مليكة نجيب - إكرام ميت دفنه - قصة

استسلم بين أحضان المنية.
وانبعث غضبه مما التقطه سمعه وروحه تحلق للاستقرار بدار البقاء. "إكرام الميت التعجيل بدفنه"، تناهت الدعوة بأصوات متعددة وعلى فترات متفرقة.
تعاظم غضبه بسبب الإلحاح بالإسراع في دفنه.
عاش قيد حياته متفائلا، يعشق رغد العيش ويتقاسم المحبة والأنس مع الآخرين. وحتى عندما ألم به المرض واعتلت سلامته، ولازمه السقم لا يبرحه إلا ليعاود الزيارة بعنف، تمكن بعد مهادنة غير متكافئة مع الاعتلال، من التعايش مع النوبات والآلام تهزه هزا وتغيبه غيابا، يخاله الأهل والأصدقاء موتا محققا، ولا يلبث أن يستعيد نزرا من عافيته، بصيص يحتمي بضوئه في عالم الأصحاء المعافين.
وبعد صراع مرير أصبح مألوفا مع فتيل عافية متخاذل، فاجأته العلة ذات نوبة على حين غرة، وكادت أن تعصف بالبقية من أجله في الحياة، وتملص من قبضة الموت، أخطأه قوس المنية الطائش، استفاق ليعي بجسده ممددا بين بعض الأصدقاء والجيران والأبناء والحفدة. وقد تعب معظمهم من الأخبار الكاذبة. فكل إخبار بموت الشيخ القادري تنتهي بنجاته، مما يفرحه ويقلق الآخرين، خاصة الورثة الذين صاروا يقيمون تكاليف التنقل والأكل والتغيب عن العمل، ولاحظوا أن مشاريعهم المبنية على مدخول الإرث أصبحت مؤجلة، وانتبه المسمى قيد حياته الشيخ القادري لذلك فصار يرد عند سؤاله عن أحواله: أنا بخير والحمد لله، لكن الورثة قلقين للتأخير. ولم يقلقهم الانتظار لوحدهم، فبعض أصدقائه أعدوا مرثية واقترحوا بناء معلمة باسمه من ماله الكثير، وهو بنجاته المتكررة أحبط مشاريعهم وسبب لهم في خسائر معنوية لا يتفهمها غيرهم.
هؤلاء وأولئك من انطلقوا يطلبون التعجيل بدفنه، كأنهم يخشون أن يعاود الإفلات من قبضة المنية، وجاء غضبه حنقا عليهم لأنه "ما بجرح ميت إيلام"، فليتركه المنتظرون يطمئن في وحدته العاتمة، ولينعموا بتركته، ليوزعوها ويقطعوها إربا إربا، سوف يثبتون رابط الدم مع الراحل، ولن يغفروا له مقاومته ومعركته مع الآلام فوق حلبة المرض. يذكرون بشاشته وتفاؤله، ويعلقون أنه عمر طويلا وتخلف عن موعد الرحيل كبقية أقرانه الذين غادروا العاجلة وهم يرفلون في ثوب الصحة والسلامة. واجتاز هو المحن الجسيمة دون استسلام.
يستمر طلب التعجيل بدفنه بعد أن هب بعض الفضوليين بإحضار متطلبات الغسيل والكفن، وتكلف الصديق الذي أعد المرثية بإعداد وثائق الدفن، سيستهل المرثية بملاحظة أن شخصية المرحوم كانت طيبة رحيمة، لذا لم يقابل أية صعوبة في إيجاد قبر على الطريق يطل على البحر، سيضيف بأنه رحمة الله عليه كان مثال الكرم والثقة والمحبة ولا شك أنه سيذكر رغبته في المعلمة التي تخلد ذكره، وسيقف طويلا على رصيف اللقاء الأخير وكيف أوصاه بإتمام ما كان يخوض فيه الراحل.
يتواصل التماس الدفن، والمرحوم لم يكن ليخاف من النهاية الحتمية إنما يؤلمه استفراد الورثة بممتلكات لم يتعبوا في تحصيلها، ألم أحدث مرارة بروحه المسافرة، ومفهوم المرارة هنا لا تقابل معنى الحلاوة ولكن ربما هو شعور بالضجر والقرف أو الكراهية. والعلم لله.
وشاع عن المرحوم، المسمى قيد حياته الشيخ القادري ورعه وتقشفه في العيش، آمن بمسلك الحياة العفيف والتقي، آمن أن تدجين إنسانية الكائن العاقل جعلته حيوانا هلوعا، جزوعا، منوعا، مرعبا سفاكا للنفس التي حرم الله قتلها إلا بالحق. كان حافظا للقرآن يتلو آياته بخشوع وشجي يرهب شياطين الجن والإنس ويبعدهم من مجلسه مدحورين.
تلا القرآن آناء الليل والنهار، واعتاد على تلحين آية "الكهف" كل يوم جمعة، وآيتي النور وياسين كل يوم. وتسلح مرارا بسورتي "الرجال قوامون على النساء" و "للذكر مثل حظ الأنثيين"، في تعامله مع زوجاته وأخواته وبناته، كان يشعر برضى وسكينة ويختم بأن الله سبحانه مطلع على الأنفس عالم بالنوايا وهو وكيل على العالمين ضامن لأرزاقهم.
تجنب المرحوم كل الموبقات، واعتبر التدخين خطرا مرافقا للكائنات، وصف المدخنين بأنهم إخوان الشياطين، وأنهم ندماء العلل والآفات. ودافع في بعض طلعاته التي كانت تتلو تتبعه للنشرات الإخبارية إلى أن التدخين بركة من قمقم الأبالسة يسخره ليعبث بجوانية الإنسان ويركبه ليلج أحشاءه ويتمكن منه. ولما كان بعض جلسائه ينتقد رأيه ويصفه بالتطرف، كان يرد مبتسما في أن التطرف هو أن يعطل الشخص منا فكره ويبقى متفرجا مداهنا حريصا كل الحرص على دوام امتيازاته التي يخال أن الآخرين لا يعلمون بها.
وعلى ذكر الآخرين، فمن أفكاره التي اعتبرها معارفه متطرفة هي قوله ودفاعه بأن قلوب الشر والسيئات تفرقوا بكل الأقطار والأمكنة والأزمنة، وأننا نخطئ عندما نحصر الشر في الآخر ونعتبر أنفسنا صالحين نزهاء تقاة أخيار. غالبا ما كان ينزع من أذنيه السماعتين التين كانتا تصلانه باللوحة الإلكترونية، ويتبعها بتحريك أرنبة أذنه، ويسوي جلسته بأن يغير موقع رجليه إذا كان مقرفصا على الأرض أو أنك تلاحظ تحريكه لقدميه إذا كان مستويا على كرسي من كراسيه الوثيرة، والتي يستلقي فوقها الآن جل الورثة الذين سارعوا لتفقد المخلفات.
يتابع الصديق في مرثيته للراحل، إن المرحوم الشيخ القادري دافع قيد حياته على نبذ الحياد، وكان يمضي جل جلساته مصحوبا بسماعتين بأذنيه واللوحة الإلكترونية بيديه وبعد مسح مواقع وتلقف أخبار وتبادل تغريدات، كان يبسمل ويحوقل ويعلق بصوت عال: "الأبالسة مبثوثة في كل مكان، بيننا وبينهم، معنا ومعهم، مع الحكام ومع المحكومين، مع الغالبين ومع المغلوبين... وعندما يكتشف أنه لوحده وأن الجمع انصرف عنه، يرد صوته إلى مغمده، ويطأ بأصبعه موقعا جديدا.
تغمده الله برحمته وأسكنه فسيح جناته.
وانتبه المعزوون بعد أن نفذت الدعوة إلى التعجيل بدفن الميت، إلى أن البيت أصبح أكثر نظاما وأنه تم التحكم في الوضعية، وأكرم الممول المشهور وفادة الحضور، وبدا تلذذهم بالطعام واضحا، وعلا وجوه الورثة تعبير عن الاطمئنان والدعة. وحده حارس السيارات ركن جسمه بمدخل القاعة، وأدار ظهره لجلسة الورثة الذين سخر معظمهم عيون هواتفهم الذكية لتوثيق ميلاد التملك. ولم تتمكن تلك العيون من رصد اللقمة الكبيرة التي زاحمت جنبات فم الحارس المنكمش وهو يمضغ في نفس الآن مفردات عسيرة الهضم، لم يفقه المراد منها... "الأبالسة بيننا وبينهم، معنا ومعهم...، وبلع بجهد اللقمة التي تدحرجت إلى الأحشاء مثقلة بمحاولة فهم طائشة.


.

تعليقات

ّّإكرام ميت دفنه ّ هي آخر ما سطرت القاصة مليكة نجيب، قبل ان تغادر الى دار البقاء بعد مصارعة مع المرض، يوم الثلاثاء 5 - 04 - 2016
تعازينا الصادقة لاسرتها الصغيرة ولاسرة الادباء واصدقاء الاديبة المغربية
 
محمد بشكار من تدوينة له على جداره

( رحم الله الأديبة المبدعة مليكة نجيب، التي ما فتئت تفاجئني بين إبداع و آخر بقصة جديدة مسبوقة دائماً بعبارات الود التي تغني بلطفها و أدبها عن كل أدب، و لست أعرف هل لحسن الصدف أو لسوئها أن تحمل آخر قصة بعثتها المرحومة لملحق " العلم الثقافي"، عنوانا مأثميا هو "إكرام الميت دفنه"، و كأنها تؤكد الفكرة الرائجة التي تقول إن إحساس الموت يسكن بحدسه أعماقنا بشهور قبل ملاقاة القدر المحتوم؛ كانت هذه القصة في بداية السنة الجديدة 2016، لذلك أرفقت مليكة قصتها برسالة محبة تخاطبني بالقلب التالي:

" سنة سعيدة بالصحة وطول العمر، رفقته قصة قصيرة للنشر، طبعا ان كانت تستحق ذلك،
مودتي وتقديري/مليكة نجيب".

أكرر الدعاء رحم الله الأديبة القاصة و عوضها في جنته بعالم أسمى و أرقى من دنيانا، ومع دعائي أنشر هذه القصة الصادرة بالملحق في شهر يناير 2016، و أنا موقن أن حياتها في الأدب المغربي ستبقى مديدة أطول ما بقيت ذاكرة مثقفينا بصحتها و لم يتلفها النسيان..!)
 
أعلى