منيرة الفاضل - ثمة نداءات.. قصة قصيرة

يبدو أمر العائلة عصيّا، فهي نائية وقريبة في آن. كلما تمعّنا في حيثياتها تراءى لنا تقلّب شأنها ووجوهها العديدة المنغمسة في التصلب حينا، وفي ارتخاء لا مبال حينا آخر. يصعب علينا نحن الذاهبين في سلاسة السؤال، تقصّي الجذور الشائكة التي انعقدت وتقاطعت والتوت بعضها على البعض، ومن ثم ضربت بنهاياتها إلى باطن التربة وظلت منغرسة هناك تفيء بظلالها الأزلية.

نتراوح في أماكننا، في الجهات التي رأفت بها أقدار سخية وتركتها في حيادية أجساد بشفافية الضوء. لا أحد يستقرئ رواحنا ومجيئنا، غير ما يشفع لنا من التفاتات تعبق بدخان مبخرة الخالة مردودة، وحنوّها على وحدة تجتبينا، وغير صدح متعالٍ لخفق قلب أنيس يؤنس رفقتنا له. نعبر الحواجز الوقتية داخلين في ترصد وقائع هي في الكشف عن دلالات لوقائع أخرى تتلقفنا في تقافزنا كالمتاهة، فاتحة سرب من الأنفاق تراود ذهولنا وارتباكنا حيال ما يتفاقم أمام أعيننا من أحداث ويوميات تدوّن خلسة، وضوضاء أجهزة يعجُّ بها المكان، وأحاديث مطولة تلوك في أحاديث مطولة، وصيحات وحضور لأفراد هم في وشم الدم وانقياده لحرف يطبع بالمفخرة لقب العائلة.

نجتهد في فهم انقساماتهم وتشرذمهم الذي يكابدونه لأسابيع متتالية، مستنزفين الصدّ واللوم وتجاهلا يجترُّ في أناة ما قد طواه زمن مفعم في قدمه. يتأهبون في الذكرى، فينبشون جراحات قد تآكلت لصور باهتة تحتفي بعمر يتمرغ في حفنة تراب تنحدر ذراته لتجسّ في عجل ثواني هي كالشهب تحرق ما تمسّ. صاخب ردعهم لبعضهم البعض، صاخب هدوؤهم. كيف للعائلة أن ُتتخم بكل هذا اللغط؟ نسائل أنفسنا في استراحة الظهيرة تحت شجرة الجوافة التي تتوسط ساحة البيت، في هذا النَفس الحار الذي ينفرون منه إلى غرفهم المنتعشة بتبريد أجهزة مغلفة بالطنين. نتماهى في صلابة الجذع وغصونه المزدهية بالأريج المتشكل ثمرات تتأرجح كالأيقونات في البذل.

في هذا المكان وبعد أن تميل الشمس بوجهها قليلا نحو الأفق، ستجتمع النسوة في لقائهن اليومي، محتفيات بأنوثتهن وستنحسر عباءاتهن الحريرية لتتفرس الأعين، كل في مقتنيات الأخرى. ستفرد بعضهن الأذرع والسيقان الموشاة بخطوط الحناء في منحنيات وتعرجات كاشفة الجهد الفريد. سيحتسين الشاي المنعنع، ويتبادلن أطباق الحلوى والكعك المعرّشة بفواكه استوائية، تجلبها بواخر ضخمة من أماكن قصّية، وستتفرد كل واحدة بحكاية تصوغ فيها اختبارات المخيلة، عن اغتصاب أطفال وغلمان، عن رجال يترملون ونساء يحتضرن بأمراض تتآكل فيها أجسادهن النضرة. حكايات تتهافت وتتعاقب مأخوذة بالشهقة الوجلة المتربصة، وسوف تتفّ كل واحدة في محيط ثديها بسملة تقيها من عواقب دهر لا يؤمن له. ثم في لحظة سنشهد ارتجاج أجسادهن البضّة في هزل الضحك على نكت نابيّة يتبادلنها وشعور مُبطّن بالمعرفة يكتنف صدورهن. لحظتها ستبدأ كل واحدة في الهمس والتندر عن أمور مخدعها، عن عقاقير وعطور ذات نفحة أسطورية تلهب قلب الرجل وأعضاءه جاعلة منه ميزانا لقياس شبق وحشيّ يُربك كيمياءه ويُسقطه في مغبّة انتصاب لا يتبعه ركود. مجد الذكورة كما تنوء به الصورة المستوحدة لعضلات مفتولة، وجهاز يجأر بسطوة الترويض. تقهقه نساء العائلة، متباهيات بيسير المعرفة، يتحدثن عن الشوق وعن ملمس الجلد في خدر التناوب على ما يستفيض من بهجة، مفتونات بذخيرتهن من تأوه وتلعثم يسيل ويتمادى في مزيج التصاق ليليّ يجاهدن أن يبقى مخفيا عن العيون الصغيرة لأطفال تكتظّ بهم غرف نومهن بمراياها المستطيلة المتعددة.

نستمع إلى عبث حكاياتهن المزدهية بلوعة الضجر وهن يجبن الأرصفة بدكاكينها المرصوصة في المساءات التي تهمد فيها عقيرتهن ويتجولن في ضوضاء أسواق تتزاحم فيها الأقدام والعيون والأيادي. يتحسسن الأقمشة بأناملهن الذاهبة في بريق الذهب محوّطا اللدن من خنصر وشاهد، يتعمّدن الغنج في السؤال والمساومة واستباحة اللحظة لطرفة عين، لكلمة تتلقفها الأذن أو قصاصة ورق تهبها ريح مفاجئة في ملمس كتف لكتف. وما أن تخطو أقدامهن عتبة البيت، حتى تتناثر أسرارهن في دهاليز وزوايا الغرف المتعددة.

هل رأيتِ ما فعل؟

تقول إحداهن لأخرى

هل شاهدتِ ابتسامته؟

تقول الأخرى لأخرى.

ثم تتطلع كل واحدة فيما وهبتها له الصدفة من أرقام هواتف، وعبارات حب رخيصة، ومواعيد وأحلام هي في اقتناص الوقت في حرارة صيف ملول يتباطأ تقويمه ليمتد شهورا، تاركا الفصول الأخرى في سحابة التذكر. تلهو نساء العائلة بوهم الحب وهن ينتظرن أزواجا تحبل بهم الحانات والملاهي بدخانها وموسيقاها الصاخبة. يتقصين الوهج في أجسادهن عبر أسلاك تلفونية، تدخلهن في مناظرة الجسد حيث الأقنعة العديدة وأحابيل مخيلة سئمة تراود نفسها وتفتعل اللذة.

كل هذه الوحدة البائسة في الليالي القصيّة لنساء تكتظّ بهن البيوت الصامتة في جزيرتنا الصغيرة. نمسح على أهدابهن حين يعلو النشيج وتتعب إحداهن من الانتظار. نتربع خفية بين الزمن الذاهب والشوق الذي يعتمل في صدورهن، لئلا يشعرن بفجوة ما يُسرق من وعود ولهفة، فيما الوخز يتكاثر حتى يعيينا.

كنا قد حاولنا الدخول في تلوّن المشاعر البشرية وتحوّلها، فماطلنا أنفسنا فيما وُهب لنا من إدراك حتى غشيتنا ضبابية سرى معها خدر غريب إلى حواسنا باعد بيننا وتركنا منفلتين في كنف عدمية بدت لنا أزلية. لكنّا ظللنا غير قادرين أن نتبين اللهب الذي ظل أفراد العائلة يتراشقون به، أو ذاك الذي يعتمل في قلب أحدهم يأسا، حارقا كيانه عضواً عضواً. كيف للعائلة أن تمتلك كل هذا البأس؟ نسائل أنفسنا في الفترات التي يُتاح لنا فيها جمع شتات ممزق لأقارب وأبناء هوت بينهم هاوية المكابرة، فاستبطنوا لوعة مميتة تجوب خراب مقاربتهم لبعضهم البعض، وتمنحهم قسوة ضالة تؤلب الحنوّ فيستحيل شراسة في الفتك.

تتشابك السنوات في تعسف حناجرهم وهم يجأرون بسلالة تمتد عقودا، مخلفة آثارها مطبوعة في أحجار تناثرت على مدى صحراوي جفّت عروق منابعه وظل شريدا تحت سماء ساهمة. يتباعدون ويتقاربون، يتلبّسون الحكمة حينا ويدخلون في هوج الطغيان حينا آخر.

أما نحن فنتخذ من عتبات الأبواب وحواف الجدران مقاعد لنا، عاقدين الخيوط بين فضاء تتبرج فيه نجوم فسفورية وفيّض من محيط للعائلة تتنامى فيه قلوب ثملة وأحداق نارية وضحك فاجر. تتداخل الوجوه والأسماء ويبدو جليا تهكم الزمن منا حين تتراءى لنا أطيافنا مأسورة برصدنا هي الأخرى، وترانا نُسرف في تحصين الحرف من مباغتات تحلّ علينا كأسراب الطيور في سراب الرحيل. لهذا نعرف الهلع عن مقربة بشكله البلوري، حين يتفشى صقيعه في الخواطر التي نعمل على صدها من أذهان أفراد العائلة. الشكوك الصغيرة، والمناورات الفاجعة والاستكانة المستحيلة التي يهجع فيها قلب لقلب آخر هو في الذهاب، تاركا وميض سويعات يتهجد فيها اللسان، فتات للصارخ من غدر وطعن. نستفيض في السلوى، مهدهدين الرفقة المتشظّية، ناشرين جسورنا بين فجوات تذهل في تكاثرها الجهد المرير لنساء ورجال العائلة المتحلقين حول بعضهم، المنصرفين إلى ذواتهم في لقاءات أسبوعية هي في إستجداء اللقاء.

عصيٌّ كل هذا الولاء، عصيٌّ كل هذا الحب للعائلة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى