سامي عبد العال - المجدُ للأرانب: إشارات الإغراء بين الثقافة العربية والإرهاب!!

وسط كرنفال القتل باسم الدّين تحت رايات الجهاد، وفي حمأة الدَّمار بمقولاته الفاضحة، يصعُب أحياناً كشف الواقع دون إيهام فنيٍّ. لقد غدا الجهادُ نوعاً من الاستربتيز(التعرِّي) الدَّمويّ(1)bloodily striptease إزاء مجتمعات أرهقتها الحياة برواسبها التَّاريخيَّة. وربَّما لو تمثلنا دلالة أيقونة الأرانب لتجنبنا مصيرًا يُحْدق بنا من بعيدٍ مثلما تُساق الحيوانات الوديعة إلى المذابح.

الذَّبح كان ومازال هو آلية الإرهاب الأعمى حتَّى التَّمثيل بالجثث الكئيبة. لعلَّ تراجيديا الخطاب الدّيني السّياسي المصاحب للقتل تستوجب ذلك، إذ هناك طقوس للكلام أثناء الذَّبح وهناك تلاوة الآيات وهناك التَّمثيل الجنائزيُّ وهناك الصّراع الرَّمزيُّ وراء العمليَّة ضرباً نحو التَّحارب التَّاريخيّ سواء أكان بين الشَّرق والغرب أم بين المؤمنين والكفَّار، مثلما لم يخلو الأمر من استعمال المواد الدّينيَّة بشكلٍ أسطوريّ لإيقاع الخوف والرُّعب.

ذلك التَّحليل له هدفان:

أولاً: رسم المشهد كاستعاراتٍ بلاغيَّة تغطي صور العالم عبر الفضائيات ووسائل التَّواصل؛ أي استعارات صراعيَّة يبقى مفعولها الدَّلاليُّ سارياً ويحمل إغواءه الميتافيزيقي الخاص.

ثانياً: معرفة آلية تفسير الصُّور لحركة الثَّقافة العربيَّة وإنتاج طرائق التَّفكير المغذيَّة للإرهاب. على الأقلّ لنعرف "حفريات التّأرْنُب" في الذّهن العربيّ منذ طغيان العنف وسريانه مع ثقافة التَّقليد والاتّباع. فالعلاقة بين العنف والتَّقليد علاقة تواطؤ تاريخيّ بين نصوص مهيمنة وعقول كسولةٍ عاجزة عن الإبداع، فما كان إلاَّ أنْ سِيْقّت الرُّؤوسُ إلى سكين التَّطرف الدّينيّ كأعْجاز نخلٍ خاوية، وفي أفضل الأحوال تصبح دهليزاً قديماً old vestibule للخرافات والخوارق.

إذن السؤال المنطقي: كيف أوجدت السّياسة في تراث العرب عقولاً أكلها الصدأ فأمست مرتّعاً لإرهاب أهوج؟!

سيمولاكر الثَّقافة

السيمولاكر simulacrum مهمٌّ فلسفيًّا برأي ميشل فوكو وجيل دولوز. ذلك وإنْ جاء – كما يدلُّ معناه- نسخة مقلّدةً بخلاف الأصل أو شيئاً تافهاً لا قيمة له، بحكم كونه منطويًا على التَّمثيل والمحاكاة والتَّحويل وإعادة الانتاج والتَّصوير. في النّهاية سيكشف الحالة العنيفة الممثلَّة، وسيُتيح أنماطاً بديلة تتداعى خلالها عناصر الثَّقافة وآفاقها السَّائدة، حيث ستأخذ البدائل مواقع الأشياء الحقيقيَّة.

فهذا جان بودريار يؤيد أنَّ السيمولاكر ليس هو ما يخفي الحقيقة بل الحقيقة هي ما تخفي أية حقائق سواها، وأنَّ السيمولاكر هو الحقيقي ذاته(2). ربَّما التَّخييل بوجود شيء غير أصليّ كان دوراً قديمًا للفنون، بوصفها لوناً من التّطهُر بالنَّسخ والتَّخييل والمسخ. لأنَّ الفنَّ يتلاعب بالأصل(دجما، أسطورة، أيديولوجيا، حقائق) وينال من مثاله كاشفاً هيمنته المشوهة. فحيثما تصعُب منازلة الأصل واقعياً يمثُل طيفًا خياليًّا لنشكلَّه كما نريد(3). وعند إخضاعه لأساليب فنيَّة نذيب تكلُّسَ عجزنا أمامه ونحطم أسواره بالإسقاط النَّفسيّ. والصُّورة المزيَّفة تطرح نفسها بصيغة اللاَّتحديد، لأنَّ عملها الأكثر أثرًا هذا التَّعرف على الأشياء كما لو كانت فعليَّة وهي ليست كذلك.

والثَّقافة هنا عبارة عن أبنية خياليَّة ليست الحقائق فيها بأكثر من وقائع افتراضيَّة. ونظرًا لعدم وضوح هذه الوقائع كان التَّركيز منصبًا على بدائل تملأ تلك المساحة. وأغلب الثَّقافة العربيَّة ينْجَّر نحو بدائل قد لا تكون ناجعة فعلاً. فينحرف مسارها نحو اعتبارات ماديَّة وغير قادرة على ابتكار الأساليب المتطوّرة للتَّفكير. ويغدو سيمولاكر الإنسان ناشطاً كما لو كان ممتلئاً بمعناه الحقيقيّ، بينما يبقى الإنسان في حالة تدنٍ. ويسهم الدّين والسّياسة والمعرفة في هذا الوضع المتقاطع بنصيبٍ وافر.

القضية إذن: نظرًا لإهمالنا الجانب العقليّ في تنمية الإنسان، غدت الأجيال العربيَّة أجيالاً وراء أخرى تعيش حالة الأرانب(4)، فكانت وقودًا مزدوجًا للإرهاب الدّينيّ والأنظمة المستبدَّة من عصر إلى آخر. ولتقريب المعنى ليس أمامي إلاَّ تصويره كلقطتين فنّيتين متداخلتين. فالأجيال متشابهةٌ قدر ما تقول، وملّونة قدر ما تزعم وقريبة الحجم الفكريّ بدرجة مذهلةٍ، لذلك تفتقد أبعادًا فكريَّة عميقةً وتعوزها رؤى مبتكرة للعالم والحياة. الأرانب تتشمَّم طعامها وتأكله بسرعة فائقة وتبقى مذعورةً طوال الوقت. فوق هذا لا أتصوّرها واعيةً بما ينتظرها. فلئن أدرك الأرنبُ ما ينتظره لكان هروبُه الخاطف أقرب الفرص. نفس الحالة تربويًّا أجهضت اختلافنا الثَّري وأغرقت المجتمع العربيَّ بركود ذهنيّ قاتلٍ دينيًّا ومعرفيًّا، حتَّى أصبحت ثقافتنا بنية إرهابيَّة عنيفة من الفكر الخالص إلى السُّلوك اليوميّ.

تمامًا كما هربنا من التَّاريخ ولم نستطع صنع ثقافة تنضو عنَّا تشابهًا أرنبيًّا. هنا لماذا نشير إلى “أرنبة الأنف” بوصفها ذروة الرشْح العربيّ بالشُّموخ؟! طبعًا لا تتَّضح علاقة المظهر الأرنبيّ بنزوع التَّفاخر إلاَّ إذا كانت الإشارةُ الحسيَّة الجسديَّة تتشكَّل ثقافيًّا(5). وتترك بقاياها للممارسة إذ تبهت إلى درجة الأسرار المُشفرَّة في ذاكرتنا. وبالتَّاريخ لا ندري كيف ينقلب الشُّموخ إلى عنف سياسيّ واجترار ثقافيّ. لربَّما يتَّضح ذلك إذا عرفنا كون الحالة تعكس لا وعيًّا دفينًّا بفقدان الحريَّة وإنْ بدا كبرياءً في مظهره. فحيثما لا يكون الشُّموخُ ذا أساس حرّ يهبط مؤشّره إلى الصفر القاتل. وتصبح ذهنيَّة الإنسان قنبلة معدَّة للانفجار، إذن كلمة " إشارات" بالعنوان الفرعيّ توضّح ظواهر تشكيل هذا المستوى المتشعب داخل ثقافتنا العربيَّة.

والتَّعلُّم من الأرانب ليس أمرًا نابيًا. ألم يتعلَّم قابيل مواراة جثَّة أخيه من غرابٍ: " يا ويلتي أعجزت أن أواري سوءة أخي". والعجز عجز ثقافي في بداية التَّكوين الأرضيّ للحياة، لأنّ الأرض، التُّراب، وطرائق الدَّفن وطقوس الموت كانت بذورًا أوليَّة للثَّقافة الدُّنيويَّة. وهي نفسها أساليب الزّراعة الَّتي تُطعم أفواهنا. لقد علمنا الغراب- في شخصنا الأدميّ- كما أننا نواري الحبوب في الرّمال، ينبغي أنْ ندفن موتانا تحت التراب.

وإذا كانت الزراعةُ تخرج حَبَّ الحصيد كذلك ستخرج الأرض موتاها كما تخرج السيقان من فجاج التربة. والنبي سليمان سمع حواراً بين نملةٍ وجماعتها فتبسم ضاحكاً من منطق التفكير " يأيها النمل أدخلوا مساكنكم لا يحطمنكم سليمان وجنوده". والنبي سليمان أيضاً قال – فيما يرويه خيالنا الشعبي عن الانبياء- " كلُّ خاطبٍ كذاب".

أصلُّ القصَّةِ أنَّه رأى عصفورًا يغازل عصفورةً محاولاً إيهامها بإتمام التَّزاوج. وحين شعر بتملصها منه، أشار- إغراءً- بأنَّهما سيكونان سعيدين وسيبني لها عُشًّا جميلاً في أعالي الصُّخور(6). فقال مقولته السَّابقة ليغدو الكذب آلية للإيهام الحالم بلغة المآرب. وبعد الثَّورات العربيَّة رأينا غزلاً سياسيًّا من هذا النَّوع بين أنواع الكتل السّياسيَّة وجموع الشَّعب العربيّ. ثمَّ انتهى إلى لا شيء، ذاب كما تذوب الثُّلوج، لتحْضُر المقولةُ السليمانيّة بخلفيتها الدَّلاليَّة. فازدواج المعنى بين" الخطابة والخطوبة" إلى حافة الاندلاق الرَّمزيّ يحيل من هذا إلى ذاك. نفس الإيقاع التَّواصليّ الزَّلق موجود في حياتنا السّياسيَّة والثَّقافيَّة بشكلٍّ أو بآخر.

هنا يمكن وضع معجم ثقافيّ للأرانب أخذ انتشاره في تضاعيف المجتمع العربي، حتَّى ندرك واقعًا عربيًّا يسلك نفس المسلك. اللَّفظة الرَّئيسة: التَّأرنب (سلوك يعبّر عن خنوع وامتثال للحالة السَّائدة). أرنوب(الإنسان موصوفًا في وضع الضُّعف وفقدان الإرادة). متأرنب (إدمان ثقافيٌّ للهروب من المسؤوليَّة والتَّفكير الحرّ). تأرنب (سلوك براجماتي له مظهر التّمسْكُن في مواقف عاصفة – التَّمسكُّن حتَّى التَّمكُّن). نقول جريا على المألوف آثرَ فلانٌ السَّلامةَ حتَّى تمرّ الظروفُ ومن خافَ سَلِم. والتَّأكيد يأتي من تعبير عام(علينا بالانحناء حتَّى تذهب العاصفة)، لكنَّه في السّياسة تلوين ماكر للمواقف.

بهذا المعجم القصير تصبح سلسلة الكائنات الأرنبيَّة بلا تمايز عادةً. إنَّها متّصل لحميّ تكسوها الفراء وتحدوها الأرجل القصيرة. أمَّا بمقدمة الجسم فهناك عيون مراوغة وزائغة. وليس صعبًا ملاحظة شعيرات مهتزّة تحت الأنف، كأنَّها قرون استشعار تستقبل ذبذبات الأخطار الطَّارئة. وعليها ستنخرط الأرانب في حركات رشيقة ومرنه للتَّخفي؛ أي جماليات الهروب من الواقع كما نقنع أنفسنا أحيانا بالانثناء السَّعيد أمام المشكلات العويصة.

دخلوا الشُّقوق

إذا اتَّفقنا على هذا سينقلنا عبد الرَّحمن الجبرتي (المؤرّخ المصريُّ) إلى مشهد سياسيّ يتعاطى سرياً مع الثَّقافة السَّائدة. مشهد هروب الأزهريين (رجال الدّين) جرَّاء قصف الحملة الفرنسيَّة. يصف الجبري: “ضرب الجنود الفرنسيون الجامع الأزهر، وجرَّرُوا عليه المدافع والقنبر، وكذلك ما جاوره من أماكن المحاربين، كسُوق الغورية والفحامين. فلَّما سقط عليهم ذلك ورأوه، ولم يكونوا عمرهم عاينوه، نادوا" يا سلام من هذه الآلام، يا خفي الألطاف نجنا ممَّا نخاف“. ثمَّ كان وصف الجبرتي مغموسًا بحبر الواقع… حينما رأى الأزهريون ذلك" هربوا من كلّ سوق ودخلوا في الشُّقوق"(7).

ربَّما لم يؤكد الجبرتي الصُّورة الاستعاريَّة الضَّامنة لثراء المشهد. لكنَّ اللُّغة كتبتها بدقَّة مع وصفه للحدث. هناك أنامل لطرف غير ظاهر يكتب مع ريشة الجبرتي. طرف اللُّغة بوصفها أُمًّا ثقافيًّا cultural mother لكلمات أرشيفيّة يستحيل غيابُها. وربَّما أسلوبه كمؤرّخ نقل الوقائع كما عايشها وسمع بها. لكن كان للكلمات رأيٌ آخر من جهة محتوى الدَّلالة على نطاقٍ أوسع. فحينما يختلط التَّاريخ بالتّجوال اليوميّ يصبح مطهيًّا عبر تربة المجتمع فتتَّصل ذرات الثَّقافة ببعضها البعض، لينقل الخطابُ التَّاريخيّ جوانبها عبر تداول الكلام العام الأكثر بوحًا. فلم يكن أمام ريشة الجبرتي سوى تلك الاستعارة: "استعارة الأرانب". ذلك لهول المعنى ( القصف) على الرَّائي من ناحيةٍ، ومن ناحيةٍ تالية لإيصال نبض الثَّقافة (الخوف وغياب الوعي) في المواقف الحرجة.

تحديدًا كانت تلك الاستعارة نافذةً على أكثر من مستوى.

1- الوصف هنا وصف فنّيٌّ حياتيٌّ، فهو يعبّر عن سلوك المفاجأة الحيَّة.

2- يدلّل بأكثر ممَّا يُبْطّن على حركة الذُّعر وإيقاع الفعل. وهي حركة حسيَّةٌ لم تكن واعية، وبهذا سمحت للثَّقافة أن ترْشَح بمكنونها المتراكم.

3- رسمت صورة أرنبيَّة بخفاء العبارة: هذا الهروب لجمع الأزهريين من كلّ سوق، ثمَّ الاختباء عبر الشُّقوق كما الأرانب، فما أن تُقتَّحم الحظيرةُ حتَّى تختبئ بالأنفاق والأواني في لمح البصر.

يأخذنا هذا الوضع إلى كيف تصنع ثقافتنا العربيَّة تلك " الأرانب المذعُورة" في محراب الدّين. لماذا تعاملت مع العقل كبطن قابل للامتلاء؟ الثَّقافة حاضنة لصناعة عقول محشوة بالخنوع والطَّاعة إلى كافة المجالات. هكذا اقتنصت الجماعات الارهابيةَّ الفرصة لتجز الرُّؤوس أو تستعملها في إشعال الفتن والقلاقل. وفي هذه القضية تحديدًا ليست هناك جماعة دينيَّة أقلُّ شأنًا من غيرها. وإذا كانت أيّة ثقافة تحتوي على جانبين ماديّ ورمزيّ، فصياغة استعارة الأرنب تجري في المجتمع العربيّ بكم المناهج لا بالكيف. الفكر الدّينيّ هاهنا لا يُتعلّم بمناهج وأساليب مبتكرة. لا يوجد منطق ناقد، ولا عقل قادر على الفهم والتَّحليل. فقط هناك حشو وتشجْير على بستان المعرفة الدّينيَّة المأثورة.

ليست طرائقُ كتابة الحواشي والتَّعليقات الجانبيَّة على متون النُّصوص الدّينيَّة سوى ظاهرة في تلك الاستعارة. فلطالما وجدنا نصوصًا فقهيَّة وعقيديَّة صغيرة الحجم بينما حواشيها المتناسلة لا تنتهي. ثمَّ يأتي الخَلَّف ليضعوا حواشي على السَلَّف. وعلى ذات الطَّريق يسير خلَّف الخلَّف توجُهاً إلى سلَّف السلَّف. وتمثّل الحواشي شحمًا دلاليًّا لإثراء النَّص من وجهة نظر صاحبها. لأنَّها من باب الدَّعم المعنويّ والتَّقريظ المطرَّز بآيات العرفان وجميل الشُّروح على الشُّروح. كما هي مواصفات جمال المرأة لدى الذَّوق العربيّ… وافرة الشَّحم واللَّحم!!

ولا يتَّضح إذا كانت عبارة الجبرتي واردة في باحة الأزهريين تخصيصًا أم هو مكر التَّاريخ كما يقول هيجل. الاحتمالان سيَّان فالأزهر خلال فترة الجبرتي كان معقلاً للشُّروح بعد الشُّروح حول المتون وتدبيج الحواشي على الحواشي إلى حدّ الموت الزؤام. كما أنَّ والده حسن الجبرتي كان أحدَ أعلام الأزهر ومدرسًا به إبَّان تلك الفترة من القرن الثَّامن عشر. عاب الجبرتي على الأزهريين” افتتانهم بالدُّنيا وعدم إخلاصهم للعلم وحرصهم على جمع الأموال واستخدامهم لكثير من الخدم والأعوان ومخاصماتهم الكثيرة“.

يكمل هذا المؤرّخ المشهد بامتداده هكذا: " ثمّ دخل الجنود إلى الجامع الأزهر وهم راكبون الخيول، وبينهم المشاة كالوعول، وتفرَّقوا بصحنه ومقصورته، وربطوا خيولهم بقبلته، وعاثوا بالأروقة والحارات وكسروا القناديل والسهارات، وهشَّموا خزائن الطَّلبة والمجاورين والكتبة ونهبوا ما وجدوه من المتاع والأواني والقصاع والودائع والمخبآت بالدَّواليب والخزانات، ودشتوا الكتب، والمصاحف على الأرض طرحوها وبأرجلهم ونعالهم داسوها، وأحدثوا فيها وتغوطوا وبالوا وتمخطوا وشربوا الشَّراب"(8).

التَّعبير الحربيّ هنا ليس تعبيرًا عاديًّا، لكنَّه استباحة لفضاء المعرفة الدّينيَّة (الأزهر) كما استباح شرَّاحُه وكتبته عقولاً غضَّة تتلقاها. فالأثر أنَّ التَّقليد والاتّباع لا ينتجان إلاَّ أُناسا هاربين مثلما انتهك الفرنسيون الفضاء الأزهريَّ نفسه. الفرار كان نتيجةً وليس مقدَّمةً على ما يبدو. فالكتب الدّينيَّة أشياء أُطيح بها بطريقةٍ موازيةٍ لإطاحة نمط التَّعليم الأزهريّ آنذاك بالعقل النَّاقد والابداع المنتج للمعارف. وحين يكتب مؤرّخ كالجبرتي بهذا التَّشفير الخطابيّ فمعنى ذلك أنَّ ثقافة التَّقليد تفرغ المجتمعات من حيويتها. حتَّى أضحت مجتمعاتنا قابلة للاستعمار(مجتمعات خارج التَّاريخ) فيدخل مستعمروها إلى أقدس مقدّساتها، بينما هم يكتفون بالاختباء النَّبيل. وتتَّسع الشُّقوق بحجم المذاهب والملل والنّحل، فكم رأينا تراثنا الاسلاميّ مليئًا بهذه الشُّقوق الَّتي تلتهم طاقة الفكر الخلاَّق مكرسةً الجهود لعمليات التَّكفير والتَّخندق والتَّقاتل.

أفواه وأرانب وإرهاب

وهذا ينقلنا إلى صورة طلاَّب المدارس الآن وهم يحملون كتبًا فوق ظهورهم جيئة وذهابًا. مناهج دراسيَّة ضخمة المحتوى دونما فرز، اعتمادًا على عقلٍ ممتلئ لا عقل مفكّر، رأس أرنبيٌّ كالوعاء لا رأس واعٍ. حتَّى أنَّنا كعربٍ من أكثر الشُّعوب اهتمامًا بالكمّ الدّراسيّ وأسوأ الشُّعوب عناية بمحتواها. نحن متفوّقون بلا فخرٍ هذه المرَّة على دول العالم المتقدّم كأوروبا وأمريكا ودول الكواكب الأخرى منذ ملايين السَّنوات!!

أمَّا ناتج المعرفة في المجتمع العربيّ فتماثل العقول المغلقة في مجالات الدّين والفكر والسّياسة. والعجيب(لا العادي) أنَّ هناك قوالب ثقافيَّة تتطابق لونيًّا بين البلدان العربيَّة الواحدة والأخرى. حتَّى في مسألة الحياة اليوميَّة يعتبر التَّشابه واضحًا في السُّلوكيات والمظاهر العامَّة. وهذا له معنيان:

أوَّلاً: التَّماثل تاريخيًّا آتٍ من تماثل التَّفكير والحالات المتوالية سياسيًّا وثقافيًّا. رأينا مجتمعات الرَّبيع العربيّ كأنَّها" أحجار الدومينو" المتراصة. إذا سقطت أحداها تهرع الأخرى تلقائيًّا للسُّقوط المُريح بالتَّتابع. وإيماءات المعجم تضمر تنكرًا دلاليًّا في مفردةdomino ، فهي تنقل إحالةً بين الأحجار كعناصر للعبة مشهورة وبين معانى الأقنعة الَّتي يرتديها المتنكرون أثناء الكرنفالات. وليست الثَّورات – كما أفهمنا الواقعُ العربيُّ إيّاها- سوى كرنفال شعبيّ للتَّعبير عن فوضى الجُموع الغفيرة.

ثانياً :ليست الحريَّة متأصّلة في ثقافتنا العربيَّة، دومًا كانت فعلاً هروبيًّا إنسحابيًّا لم تمس بعد الهويَّة النَّائمة كشهرزاد بألف ليلة وليلة في أعماق أنفسنا9. لا حريّة بدون فقأ أغطية الهويّة القابعة كأصداف براقة داخلنا بينما تؤسّس للعنف السري. هويَّتنا نوع من التَّسلية والحكيّ الأسطوريّ لوقائع خارقة لكنَّها تمنع ذكورة إحساسنا عن ممارسة النَّقد الذَّاتي. فلو كان ثمَّة انفتاح حقيقيٌّ لكنَّا تنوعنا إزاء طرائق التَّعبير عن السُّلوك السّياسيّ.

والتَّقليد استنفاد بمضمون انتحاريّ لنماذج مهترئة تجد انتشارها في خطابات الجماعات الارهابيَّة. وبفضل ما عايشناه من فترات سياسيَّة غارقة في القهر والعبوديَّة كان بارزًا إذا أردت أنْ تعذب عبدًا اعطه حريَّته. لا تسجنه، كفْ عن حصاره، إنَّما فقط دعه وشأنه، ثمَّ أنظر ماذا ترى؟ في هذا النّطاق كان أغلب الرَّبيع العربيّ فوضى قاتله، حالة أرانب حقيقيَّة، تختبئ وتتقافز وتناور وتتقاتل بين كرٍّ وفرّ. حتَّى بعد انتهاء الصّراع على الأرض انتقلت حالة الأرانب إلى البرلمانات ولجان الدَّساتير والأحزاب السّياسيَّة.

على صعيد السينما كان فيلم " أفواه وأرانب"(10) معبّرًا، والمغزى وراء عنوانه هو ظاهرة التَّناسل كغثيان اجتماعيّ، ظاهرةٌ تسبّب دوارًا لأرباب الأُسر وتلبُّكًا إداريًّا في بطن الدَّولة المصريَّة. فمن أين ستوفّر فرصًا لتعليم هؤلاء؟ ومن أين إتاحة ثقافة متنوّعة لهم؟ وكيف ستهيئ أمامهم صناعة المستقبل؟ أخذت الدراما السّينمائيَّة هذه الفكرة مصورةً غياب التَّنظيم الاجتماعيّ وشواش معنى الإنسان وسط ضجيج العدد، فأيّ عدد هو إحصاء حسابيٌّ يظهر النَّاس كتلة مشوهة. كتله حرجة من الأفواه تبدو مفتوحة دومًا، سواء أكان جُوعًا أم صراخًا. وسيبدو المجتمع كغابات من الرُّؤوس والسيقان والبطون ليس أبعد.

ثمَّة تعبير شعبيٌّ يلاصق أصحاب العدد المفرط من الأبناء:” كيف أنجبوا هؤلاء الأطفال مثل الأرانب“. بالوقت نفسه هو تعبير للتَّعجب والوصف. فالجنس والتَّناسل أفيون الأرانب كما هما أفيون المجتمعات الَّتي تُغيّب قيمةَ الإنسان. فليس أكثر قيمةً من الأطفال، هم مشروع المستقبل. أمَّا في حالة الأرانب لا نعرف -ولا أحد يحاول- من هو الطّفل السَّابق ومن اللاَّحق، ماذا يريد هذا وماذا سيفضل ذاك. الموضوع برمَّته أفواه وأصوات، ظاهرة القطيع البشريّ المهمل من أيّ تميُّز، كما أنَّهم في الأخير متشابهون. هكذا يُقال عنهم، فلماذا التفرقة بينهم تربويًّا في الطّباع والأحاسيس والكيان!!

وتلك إشارة إغراء التقطها رجال السّياسة. فتعاملت السّياسات العربيَّة مع المواطنين كأرانب على مذبح الدّولة. يُحتاج إليهم وقت إغراق الأرض بالحفر والكائنات الرَّخوة، مسبّبةً الفوضى الَّتي أسكنوها داخلهم. المواطنة حالات أرنوب في الكدح والجري وراء حياة كريمةٍ لن تأتي مثلما كانت ضائعة خلال الماضي. وهذا الإنسان الخانع الَّذي لا حول له ولا قوَّة إنْ ذهب النَّاس يمينًا كان أوَّل القافزين بينهم، وإنْ هموا لتغيير اتّجاههم كان أسبقهم ركضًا. ليس ذلك سوى نتيجة تشربه التَّام بسُم التَّسلط وثقافة القطيع. حتَّى في خياراته لم يدرك أنَّ له ذاتًا عاقلةً إنَّما له أرجل تمشي بتوجُّهات غيره. ولهذا كانت الأنظمة السّياسيَّة في العالم العربيّ أنظمة معمّرة زيادة عن صلاحيتها المنتهية في الحياة.

في التراث العربيّ كان هناك تواطؤ بين " التَّسْمين الثَّقافيّ" والذَّبح السّياسيّ بمبرّرات وفتاوى دينيَّة. ظهرت السُّلطة على يد الحجاج بن يوسف الثَّقفي معبّرة عن قطف الثّمار(الرّقاب). ربَّما كان الحجاج خبيرًا بالأرانب حينما قال” إنّي أرى رؤوسًا أينعت فحان قطافها“. هكذا جاء الحاكم العربيُّ، سلطانا، أميرًا، ملكًا، رئيسًا، بمرتبة خبير في لون نادر عالميًّا من التربية السياسيَّة، حتَّى شاع المثل الشَّعبيُّ" ناس تخاف ما تختشيش". فالجانب الأوّلى ثقافيًّا سيكون للحسّ، للغريزة إذا غاب العقل. بالتَّالي ستعدُّ وسيلة الردع عزفًا على نفس الوتر الحيّ. لو كان الحجَّاجُ يعلم أنَّ الرُّؤوس بها ثروة ذهنيَّة وخياليَّة ما كان ليقل العبارة، لكنَّه رآها رؤوسًا تصفر بريح الفراغ. ولم تعد تخرج إلاّ صوت الصَّفير الأجوف. واعتبرها بكلامه قد تعفنت فوق أكتافها، فجاء أوان القطف قبل أن تسقط.

هكذا أفرزت تلك الثَّقافة جماعات إرهابيَّة متشدّدة تمارس في المشهد الأخير ذبحًا سياسيًّا ودينيًّا. كلُّ تفجير تقوم به إنَّما هو سكين لأرنب هم صائدوه. النّكاية أنَّهم خريجو الحالة نفسها، ذات المدارس، ذات الجامعات العربيَّة ضحلة الفكر. لكن لِمَ تعتبر الحالة نكايةً؟ هم إثبات لها في نهاية الأمر. فإنْ لم يمارس الذَّابحون باسم الدّين أفعالهم الشَّنيعة دمويًّا لعرفوا وسيلة أخرى للتَّعبير العنيف. إنَّما إغراء أيقونات الأرنب جرت مع كلّ قنبلة، عبر كلّ قناع، ضمن كلّ اختطاف. باختصار هي مستقرَّة في أعماق الجماجم المتحرّكة بريموت كنترول الإرهاب الدّينيّ.

الهوامش:

1- " الاستربتيز الدموي" ظهر مع عمليات ذبح وقتل شهدتها جغرافيا الجماعات الارهابية مثل داعش والقاعدة وبوكوحرام وجبهة النصرة والجماعة الاسلامية المقاتلة … وغيرهم. وبدا التعري الدموي والتعري الجنسي متماثلين تبعاً للإغراء الذي يحققه مشهد الدماء والرغبة الدفية في إغواء الآخر وإنْ كانت بقصد قتله. فالرغبة واحدة في إفناء(قتل) الضحية أو اثارة غرائزه الحسية.

إن منظر الدماء عنف إرهابي فاضح بصيغة: أنا سأذبح ما تراه إنساناً منتمياً إليك كي أنتهك وجودّك وإنْ لم أكن لأصل إليك فإنَّ المذبوح جزء من حقيقتك، أنا سأعري جسدك دماً وسأقطع عنقك على الملأ في مشهد مثير وشبقي رغم كونه مقززاً. والتكشف الجنسي لا يختلف عن هذا الشيء، فالجسد يتعرى بماثلة بينية ترمي بدلالتها على أجساد الآخرين، ذلك لكون الرغبة واحدة(القتل والجنس) كما أنَّ الايهام والخيال يعملان عملهما في إسقاط الصور فوق أي موضوع مرغوب جنسياً فيعطيه بعداً متجلياً عبر الآخر. والرغبة مشتركة باتصال الأنا بالآخر، فهي لا توجد إلاَّ مع المغاير. ولذلك صدمة الذبح وفجاجته تساوي عمق الرغبة الحسية بوصفها رغبة وجود في المقام الأول، رغبة البقاء وحفظ الذات فما بالنا والجماعات الارهابية تهدد هذا البقاء وتسعى لاستئصاله؟! إنها تتلذذ بتقطيع الجثث أمام الانظار وتتشفى انتقاماً وكراهية بالسلخ والسحل والتعليق والبتر وجريان الدماء!!

وفي هذا- رغم بعد الموضوع نوعياً – تفسير لالتحاق بعض الشباب الأوروبي(أصحاب التربية الليبرالية المنفتحة) بجماعات إرهابية. ففي غريزة البقاء وغريزة الموت عنصر المغامرة، المتعة والانفتاح اللانهائي على المجهول. ألم يذهب سيّاح الحروب إلى صراعات العراق وسوريا وليبيا؟ لا لشيء إلاَّ لمتعة الأدرينالين الناتجة عن الرعب المغامر وسط الدمار والخوف من المجهول. بل تتماهى لديهم خطوط التمييز بين المتع الحسية وأفكار القتل والإحساس بالكوارث. فالإنسان رغم أساليب التقنيات الافتراضية مازال حيواناً غريزياً عتيداً يسفك الدماء يومياً.

2- Jean Baudrillard, Simulacra and Simulations, Translated by Paul Foss, Paul Patton and Philip Beitchman, (semiotexts) New York 1983

3- في التراث العربي هناك استعمال كليلة ودمنة رمزية الحيوانات في الكتابة الثمثيلية سياسياً واخلاقياً. حين يمثل الحيوان قيماً أو سلوكاً معيناً في إطار سيمولاكر ثقافي cultural simulacrum. وكان الاستعمال يستند إلى النقد تارةً وإلى الكشف للأفعال السياسية تارةً أخرى. كما يقول ابن المقفع كان الكتاب كلاماً” على ألسنة البهائم والسباع والطير، ليكون ظاهره لهواً للخواص والعوام وباطنه رياضة لعقول الخاصة. وضمنه ما يحتاج إليه الإنسان من سياسة نفسه وأهله وخاصته، وجميع ما يحتاج إليه من أمر دينه ودنياه وآخرته وأُولاه ويحضه على حسن طاعته للملوك ويجنبه ما تكون مجانبته خيراً له، ثم جعله باطناً وظاهراً كرسم سائر الكتب التي يرسم الحكمة: فصار الحيوان لهواً وما ينطق به حكمة وأدباً".

بيديا الفيلسوف الهندي، كتاب كليلة ودمنة، ترجمة عبدالله بن المقفع، المطبعة الأميرية ببولاق، القاهرة 1937. ص 39.

4- بحسب المعجم العربي تتلون كلمة الأرنب بمعانٍ كثيرة إنسانياً وحيوانياً ونباتياً حتى أضحت مادة معجمية متنوعة الدلالات. فهي تطلق على الذكر والأنثى وقيل الأرنب الأنثى والجُزَرُ الذكر والجمع أرانب. وتأتي معبرة عن صفة للأرض: أرض مؤرنبة كثيرة الأرانب. والأرنب نوع من الجرذان أشبه باليربوع . والأرنب أيضاً عشبة أشبه بالنَّصىَّ إلاَّ أنها أرق وأضعف وألين ولها إذا جفت سفى كلما حُرِّك تطاير فارتز في العيون والمناخر كما هو المعنى عند أبي حنيفة.

ابن منظور، لسان العرب، (مادة رنب)، الجزء الثاني، تحقيق نخبة من الأساتذة، دار المعارف القاهرة د.ت. ص ص 1742- 1743.

5- الأرنبة طرف الأنف، يُقال هم شم الأنوف. في حديث الخدري: فلقد رأيت على أنف رسول الله صلى الله عليه وسلم وأرنبته أثر الطين. وفي حديث وائل كان يسجد على جبهته وأرنبته (المرجع السابق، ص1743). ربما هذا الاشتقاق أقرب إلى التحول الثقافي منها إلى مدلول الكلمة مباشرةً. وكل ثقافة بها ذلك التحول العميق الذي يحدث نماذج فوق طبيعية بهذا المعطى.

6- قال الحافظ أبو بكر البيهقي: أنبأنا أبو عبدالله الحافظ، أنبأنا علي بن حشاد، حدثنا اسماعيل بن قتيبة، حدثنا علي بن قدامة، حدثنا أبو جعفر الأسواني، يعني محمد بن عبدالرحمن: عن أبي يعقوب العمى، حدثني أبو مالك، قال مر سليمان بن داود بعصفور يدور حول عصفورة فقال لأصحابه: أتدرون ما يقول؟ قالوا: وما يقول يا نبي الله؟ قال يخطبها إلى نفسه ويقول زوجيني أسكنك أي غرف دمشق شئت! قال سليمان عليه السلام: لأن غرف دمشق مبنية بالصخر لا يقدر أن يسكنها أحد، ولكن كل خاطب كذاب!

ابن كثير القرشي الدمشقي، قصص الأنبياء، تحقيق عبد الحي الفرماوي، دار الطباعة والنشر الإسلامية، القاهرة، الطبعة الخامسة 1997. ص 610.

7- عبد الرحمن الجبرتي، عجائب الآثار في التراجم والأخبار، الجزء الثالث،(طبعة بولاق)، تحقيق عبد الرحيم عبد الرحمن، دار الكتب المصرية، القاهرة 1998، ص 43.
8-المرجع السابق، ص 44.

9- يبدو أنَّ شهرزاد ليست فقط تلك المرأة التي أغوت شهريار بسردياتها العجيبة، لكنها تحمل تمثلات الهوية. فالأخيرة اغواء مستمر لسرديات لا تنقطع عن أنفسنا، سرديات لاهوتية وسياسية واجتماعية وتاريخية. لقد كانت شهرزاد تؤجل موتاً محققاً كذلك تؤجل انفجاراً ذاتياً بلا معنى.

10- " أفواه وأرانب" فيلم مصري من تأليف سمير عبد العظيم وبطولة فاتن حمامة ومحمود ياسين وفريد شوقي واخراج هنري بركات. ويعالج قضايا الفقر والغنى والتخبط الأسري. والفيلم كنص يكتب فضاء الثقافة الجارية كمفاهيم تُخضِّع رتم الحياة والفكر إلى خطوط التقاليد العامة. والفيلم أيضاً يبرز نمط الثقافة السائدة التي تدعمه أفكار دينية وسياسية واجتماعية موروثة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى