بسام الطعان - الألم في الكبد.. قصة قصيرة

أكثر أيام الربيع والصيف، وكلما يأتي الأصيل، يكون الحبيب علي موعد مع وردة البلاد عند الدروب السعيدة. كل مرة تأتي بهيئة أنيقة، وترشه بسيل من البسمات، فينظر بعينين ضاحكتين إلي وجهها المعبأ بالصحة، وجسدها المتناسق، وشعرها الأسود الطويل الذي يزيدها جاذبية، ويتمني أن يحملها بين الضلوع، تمد يدها فيصافحها، ثم يبدأ المشوار، ويبدأ معه الحديث عن الشوق والغرام، والقلب الظمآن، وعن الفرح القادم بعد موسم الخير الذي أعلنت بشائره عن نفسها بوضوح.

صارا وجهين مألوفين لكل من يسير علي الطريق السريعة، المارة بالقرب من القرية التي تستريح حول تل اثري في الجزيرة، وكثيرا ما تجاهلا تعليقات وحسرات وآهات أصحاب السيارات والركاب، فهما لا يهمهما أي شيء في الدنيا ما دام القلب برفقة القلب.

يا أيها الليل يا مسرح الجرائم، كم من وحوش تناسلت في ظلامك؟ وكم من ذئاب تركت وراءها الخراب والجراح والنواح؟

كزوجين من حجل، انهيا المشوار وهما يحلمان بالغد الجميل وبمشوار جديد، فهذا المشوار هو السابع بعد الخمسين ولم يأخذا كفايتهما من العسل بعد.

كفها الناعمة الطرية كانت ترتاح في كفه، يهزها بمرح في الهواء، ويرسم الآمال والأفراح بريشة من نور، ثم راح يبدع مثلما تبدع (فيروز) دائماً: يا كرم العلالي عنقودك لنا.. يا حلو يا غالي شو بحبك أنا . لعلع الفرح في داخلها، شعرت بالنشوة تسري في كامل جسدها، فراحت تهز يده هي الأخري وتبتسم وتبدع بصوت ناعم حنون:

" ع النهر التقينا وما قلنا لحدا.. والتقو عينينا وما شفنا الهدا..قللي شو بكي وشو اللي ما بكي.. وقللي يا دلي الموسم ع الجني . احتضنها فجأة وحاول أن يأخذ منها قبلة حارة اشتاقت نفسه إليها، لكنه التفت إلي جهة الزرع عندما سمع خشخشة ما.بعد لحظات خرج ذئب بقدمين وبلا ذنب من بين السنابل المشبعة بالصحة، اقترب منهما وفي عينيه يلتمع الخبث والدهاء، حياهما بأدب مصطنع، اخرج من جيبه علبة الدخان، وطلب منه أن يشعل له لفافته.

ما إن اخرج القداحة من جيبه حتي خرج ذئب آخر وفي فمه لفافة غير مشتعلة، تقدم نحوهما بحركات شبه رعناء، فانتاب الحبيب إحساس من يستعد لمواجهة خطر قادم، وقف خلف الحبيب وهو يبتسم، فلم يعره اهتماما، أشعل القداحة، قرّبها من لفافة الأول، حينئذ انقض عليه الآخر، أمسك به بقوة ومنعه من القيام بحركة واحدة، سحب الأول سكيناً حادة من تحت سترته، غرز نصلها في رقبته وهدده بقطعها إن تحرك أو قاوم، وبسرعة سحبه الاثنان إلي داخل الحقل وسط دهشة الوردة التي دخلت في صدف الخوف وتسربل وجهها بالليمون. بقيت واقفة في مكانها غير مصدقة ما يحدث ولم تقو علي الكلام، عادت إليها الروح، فخلعت حذائها، وعلي غفلة منهما هرولت صارخة باتجاه القرية التي بدأت أنوارها تلمع للتو، لكنهما لحقا بها قبل أن يراها أو يسمعها أحد، حملها أحدهم علي كتفه، بينما أمسك الآخر برجليها وهي تبكي وتصيح:

أرجوكم اتركوني.. أنا مخطوبة...

كيف لذئاب جائعة أن تستمع لأنين فريسة تبدو لهما لذيذة؟

عادا بها إلي حيث الحبيب، فشاهدته مربوطاً بحبل رفيع وعلي فمه لاصق عريض، مدداها بالقرب منه، ربطا رجليها، الصقا اللاصق علي فمها، مزقا قميصها الأزرق، عندئذ أطلق الحبيب صيحات معبأة بالغضب، تكسرت علي أثرها حنجرته، غير أن صيحاته بقيت داخل فمه، أيقنت الوردة أن المصيبة ستقع لا محالة، فأطلقت صيحاتها الخافتة وتوسلاتها الكثيرة، وصرخ الليل، وصرخت السنابل الشاهدة علي كل ما جري، وجفلت كل الطيور النائمة في الحقول، وخرجت دفعة واحدة وهي تطلق زقزقات غريبة، وتطير وتضرب أجنحتها بوجوهها.

بدأ المشهد الأول من الفصل الأول من المسرحية الدموية، ارتمي الذئب الأول فوقها، غرز أنيابه ومخالبه في عمق جسدها الطاهر، حتي انبثق الدم من الروح والجسد، وروي الأرض، وظل يجري.. يجري فيضانات من الدم.

اشبع الذئب رغباته، فتركها للآخر كي ينهش ما يريد من اللحم، بينما الحبيب الجريح يغمض عينيه ويئن ولا يدري إن كان حياً أم ميتاً.

امتطي الاثنان دراجة نارية وهربا كلصين حصلا علي كنز لا يقدر بثمن، فنبت العذاب والغضب، وصار أشجاراً عالية تكاد تصل إلي حدود الغيوم، استطاعت الوردة أن تحل وثاقها، لملمت أوراقها الممزقة والمبعثرة، ومع النحيب تقدمت من الحبيب بروح مغروزة بآلاف السكاكين، حلت وثاقه، جلست إلي جانبه، وراحت تنسج من آهاتها ثوباً للزمن القادم، أما الحبيب فراح يبكي علي نفسه وعلي وردة قطفوها قبل أن تمتلئ بالعطر، وأسقطوها في مستنقع مليء بالطمي والروائح الكريهة، وظل يبكي.. يبكي.. يبكي، ولا يدري ماذا يفعل، ينقذها من العار، أم يتركها للمجهول؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى