زهور بن السيد - موسم الكرز.. قصة قصيرة

وصل الفقيه إلى البلدة الصغيرة, أحاطه الأهالي باستقبال كبير وأقام أحد الوجهاء حفل عشاء على شرفه بحضور رجال البلدة.

الناس في القرى والمداشر يعتقدون أنهم يمارسون الحياة كالأنعام, وشهر رمضان هو الفرصة العظيمة للغفران والتقرب إلى الله, فيأتون بفقيه عارف بأمور الدين, يصلي بهم التراويح, ويقدم لهم الدروس, ويصحح لهم ما فسد في أخلاقهم وطباعهم..

أصرت فاطمة سعيد أن يكون لها يومها شأنها شأن السكان الذين يتناوبون طيلة هذا الشهر على إفطار الفقيه وإيوائه لليلة كاملة. لم لا لا تستضيفه هي كذلك وهو الشخص العفيف التقي العارف بحدود الله, والذي يأمل كل بيت أن تحل به بركات خطاه.

فاطمة سعيد أرملة عجوز تعيش وحيدة في بيتها الذي ورثته عن زوجها, بقيت بملامح جمال أخاذ, تنشق شفتيها باستمرار عن ابتسامة بمقاس محدد, دائما كنت أنظر بإعجاب شديد إلى أسنانها البيضاء اللامعة المتراصة والتي لم تفقدها السنين أي منها إلا سنة واحدة كسر منها جزء, تزيد ابتسامتها سحرا.

كانت تتردد على بيتنا باستمرار, تحب أفراد عائلتي وتقدرهم, أذكر أنها كلما جاءت إلينا تصر على تقبيل يد الكبير والصغير دون أن يلثم يدها أحد, يرحب بها أهلي ويفرحون بمجيئها, تشرب معنا الشاي وتمزح كثيرا مع والدي وعمي, ثم تغادر إلى بيتها أو إلى جيراننا والفرحة تشع من عينيها.

في الصغر كان يصل إلى أسماعنا الكثير من أحاديث جدتي وأمي والجارات حين يجتمعن, ومن بين ما سمعناه عن فاطمة سعيد أنها كانت السبب في الوحدة التي تعاني منها اليوم, حيث رفضت الإنجاب في شبابها كي لا تعيقها تربية الأبناء عن عيش الحياة.

هي امرأة بإصرار النمل على العمل, لا يمكن أن تلقي نظرك جهة الوادي الكبير ولا ترى فاطمة سعيد في حقلها تجمع العشب لبقرتها وجحشها, أوتلمحها كنقطة بعيدة تلتقط قطع الحطب التي جاء بها النهر في آخر فيضاناته, تجمعها كومة كومة, لتحملها في آخر اليوم على ظهرها, تدخرها لأيام تكون فيها البلدة موحشة ببرد قارس ورياح جافة ولا شيء سوى أرض قاحلة وسماء تُرفع إليها العيون اليائسة.

حل اليوم الذي تستضيف فيه فاطمة سعيد الفقيه في بيتها, وكانت تشعر باعتزاز من لم يتخلف عن الواجب, أعدت على شرفه أطعمة مختلفة, ورتبت غرفة الضيوف بفراش جديد كانت تخبئه لمثل هذا اليوم.

انتظر الفقيه بالمسجد حتى أذَّن وصلى بالناس, واصطحبه صبي إلى بيت المضيفة.

بعد صلاة المغرب في شهر رمضان يحتل الصمت والهدوء الأجواء الخارجية, الكل مأخوذ بقدسية الإفطار, فلا ترى إلا بيوتا متناثرة هنا وهناك, توشح السكون بأضواء خافتة تنبثق من نوافذها الصغيرة.

انكب الرجل على مائدة الإفطار, والمرأة واقفة على خدمته, تخصه بعبارات الترحيب من حين لآخر..

وفي الوقت الذي قامت لجمع الأواني وتحضير صينية الشاي قبل صلاة العشاء, تمدد هو ليستريح من كثرة ما حشا في كرشه, وطفق يحرك شيئا من تحت جلبابه, ويهم بإخراجه من جيبه وهو ينادي عليها بصوت الواثق من نفسه, حضرت بسرعة وهي تسأله:

ـ مولانا.. هل ينقصك شيء؟
ـ اقتربي.. فقد أحضرت لك الكرز

ولم يكن الموسم موسم الكرز

فلم تشعر إلا وهي تنهال عليه بضربات طائشة بحذائها, قام على إثرها مذعورا تتعثر قدماه في جلبابه الملتوي وفي لعناتها وكل ما حضر على لسانها من شتائم..

وفور سماع صراخ المرأة, امتلأ السكون بالخطوات واللعنات والوعيد ...
  • Like
التفاعلات: مصطفى معروفي

تعليقات

الفقيه اللي كنتساو بركاتو دخل الجمع ببلغتو...
كان يريد أن يطعم حبات الكرز فأطعمته هي من كرزها و على طريقتها الخاصة.
و أقول:
ليس كل ما يلمع ذهبا، و المسوح وحدها لا تصنع راهبا...
قصة قصيرة جميلة...
 
أعلى