيجة الإعياء. واعترفت لنفسها أنها تفضل الرجل ذا الملامح المتعبة.‏

كيف تبدأ النهايات؟ أهي كالزلازل وانكسارات الصخور تفاجئك بغتة؟ أم كالبراكين يسبقها الدخان؟ أم هي موت يتسلل صامتاً يختلس منك أنفاس الحياة ثم يختفي؟‏

فكرت: إن النهايات أصعب من البدايات رغم أنها واقعياً أكثر سهولة لأنها حتمية.‏

قال لها: أنذرك!! هذه فرصتك الأخيرة معي...‏

أحبت أن تفلسف الأمور، سألته لماذا لا نختصر هذه الحرب؟ أم ينبغي علينا أن نموت إنما بكرامة كما تفعل الجيوش الغبية؟ الخاسر محدد سلفاً، لكن لا بد من المعركة. والمضحك أن الرابح هو من يصر عليها كي يستمتع بلذة الانتصار.‏

هناك بلاهة ما تسيطر على المائدة. طلب لها أفخر الطعام مضغت الطعام كمن يلوك جلد ميت.‏

ـ لم لا تأكل؟ أجبر نفسه على تناول لقمة لم يبتلعها. ودت لو تطيح بكل الأطباق. مطت قطة رمادية رقبتها من النافذة فضربتها بالملعقة على رأسها بلا شفقه، ثم تابعت أكلها بكل رصانه بالملعقة نفسها.‏

تمنت لو أنهما يأكلان الآن أقراص الفلافل في الشارع كما كانا يفعلان سابقاً. لو تمتطي واحداً من قوارب السباق تلك فينقلب على رأسه ويبتلعها حوت.‏

قال لها: أصبحت امرأة مشوشة. زمنك مرتبك.‏

نظرت إليه طفلاً عمدته مرة بماء عينيها. كان كالصيف يلوح تارة ثم يختفي.‏

أدارت ظهرها للأمواج. أوغلت في صمت جبال بكر. احتمت بسكونها لئلا ترتمي في الضجيج. على يمينها مدينة: ضجيج فناء. على يسارها بحر: ضجيج أبدية. اختارت قمة نائية. تتمعن في الوقت. يعبرها الضوء فترده من القطب إلى القطب. تتفحص جسدها خلية فنبضة، وزفراتها، لا تذرف الدموع. تنظر إلى السماء بعينين جامدتين. تفرك التراب براحتها. تستحضر كل الأرواح التي عرفتها ولو لمرة ولو لخاطرة ولو لمنام. لن تصرخ، لأنها فقدت صوتها الذي كان علامة موائمة للعشق، الرياح تعول بدلاً منه. تصغي لنبض الحجر. ترفض ضياء قمر خجول. سترسله إلى البشر المنشغلين بالصيد فهم يحتاجونه لينسكب مرايا على صفحات الماء. باحثين عن الأوهام الصغيرة. ستكتشف على تلك القمة بساطة الأشياء في ألوانها الترابية. مازالت تبتسم! أشم رائحة اهتراء. رائحة تقول لي أن بوابة النجوم ليست سوى رحلة في ضباب محطات الانتظار وطرقات السفر، ليست سوى قلق سخيف، صداع وعمى، تقود إليها خطوات مرتبكة في بحث غير مجدٍ بين أوراق صفراء وأشرطة موسيقى ورنين أقداح... سأترك هذه الأطباق من أجل القطط.‏

السكون يلف كل شيء. قطع ثلج ذائبة تسقط عن إفريز نافذه أو غصن شجره، ثم يعود الهدوء. واجهتها مرآتها المتجمدة. قالت للمرأة التي أطلت عبر الزجاج: مع كل هذا الموت الأبيض لا شيء يمنع إضافة موت آخر. موت تافه وحقير كالذي حصل في قلبي.‏

حملت جثثاً صغيرة لألوان قوس قزح، لأمواج البحر، لذاكرة ترمدت. وارتهم صدر المرآة قبل أن تحولها شظايا. توجهت إلى زاوية الغرفة. جثت أمام قبر أزرق لرجل تعمد مرة بماء عينيها، قرأت عليه ثواني يومها. رسمت على شاهدته أحلامها. كاشفته بوجل بما خطر وبما لم يخطر على بالها. تناسلت من رحمها آلاف النساء يحطنه بالعطف والغناء. ضمته إلى صدرها تسبِّح في ملكوته. حضوره اللامرئي يملأ عليها المكان. روحها تتحول إلى زبد. تتكئ على صدره ثم تغفو.‏

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى