بسام الطعان - أقرب إلي اللبلاب.. قصة قصيرة

بالأمس، لا اعرف إن كان بعيداً أم قريباً، فهذا لا يهم، المهم أن سنوات العمر تقصفت تحت ثقل الظلم، وان نهر الحقد فرّق بين قلبين أخضرين.

قلبان يحملان الحب وشاحاً، ويرتديان اللوعة شالاً، كانا يلتقيان بين المروج، أو بجانب النهر المسافر إلي البعيد، وفي بعض الأحيان عندما تكون العيون الحاسدة التي تسرق البسمة من الشفاه متفتحة، كانا يحتميان في الوادي، خلف صخرة كبيرة تحمل أول حرف من اسميهما، ويتمتعان بالدفء المتولد من عشرة أصابع تعصر عشرة أصابع، بينما أربعة عيون مبدعة، لا تتعب من الغزل، وتغزل من خيوط الشوق كباكيب ملونة، وتحولها إلي ثوبين مطرزين بالمرح.

لا هو ولا هي، كانا يظنان أن السدود العالية سترتفع من حولهما وتتركهما في بحيرة سوداء.

رأتهما بعض العيون الشرسة وهما في وضع يتمناه كل ولهان، وآن انتشر الكلام، تقدم من أوسع الأبواب بمشروع سلام، بنده الأول والأهم طلب يدها، وبنده الأخير نسيان الماضي بكل آلامه وعودة الصفاء إلي القلوب المتخاصمة منذ سنوات طويلة، لكن مشروعه انهار قبل ان يقدم كل بنوده، حتي أن أكثرهم من الطرفين، سخروا منه بشده وهددوه بالقتل إن رآها أو حلم بها مرة أخري.

يا لهم من حمقي، إنهم يصادرون الأحلام وكأنهم أصحابها يوزعونها علي من يريدون!

تحدث إليهم بلغة الطيبة فلم يفهموها، تحدث بلغة التهديد ففهموها وبادلوه بمثلها، لكنه غيّر رأيه وانتظر معجزة تطل برأسها وتحول الجمر إلي مرج أخضر يتسع للكل.

تأخرت المعجزة كثيراً، فأرسل حمامة وحملها غصن زيتون، غير أنهم ومثل كائنات ممهورة بالهمجية، أعادوها إليه بوجه كئيب وغصن مكسور.

خرج من غرفة العناية المشددة، فأبحر نحوهم بقارب من سلام وبمجدافين من أمل، وفي منتصف الطريق المفروشة بالبارود، كسروا القارب علي صخور العناد وزرعوا المسافات بأسلاك شائكة.

حاصروها بالخراب وأهانوها، ومن ثم حبسوها بين أربعة جدران لا تعرف الشمس، أما هو فصادروا حريته، طوقوه بمئات الأشباح، وألقوا به في أحضان الاضطراب الأرعن.

ماذا عليه أن يفعل كي يراها؟ إنه يحن إلي النور الأخضر الطالع من عينيها، إنها مثل اللبلاب تعرش في وجدانه فكيف يبتعد عنها، أو يتركها، لمن يتركها، ولماذا يتركها؟

الأبواب كلها مغلقة بمزاليج من نار، وها سبعة أشهر وعشرة أيام قد مرت، أرسل لها مع عصفور رسالة مكتوبة بحبر اللوعة، بدايتها تصميم علي الصمود، ونهايتها رغبة قوية بالهرب سوياً إلي عالم ليس فيه غير الحب والرحمة.

- كيف تطلب من حمامة ليس لها أجنحة أن تطير؟

ردها أشعل الحرائق في داخله، فتوسل إلي أمه أن تتوسط وتمده بشيء من الراحة المفقودة، لكن صواعق اللامبالاة والتوبيخ أصابته وشوشته لأيام طويلة.

آه من الأيام، حولته إلي مغلوب ومنكسر، ولكي لا يجري نهر الدم المسفوح بلا سبب كما قال أحدهم، خلع ثوب الأمل وارتدي ثوب الحداد وهاجر إلي الشمال البعيد.

قال لها مرة عند باب الليل الذي غار من شعرها الطويل:

- سأفعل المستحيل لكي يكون هذا الشعر لي.

طأطأت برأسها وانكسرت تعابيرها:

- أي ذنب ارتكبناه حتي نعاقب بهذه الطريقة المؤلمة؟

- لا تخافي يا (أفين) مهما حاولوا فلن يفرقوا بيننا.

تقلبت شهور الغربة وارتحلت، أخذت منه الكثير، وبالمقابل عبأت جسده الباحث عن الدفْ والحنان بالوهم والأنين، وحولته إلي غريب لا ينتمي إلي الزمن الذي هو فيه.

ذات صباح دافئ، تزينه حبات مطر ناعمة، فتح نافذة غرفته في الطابق الثالث، وأمام النافذة تذكر مرابع طفولته، فأرسل نظراته في الاتجاه المؤدي إلي بلده، شاهد عصفوراً يرفرف وحيداً ويذهب في الاتجاه نفسه، شعر بأن العصفور حزين ووحيد مثله، ظل ينظر إليه وحبات بلّورية تسقط من عينيه، وفجأة صاح بصوت أشبه إلي الهمس:

اذهب أيها العصفور الحزين، قل لأفين الطهارة والصفاء، أفين الجمال وبيارات الحنان، أفين التفاح المغمس بالعسل، أفين اللوز وعطر الربيع، قل لها يا بتولة، اسمك سيظل مكتوباً علي قرص الشمس، ولك وحدك الانتماء وهذا الحب الكلي.

اذهب أيها العصفور الحزين، قل لأبناء عشيرتي الميامين، يا قلوباً بلا صفاء، يا أجسادا بلا أحاسيس، يا رؤوساً فارغة وبلا أفكار، لماذا أطفأتم الشمس في عينيه؟ والي متي ستبقون في صَدفة الحقد خالدين مخلدين؟

اذهب أيها العصفور الحزين، قل لجحافل الشر، كنتم سعداء وأنتم تحبسونها وتمنعون عنها الطعام، كنتم أغبياء وأنتم تعتقدون أنه ذهب بلا قلب وبلا عودة، فأنتم لا تعرفون أنه ترك لها قلبه واخذ قلبها، وأنها دائماً معه، لا تفارقه، شعرها ينسدل علي كتفيه، يلعب ويتسلي به في الليالي الطويلة، صدرها في النهار يمنحه الدفء، وفي الليل يتحول إلي سرير وثير، ينام فيه ولا يصحو إلا لينام من جديد، شفاهها نبع بارد، يشرب منه ولا يرتوي أبدا، أصابعها لا تفارق أصابعه، يداعبها باستمرار ويحكي حكايات حبه التي لا تنتهي.

اذهب أيها العصفور الحزين، قل للجمع، الصغار قبل الكبار، اخرجوا من دوائركم السوداء، جربوا الحب مرة واحدة، عندها ستعرفون كم من قلوب عذبتم، كم من أحلام قتلتم، وكم من حقد زرعتم.

اذهب أيها العصفور الحزين، قل لكل المحبين، لا تتركوا قلوبكم تعيش مع قلوب لا تعرفها، وإذا فعلتم غير ذلك، ستندمون علي العمر الضائع حتي الصمت الأخير، وستقول لكم قلوبكم لماذا امتهنتم الخيانة وحولتمونا إلي مظلومين في الحياة؟ ولا تنسي أيها العصفور الحزين، أن تقول لكل العاشقين، لكم المجد وإياكم والاستسلام.

اختفي سفيره فعاد مع حزنه وتناول طعامه بصمت.

بعد ثلاثة أيام، استيقظ في ليلة باردة من نومه مذعوراً، فقد رآها أثناء نومه تغرق في بحر اسود متلاطم الأمواج وتناديه باسمه مرات ومرات، كم تألم وكم شعر بالحزن لأنه كان واقفا علي الشاطئ ، ينظر ولا يتحرك حتي اختفت.

ترك الحلم انفصالاً عسيراً يدب في كيانه، شرب حسوة ماء وحاول النوم من جديد، ولكن كيف يأتيه النوم والوسن طار دون أجنحة، وتركه مع الهموم والأوهام، ظل السهد يعاشره، وهرباً من جنون يراوده، ارتدي ثيابه وخرج دون أن تكون له وجهة محددة، علي الدرج سمع صوتاً من داخله يقول: الجو بارد جداً فأين ستذهب الآن؟ لم يستمع إليه وإنما راح يسير في الشارع الخالي من المارة وهو يحرك يده ويتحدث إلي نفسه، أكل الدفء جسده كله فعاد مثل عصفور منتوف الريش، أشعل المدفأة، ألصق جسده بها إلي أن عادت إليه الحرارة، وبتفكير لم يدم أكثر من دقائق، وفراراً من الضياع، حزم حقائبه وكان قلبه يفيض شوقاً للصباح.

حين وصل لم يسأل عن غيرها، فقالوا وهم يبتسمون:

إنها ترقد في سلام.

تخشب جسده من هول المفاجأة، زُفت خلاياه إلي الهذيان، وسرعان ما وقع مغشياً عليه، وحين نهض، دار من حوله وكأنه يبحث عنها بينهم، تطلع إلي بعض الوجوه، ثم استدار وسار إلي حيث ترقد، صعد التل المفروش بالأشواك وبعض الأزهار اليابسة، اقترب منها بخطوات مرتعشة، خائفة، باكية، مجنونة، وقف إلي جوارها:

صباح الخير يا (أفين) ، ها قد جئت إليك رغماً عنهم ولن يفرقوا بين..

لم يستطع أن يكمل، انهار فيه شيء ما، رأي الدنيا كلها بيضاء صافية، ولم ير بعدها أي شيء، وكان الآخرون بعضهم يبكي، وبعضهم يبتسم.


بسام الطعان

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى