رحيم زاير الغانم - جمالية الصورة الشعرية في شعر الدكتور سعد ياسين يوسف مجموعة ( الأشجارُ لا تغادرُ أعشاشَها) اختيارا

مقدمة في ماهية الصورة:
إنَّ الأشياءَ في الطبيعة لها صورة تتأكد حقيقتها من خلال عين الناظر, فتصوير شيء متحقق في الطبيعة, يعدُّ تصويرا لشيء محسوس وكل محسوس متعين, فالأشياء مغمسة بواقعية المشهد الحقيقي الثابت, كما أنَّ الصورةَ تتحلى بماهية ثابتة لا يمكننا تغييرها أو التلاعب في طبيعتها, أو شكلها الذي صنعت منه, لكن يمكننا محاكاة صورة الطبيعة, وهذا ما ذهب إليه (أفلاطون) فعدَّ, ( كل شيء في الوجود, من أية ناحية ينظر إليه, لابد أن يفترض وجود صورة له, وهذه الصورة هي الماهية الثابتة)* فيمكن لفرشاة الرسام أن تحاكي شكلاً ما في هذا الوجود من خلال رسم محسوس كالبحر مثلاً فتصوره لنا تصويراً تجريدياً كأن تأخذ حركة موج هائج, أو رسم شراع لسفينة غائرة في وسط البحر في ترميز للنأي, فهكذا صور تجريدية تفجر في داخلنا أحاسيساً وانفعالاتٍ تَمكَّنَ الرسام من تصوير حقيقة الأشياء/ الموجودات, تضعنا تحت وطأة ذات التأثر النفسي المعاش لحظة محاكاته للطبيعة, وقد نقرأ للشاعر (امرؤ القيس) بيته الشعري الشهير, ( إلى عرق الثرى وشجت عروقي/ وهذا الموت يسلبني شبابي), وما فيه من تصوير لحقيقة العلاقة بين الإنسان والأرض وما تربطهما من وشائج , كوشيجة الحياة والموت و وشيجة العدم والانبعاث, نجد الشاعرَ قد نقل إلينا صورة لمعنى التواصل فيما بعد الموت لقوله, ( إلى عرق الثرى وشجت عروقي), فعروقي وعرق الثرى, في تواشج, وان كان هذا التواشج قد سبقته مقدمات, فالعروق نابتة/ براعم, وأن لم تبرز بشكل محسوس/ متعين, لكنَّ صورته ارتسمت في ذهن الشاعر مع كون هذا التواشج غير محسوس/غير متعين في الطبيعة, لكنَّه حقق رؤية لما فيه من علامة للانبعاث والتجدد, فالموت لا يشكل نهاية هنا, بل أنَّ العروقَ تتواشج وتنتج حياة سفلية جديدة , نلمح من خلالها رفضاً ضمنياً للموت, لقوله( وهذا الموت يسلبني شبابي),في إشارة لمتعين محسوس, فسلب الشباب له مقدماته الجلية, كالإحساس بالضعف والنهاية المبكرة, في رسم صورة الموت بلغة مشحونة بالعاطفة والتمسك بالبقاء, خوفا من مجهول قادم, وهذا ما رآه (سي دي لويس)إذ عدَّ الصورة (هي رسم قوامه الكلمات المشحونة بالإحساس والعاطفة)*, كلُّ ما ذكرناه في هذه المقدمة يعدُّ منطلقا لمحاور تأتي تباعاً عبر متن وخلاصة, نعاين من خلالهما المجموعة الشعرية ( الأشجار لا تغادر أعشاشها )* للشاعر سعد ياسين يوسف.

المتن:
*الصورة الشعرية المحسوسة:

إنَّ الصورة الشعرية, تحاكي موجودات الطبيعة, باعتبارها شيء متعين, وهذا المتعين له صورة في خيال الشاعر, فصورة الطبيعة هي التي تشحذ خيال الشاعر لتجعله توَّاقا لتشكيل صوره الشعرية, مستعيناً بالخيال في خلق تصور عن الطبيعة عبر محاكاتها, فالإنسان والطبيعة في تعالق دائم, لا يمكن لهما الفكاك من بعضهما بل أنهما في محايثة متجددة ما تنفك تنتج صوراً تحملُ معنى الجمال, فرضها الواقع المتعين,فبحسب (ريتشاردز) ( ينبغي أن تتقن الجوهر, جوهر الطبيعة, الذي يفترض وجود رباط بين الطبيعة في أبهى معانيها ونفس الإنسان)*, فالرباط بين الطبيعة و الإنسان رباط جمالي.

(الأبوابُ ...
شموعٌ مطفأة
لا يُشعلُها الا ذاك البرقُ...
مرورُك بِحقُولي الواجمةِ
تتوسلُ...
بابَ سماءِ الغيمةِ ) ص26

من خلال فحص النص الشعري تتجلى صورة الطبيعة, في تجريد لها, البرق/ الحقول / باب السماء, في تماهٍ مع انزياح المحسوس/ الأبواب, من خلال تشبيهها بالشموع المطفأة التي عدَّت بؤرة تمركز لتشكل الصورة, وليستمر التصوير باستنهاض معنى الاشتعال عبر البرق, (مرورُك بِحقُولي الواجمةِ), فالاشتعال يأتي برجاء مرور الحبيبة في حقوله المجدبة المتيبسة, أستنزف طراوتها الهجر والصدود, ولشدة ظمأ الحقول/ الحبيب, صارت تتوسل باب سماء الغيمة, علّها تأتي بالغيث المنشود, فالإنسان والطبيعة في محايثة دائمة, فكلما احتدمت عليه الخطوب توسل برقها مُشكلاً علامة إضرام نار المشاعر التي بهت لهيبها.

(يلوكُ ملامحَ وجههِ
سنواتُك العجافُ
يأكلْنَ سنواتِك البكرَ
والأرضُ تأكل نهاراتِها
لتُنبتَ التَّحديقَ في ملحِ الجدارِ. ) ص67

إنَّ صورة القحط كما يصورها لنا الشاعر بسنوات عجاف, هي سنوات حاضرة في خياله, كونها سنوات, متعينة/ محسوسة/ منضبطة بتاريخ مُحدد, ليأخذنا الشاعر من خلالها بعيداً عبر خياله إلى السنوات البكر, (سنواتِك البكرَ), تلك التي لاكتها السنوات العجاف, ملامح الوجه/ المحسوس المتعين لديه, والأكل/ القضم/ الموت, يمتد إلى الطبيعة التي تحاكي لوك السنوات, فالأرض تأكل نهاراتها, ان الزمن/ السنوات, والطبيعة/ الأرض, شكّلا صورة لمعنى قضم الحياة/ الطفولة/ الشباب, وما صورة التحديق في ملح الجدار, إلا علامة للتحجر ونهاية الحياة, فالجدار لا يعد مكاناً مناسباً للإنبات, وما علامة ملحه إلا إيذانا بموت قادم.

* فاعلية الأثر النفسي في توليد الصورة الشعرية:
الصورة كما أسلفنا تتولد عن ضغوطات نفسية, تفجرها, وهذا لا يعني بالضرورة, إنَّ الشاعر مسلوب الفكر والاختيار, كما يعتقد (ابن سينا) في توصيفه للأثر النفسي في تشكيل الصورة, فهي لديه, ( تنبسط عن أمور وتنقبض عن أمور من غير رؤية وفكر واختيار, وبالجملة تنفعل له انفعالاً نفسانياً غير فكري)* ولو سلّمنا لاعتقاد (ابن سينا), لأصبحت الصورة مجرد هذيانات أو مجرد انفعالات تذهب بذهاب المؤثر النفسي, فلم نجدْ مسوغاً حقيقياً لتجريد الصورة من رؤى وفكر واختيار الشاعر؟, فالنص نسيج, قوامة اللغة, وما يبث من خلالها رؤى وأفكار متباعدة, وافق بينها خيال الشاعر المتوقد.

(بنوكَ العاشقون
التَحفوا الثِّلوجَ
كأنَّ على رؤوسهم
طيرَ الجنونِ
والوالغون تبسَّموا دمكَ الصَّبَ
فلا عشرٌ أتين ولا...........) ص69

الصور كامنة في خيال الشاعر, وهي في تعالق دائم مع رؤاه وأفكاره المحملة بحمولات الواقع, الذي يلقي بضلاله هو الآخر على تشكيل الصورة, فالمؤثر الداخلي والخارجي حاضر في النص, متوجاً بلغة استعارية, تحافظ على نسيج النص, من خلال انسجام المكونات, فالصور تتشكّل حين يطرأ واقع مرير يترك أثره النفسي الضاغط, لتترجم صوراً شعرية عبر خياله الأخاذ, فالقنوط واليأس جاءا هنا مدعاة لالتحاف العاشقين للثلوج, هاربين من الدفء/ المعشوقة, لشدة هول التأثير النفسي السلبي الذي يعانون منه, فهم في جنون دائم مادام الوالغون مستمرين في تبسم دمهم الصبَّ, ليشكّل (التّبسم) هنا علامة الاضطهاد في انحراف اللفظة عن الدلالة , وإحداث مفارقة في تشظي معناها دلالياً, وما دام المستقبل لا يشي بجديد, يفك أسرَ التحافهم هذا, نجد الشاعر يبثَّ رؤى وأفكار تمَّ سوقها عبر لغة استعارية بأسلوب رومانتيكي, في خلق عوالم من نسج خياله, في ردة فعل عن واقع مؤلم معاش, لا يمكن الفكاك من قيده, فطيرُ الجنون محلقا على رؤوس سنيِّهم الأولى, أو يحلق على رؤوس قادم الزمن الجديد, (فلا عشرٌ أتين ولا...........), فصار لزامٌ عليه المكوث في هذه العوالم المتخيلة, لانعدام الجدوى من عيش الواقع.

(تستحضرُ عينَ طفولتِك
وجهكَ في مرآةِ الدفءِ
قمصاناً ترقصُ,
وسطَ فضاءِ الغرفةِ...) ص32

الأفكار والرؤى تتجدد, لكن الواقع بما يحمل من تأثير نفسي سلبي, باقٍ على حاله, لبقاء الواقع المعاش, وتداعياته على نفسية الشاعر, لذا لا غرابة في استحضار صورة الطفولة , التي تعدُّ من عوالم الشاعر, على الرغم من كونها مرحلة عمرية مُعاشه,تسربلت أيامها من بين يديه وغارت ملامحها الدقيقة, ليخلق لنا صورة تجريدية عن ذلك العالم, إنَّ (المرآة) هنا لا تعكس صورة لوجه طفل بقدر استحضارها لصورة الطفولة, صورة ذلك الدفء القديم, الذي افتقده في لجَّة صقيعٍ مفرط, استنزفَ دفئه, لقد استعار خيال الشاعر عن صورة وجوه أخوته بصورة قمصانهم المتراقصة وسط فضاء الغرفة المغلق, في محاكاة لصورة موجوداتها, ان ملاح وجوه الإخوة غارت هي الأخرى مع عالم الطفولة البريء, في تشكيل لصورة تجريدية, مفعمة بالدلالة.

*جمالية الصورة الشعرية:
إنَّ جمالية الصورة الشعرية تعتمد على الخيال الذي يعدُّ المولد الحقيقي لتشكلها ضمن بناء نصي محكم, فالخيال: هو المحرك الرئيس للانفعالات النفسية, فالصورة قد تبدو رهينة ظروف قاسية, من شأنها تثوير الأحاسيس, إنَّ الضغوطات النفسية الهائلة التي يفجرها الخيال تسهم في تشكيل الصورة , وهذا ما أشار إليه (الفارابي), إذ يرى إنها ( تعتمد على التخيل الذي هو قوة محركة للانفعالات النفسية)*.

(تُصفرُ ريحُ الدمعةِ فيَّ
أطرقُ
أطرقُ
أطرقُ
والصوتُ بعيدٌ ) ص27

إنَّ الرسم الهندسي للنص الشعري وخيال الشاعر المتوهج أكسبا النص جمالية مضافة لجمالية الصورة, من خلال كشفه لبنية تكرار لفظة (الطرق) بتشكيل هندسي متوالي, ( أطرق, أطرق, أطرق), أسهم هذا التوالي في بناء صورة درامية لفعل (الطرق), تتوافق وتصوير الشاعر لصوت صفير ريح الدمعة, التي تشي بعمق التأثير النفسي, فمن خلال بنيتي الطرق والصفير تجلى لنا معنى تبادل الأدوار بين تلكما البنيتين/ الصوتين, في تعالق صوري جمالي, أفضى إلى أن الصوت البعيد, الذي شدَّنا إليه, يمكننا عده صورة تجريدية, محاكية للطبيعة.

(لا ترتدِ البحرَ ثانيةً, همستْ له الرمالُ
وهي ترطَّبُ خشونتَها
بموجِ البحرِ كلما امتدَّ إلى أطرافهِ
وحرّك من بقايا قميصِ السكونِ
كاشفاً صدرَهُ عن وشمِ النخيل) ص114

إنَّ تواصل الشاعر في نسج النص الشعري عبر تناسقية صورية في مقاربة للرؤى والأفكار التي تمَّ بثَّها, أحدثت بناءً تصاعدياً تصويرياً, قابله بعدٌ جماليٌ متصاعدٌ, فالصورة الشعرية ولِدَتْ من أنسنة الموجودات/الطبيعة, أضفت السمة البشرية عليها, وما همس الرمال إلا صورة لتناغم الطبيعة والإنسان, (لا ترتدِ البحرَ ثانيةً, همستْ له الرمالُ), فالبحر والساحل في عناق كلما علا المدُّ ليصل أطراف الساحل ليرطب خشونته, عندها نجد السكون يغلف الساحل, في تصوير للوجوم الذي علا الموجودات, عندها يُعيد البحرُ الكرَّةَ ثانية ليؤكد دوره في الطبيعة, كونه القوة الفاعلة التي حركت المدَّ, وهو نفس القوة التي تحرك بقايا قميص السكون, كاشفاً لصدره عن وشم النخيل, هذا التصوير الجمالي المتقن للمسكوت عنه/ الجزر, فصورة الجزر تكشف لنا خبايا الطبيعة التي أتى عليها المدِّ.

* استهداف المتلقي:
نجدُ الشاعرَ يستهدفُ المتلقي من خلال تصويره للأشياء ليترك أثراً نفسياً ينتج عنه تفاعلاً مع التجربة الشعرية, فالصورة ضمن منظومة النص لا تخرج عن نسجه ولا تتقاطع مع اللغة التي كُتب فيها, فالنص الشعري يكتب بأسلوب تنضوي تحته عناصر متنوعة, وان تنافرت هذه العناصر أو تقاطعت فأنها, لا تتشظى فهي ماكثة ضمن سياق نصي يُمكّنُها من تأدية المعنى الذي أريد لها, وهذا ما ذهب إليه (جابر عصفور) في تحديده للخيال اصطلاحاً, فهو (يتجلى في القدرة على إيجاد التناغم والتوافق بين العناصر المتباعدة والمتنافرة داخل التجربة)*

(أحلامُنا الوئيدةُ
تلك التي قتلتها المداراتُ,
الشوارعُ المحتقنةُ ,
وجومُ الجدرانِ,
سكاكينُ الانتظارِ,
السفنُ العائدةُ بجثث انتصاراتنا) ص12

يستهدف الشاعر المتلقي في تصويره للأشياء, لذا يسعى إلى إتقان الصورة جمالياً في محاولة لاستقطابه, من خلال محاكاة همه اليومي فيبث صوراً للواقع المعاش, فصورة الأحلام الوئيدة القابعة في خيال الشاعر, هي نفس الصور المتراكمة في ذهن المتلقي, وكذلك صورة القتل, واحتقان الشوارع, وصولاً إلى, ( السفن العائدة بجثث انتصاراتنا), التي تعد نقطة تمركز استهداف مشاعر المتلقي , لذا تعد الصورة عنصر جذب, وأنَّ طرح الحقيقة على الرغم من مرارتها يمكن للمتلقي تقبلها , في تصاعد لحمى المحاكاة للصورة الشعرية, فالصورة عنصر فاعل في تنامي النص الشعري, لما تتمتع به من حركية تصويرية تسهم في شحذ انتباه المتلقي إليها, لذا تعدُّ من أقرب عناصر النص الشعري للمتلقي, و سرٌّ من أسرار النص الباذخ بالخيال, ( فالجاحظ) يعدَّ الشعر ( صناعة), والشعر على ذلك يخضع لموهبة الشاعر التي بمقدورها التحكم بخيوط اللعبة, فمرة يناور بالحقيقة ومرة يعتمد في مناورته على جمالية الصورة.

(لا تحزنْ
علَّ سوسنة نبتتْ هذا الصباح
على كفِّ طفلةٍ قُطِفتْ
بشظايا الزمن السَّارقِ,
ضوء الطفولةِ ) ص63

نلمح تطور الصورة الدائم كما الأسلوب, فالشاعر مازال متحكماً في ضبط إيقاع النص جمالياً, لقد أشاع الشاعر في النص صورة اللامبالاة عما يدور حوله في مواجهة مع الذات, مستهدفاً المتلقي من خلالها, في دعوة للتفاؤل أرادها هنا لكسر جمود الحزن راجياً أن تنبتْ سوسنةٌ في صباحه هذا, في إشارة ضمنية لبارقة أمل, في مواجهة البؤس الذي يكتنف النفوس, إنَّ الشاعرَ متقن لأصول اللعبة, لذا لم يجارِ المتلقي للنهاية, فصورة السوسنة التي قد نبتتْ على كف طفلة سيسرق الزمن ضوءها, في علامة لانطفاء الطفولة.

*دور الخيال في إدهاش المتلقي:

يستعين الشاعر بالخيال في تصوير ما يعانيه من مكابدة وألم, عندها تتفجر أحاسيسه ليصور لنا ما اعتراه بلغة استعارية يحرص على توظيفها بأسلوب بلاغي يجد طريقه لدهشة المتلقي تارة ولإمتاعه تارة أخرى, هذا ما سعى إليه ( الرومانتيكيون), لكي يتقبل المتلقي أفكارهم ورؤاهم, مجسدين ثورتهم بقوة في الفنون البصرية, الموسيقى والأدب, وهي ردة فعل طبيعية لما عانوه من اللاجدوى التي أحاطهم بها ( الكلاسيكيون), تاركين أثراً نفسياً ضاغطاً عليهم وقتذاك, فاتجهوا إلى تأسيس حركتهم الفنية والأدبية والفكرية, من خلال تأكيدهم على قوة المشاعر والعاطفة والخيال الجامح الواسع باعتباره الباعث الحقيقي للتجارب الجمالية, فعمدوا إلى خلق عوالم من نسج خيالهم, للهروب من الواقع المادي, فاستعانوا بالصورة الشعرية من أجل الإبداع, ولتحررهم من هيمنة الثوابت العقلية في المدرسة الكلاسيكية, وبتوصيف عام نجد نصوص هذه مجموعة (الأشجارُ لا تغادرُ أعشاشَها), نصوص ذات مسحة رومانتيكية , بالنظر إلى المعطيات آنفة الذكر, وما سيستجد كشفه في فقرات لاحقة.

(ينتفضُ الظِلُّ
يُطلقُ موجَكَ...
ذاكرةُ الأعماقِ
أغنيةٌ للشاطئ
لغريقٍ...
في يده حفنة قشٍ...) ص43

لقد تمكن خيال الشاعر من رسم صورة للظلّ مغايرة للمألوف واحدث المفارقة التي من شأنها إدهاش المتلقي, إنَّ صورةَ انتفاض الظلِّ صورة لا تتكرر دائما, فالظلُّ/ المهمش, في سكون دائم, للحد الذي لا نتمكن من رصد تمدده, كيف بنا والشاعر يصور الظلَّ وهو يطلق الموج؟! , وما يمثله الموج من ذاكرة للأعماق, ويستمر بإطلاق العنان لخياله, فالأغاني التي تُنشد بعد هذه الانتفاضة لم تكنْ حكراً للشاطئ فحسب, بل (لغريق.../ في يده حفنة قش...), في رمزية لموت الأمل فينا, من خلال موت الطبيعة والإنسان, في إدهاش للمتلقي, الذي تابع الانتفاضة وترجى الأمل, لكنَّ المفارقة كانت حاضرة.

(الأشواكُ التي...
نبتتْ على هامتِكَ
أحنتْ رؤوسَها
لتوغلَ فيكَ
خناجرَ ظَمأ
وأنتَ تمنحُها جسدكَ
خُبزاً ) ص92

إنَّ جمالية الصورة الشعرية رهن بالخيال, والخيال محكوم بموهبة الشاعر في إضفاء عامل الدهشة عبر تصوير الأشياء/ الطبيعة, بالاعتماد على المفارقة/ المغايرة, في بناء الصورة, لا الاعتماد على الاسترسال في تصوير المألوف الذي يسهل على المتلقي كشف مجريات النص, قد يكون مدعاة لوقوع الشاعر بمحذور نفور المتلقي, فصورة الأشواك, التي تنبت على هامة الإنسان قد تحدث غرائبية تثير فضول المتلقي في تتبع مجريات النص, وقد يكتشف المتلقي وقوع الشاعر بمحذور الاسترسال, فالرؤوس تنحني لوجع الشوك لما يترتب عليه من استكانة وخضوع له, فالصورة توغل في استعارة وقع وخز الشوك بخناجر الظمأ, فالخناجر والأشواك, رمزا للظمأ والطعن في تعالق دلالي واضح, أنتج تشظي معنى صورة الأشواك, فهي تنبت على الهامات وتحني الرؤوس وتوغل خناجرا, حتى تأتي مفارقة منح الجسد المنهك خبزاً بعد معاناة وخز الشوك, وخناجر الظمأ, محققاً دهشة المتلقي, مصحوبة بتساؤله, أنبل هذا أم استسلام؟

الخلاصة:
للشعر العديد من المقومات فالوزن والقافية والموسيقى واللغة التي يمكن لها ان تستعين بالبلاغة كالاستعارة والتشبية, ناهيك عن أسلوب الشاعر, كلها تنتظم ضمن منظومة بناء النص الشعري, ولا تخرج عن سلطته, فالخروج هنا يعدُّ خرقاً لتناسق وانسجام عناصره, لكن يبقى للنص عِلله, فأرسطو يعتقد للشعر علتين هما: ( التشبيه والمحاكاة)*, فمحاكاة الطبيعة من خلال تصويرها يضفي على النص جمالية لا يمكننا أن نستشعرها من غير هذه العلّة الثانية/ علَّة المحاكاة, أيْ إنَّنا نحاكي الطبيعة من خلال رسم صورة شعرية للأشياء, لها أثرها النفسي, وفعلها الدلالي داخل منظومة النص, والمحاكاة تبرز هنا من خلال صورٍ استعارية, وظَّفتْ من أجل خدمة الصورة وإيصال معناها للمتلقي, بلغة بلاغية مُقتصَدَة, في اكتناز للمعنى المراد في خيال الشاعر, ومع ذلك لا نجد هاتين العلتين كافيتين, ما لم يستعينا بخيال متوثب لحظة الإبداع الشعري, وهذا بالضبط ما ذهب إليه الفارابي وابن سينا, فقد طورا النظرية الشعرية, إذ (ربطا بين الشعر والصورة باعتبارهما محاكاة وتخيلا)*, وبعد كل ما تقدم نجد للصورة وظيفة هامة وفاعلة في إظهار الحقيقة, فنحن لا نستطيع إدراك الحقيقة ما لم نتصورها, كي نمكن القارئ من تلقيها, لذا صار لزامٌ علينا أن نصور الأشياء على حقيقتها لنتمكن من إدخال هذا الشريك الفاعل/ المتلقي, في إدراك المعنى الجمالي للصورة, فالصورة تكشف عن حقيقة موجودات الطبيعة, عبر تأثيرها الكبير في خلق عالم من خيال الشاعر يحاكي مُخيلة المتلقي, فللمتلقي دور فاعل في إشهار النص وتداوله ليأخذ مجاله في الانتشار والسعة.


.......................
* أفلاطون, عبد الرحمن بدوي, دار القلم, بيروت-1979, ص149
*الصورة الشعرية, س دي لويس, دار الرشيد, ط1 بغداد- 1982, ص20
* الأشجار لا تغادر أعشاشها, سعد ياسين يوسف, ط1, الروسم,بغداد- 2016
* مبادئ النقد الأدبي, آ.أي. ريتشاردز, منشورات وزارة الثقافة, دمشق-2002, ص249
* فن الشعر من كتاب الشفاء-ابن سيناء-ضمن كتاب : فن الشعر أرسطو, , دار الثقافة, ط2, بيروت- 1973 ص161
* إحصاء العلوم, تحقيق وتعليق: عثمان أمين, مكتبة الأنجلو المصري, ط3, القاهرة-1968,ص83-84
* الصورة الفنية, جابر عصفور, المركز الثقافي العربي, الدار البيضاء, المغرب- ط3, 1992, ص13
* فن الشعر, حققه مع ترجمة حديثة: د. شكري عيّاد, دار الكتاب العربي, القاهرة-1967,ص37
* جماليات الصورة, ناظم عودة, التنوير, لبنان, بيروت, ط1-2013, ص34

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى