أدب السجون عائشة البر - مساء السجن.. حكايات السجن (1)

في هذا المساء ينقصني كل شيء، حضن أمي، حنان أبي، صوت حبيبي، شجار إخوتي ورائحة بيتنا الدافئ! أدرك أني لست قوية بما يكفي لتحمل سجن أقله غرفة مغلقة! ضيقة وغير نظيفة مضاءه بمصابيح خافته يزيدها لون جدرانها الرمادي كآبة وظلاما، يغلقها باب غليظ أسود يحوي في ربعه الأعلى فتحة صغيرة مسيجة بإحكام يطلقون عليها "النضارة"، خربش عليه مسجونون سابقون أسماءهم وبعض عبارات وأرقام هواتف والكثير من الخطوط والخربشات يبدو أن صاحبها لم يكن يدري ماذا يكتب فقرر الشخبطة بعنف وعشوائية.

دورة مياه أبسط من اللازم لا تغلق سوى بملاءة مثبتة من طرفيها، لا أرتاح لها، أمسك بطرفي الملاءة وأشدهما في كل مرة لأتأكد بأنها لن تسقط لأي سبب! وللنوم والجلوس والأكل والحياة "فَرْشَة" على الأرض مكونة من بعض البطانيات التي يسمح بدخولها، مطوية فوق بعضها بإحكام لتحمي الجسم من الأرض الأسمنتية أسفلها! والكثير من الصراصير تتمشى وتتبختر حولنا بكل راحة فالبيت بيتها! وبشر لم أتوقع وجودهم بغير القصص والحكايا! وأكبره وأشده ثقل معلق بقلبي يسحبني لأسفل، عقل لا ينام، وجسد ضعيف لا يقوى لهذا، أما معدتي المسكينة فلها شأن آخر، ترفض استقبال الطعام، أحايلها فترضى ساعة وتأبى ساعات، أُدخله لها عنوة فتعاقبني بقسوة ولما أتصالح معها بعد، وحزن يأكلني مرة وآكله مرة، مرّة!

يمر الوقت، اليوم أجلس في زاوية غرفة الحجز بهدوء مريب، لم أعد أقف في نظارة الباب كما في أول الأمر، هذا أول مساء بلا بكاء، فهل جفت دموعي؟

في أول يوم لي هنا كنت أبكي بصوت مختنق لا أستطيع إخراجه من حلقي، وبدا لي أن هذا المكان الضيق هو قبري، وأن الجدران سوف تقترب مني أكثر فأكثر حتى تطبق عليّ وتقتلني، لكن إحدى السجينات قاطعت صوت عقلي وقالت "متخافيش؛ السجن مابيمَوِتش"! هل كانت تعرف ما أفكر فيه؟ أم أن هذا الشعور طبيعي هنا، ربما شعرت هي به من قبل؟ أو أخبرتها إحداهن أنها أيضا شعرت به؟ وإن كان كذلك، هل معنى هذا أنني مع الوقت سوف أصبح مثلهن؟ لا أبالي بالسجن، بل وأتعايش مع السجان والمساجين وأصنع حياة أخرى هنا ليس فيها غير الأكل والنوم والكلام بفائدة وبغير فائدة، والكثير الكثير من الإهانات.

يمر الوقت، اليوم أجلس في زاوية غرفة الحجز بهدوء مريب، لم أعد أقف في نظارة الباب كما في أول الأمر، هذا أول مساء بلا بكاء، هل جفت دموعي؟ أم استجاب الله لدعائي الدائم "صبرني وقويني يا رب"؟ أم هل أكون اعتدت الحبس بهذه السرعة؟ تقول رضوى أنه لا أحد يستعصي على ترويض الزمان، ولكن هل تعد هذه الأيام العشرون زمانا؟ عندما أخذوني إلى المستشفى لإجراء فحص روتيني مهين شعرت بنفسي استسلم، أمد يدي للكلبش وأسير إلى جوار العسكري بهدوء دون تلفت، أمسك باب سيارة الترحيلات بكلتا يدي وأصعد دون مساعدة، أترك الشباك الصغير المطل على الشارع وأجلس على الكرسي، تركت الطبيبة تفحصني ولم أنطق بغير إجابات مقتضبة لأسئلة دفعها إليها الفضول فقط!

أهانني أحد الأطباء -ربما بغير قصد - وصرخت بوجهي إحدى الممرضات لم أنظر إليهم ولم أتفاعل كما يجب وكما هو طبيعي، نَظَرَتْ إليّ طبيبة أخرى بشفقه وسألتني إن كنت أحتاج شيئًا، دار في ذهني أحتاج الكثير ولكن ماذا يمكن أن تقدمي لي، أنت عاجزة مثلي تمامًا أو ربما أكثر، كل شيء هنا ممنوع والحرس فوق رأسي يخاف أن أطير، لم أخبرها بكل هذا بالطبع، أومأت لها برأسي وشكرتها على ذوقها فقد بدا لي نادرًا أو غير موجود. هذا القدر اليسير من الكتابة أرهقني، سأترك القلم واستسلم للنوم علّ حلمًا جميلًا أو حتى غير جميل يخرجني من هنا بضع دقائق.

عائشة البر بعد الإفراج عنها (مواقع التواصل)

ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

تنويه:
كتبت هذا النص في يوم التاسع والعشرين من شهر مارس الماضي وقد مضى على احتجازي حينها عشرون يومًا تقريبا، كنت أجلس في زاوية حجز السيدات في قسم أول المنصورة احتضن كتبي ودفتري وقلمي كأن فيهم نجاة من نوع ما! لا أعرف إن كانت الكتابة تريح صاحبها أم ترهقه؟ يختلط عندي شعور الرغبة في البوح والحكاية، والتعب من سرد الأحداث واجترار المنسي منها في ركن بعيد لا أحب تذكره ولا أحب نسيانه أيضا.

عائشة البر -
مدونة مصرية
18/5/2018
الجزيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى