حنان الدناصوري - حيث تقيم ماري الجميلة

خلف البوابة الرئيسية كان الطريق الإسفلتي طويلا وموشحا‏,‏ تظلله أشجار يونسيانا وكافور‏,‏ تحجب عنه ضوء الشمس وتصنع ظلالا متداخلة تزيده وحشة‏.‏ المارة قليلون‏,‏ والصمت مطبق لاصوت إلا خشخشة أوراق الشجر الذابلة‏.


الطرق متفرعة والمباني متشابهة, وصلت للمكان بعد لأي.

اجتزت البوابة الثانية, فواجهتني مبان أسمنتية, صماء متجاورة من طابق واحد, رمادية حال لونها, تقطعها نوافذ عالية ذات قضبان حديدية رفيعة, تفصل بينها مساحات من العشب الأخضر المنحول, تتوسطه برك صغيرة من ماء قاتم عطن, وتتناثر دكك خشبية متهالكة مقشرة الطلاء علي الخضرة الجافة. طيور سوداء تقف متجاورة كأنها تنتظر إشارة ما لتطير معا.

أمام العنبر الأول, أشارت المختصة إلي امرأة رفيعة ممصوصة الوجه, عيناها غائرتان, وقالت هل تقصدين هذه؟ هززت كتفي, وقلت: معذرة.. فأنا لم أرها منذ سنوات بعيدة, وأعدت التحديق, شعرها فضي قصير, ترتدي جلبابا لينوهبورود صغيرة, وبقع زيتية, تشع منها رائحة ثقيلة, قلت إن ماري هنا منذ عشرين عاما, فقالت المختصة إنها تسلمت العمل هنا منذ ثمانية عشر عاما وكانت ماري هذه موجودة, أخبرتها باسم الأب الأرمني, فقالت: إننا بمرور الوقت, نكتفي بالأسماء الأولي, فحسمت ترددي وقلت إنها لاتمت بصلة لماري كيفوركيان التي كانت بيضاء سمينة ذات شعر أسود منسدل علي كتفيها, ووجه أحمر مبتسم دائما.

اصطحبتني لعنبر آخر حيث وقفت ماري أخري متشبثة بإطار الباب, سمينة ذات صدر متهدل وكرش بارز يرفع الجلباب فيبدو من الأمام أقصر من الخلف, ونظرت لي نظرة خاوية بعيدة, بعينين واسعتين, كأنها ليست معنا, فأشحت برأسي وأنا غير متأكدة, وقلت للمختصة إن ماري كان لها أخت وحيدة اسمها ساندرا, وربما كانت تزورها حتي وقت قريب, لكنها ماتت, والأب الذي كان يعمل في مطبعة, ويأتي بماري إلي المدرسة خلفه علي موتوسيكل, من المؤكد أنه مات أيضا, من قبل تاركا حمرة الوجه, وانسدال الشعر لابنتيه.

كانت كاري البعيدة توغل في الجمال كلما ابتعدت, تبدو طويلة ذات عيون معبرة ونشاط مفرط لايتناسب مع وقوفها وحيدة في الفسحة بجوار الحائط, تراقبنا ونحن نلعب فتحي ياوردة وفي عينيها نظرة استجداء, تتحين فرصة التقاء أعيننا لتبعث لي رسالة صامتة( ممكن ألعب معاكم) وكنت أشعر بالذنب لوقفتها, ولاأجرؤ علي ضمها لي, إذ كنت أظل الأيام كثيرة وحيدة, خارج المجموعة إلي أن تختارني نهي أو نانسي, فأحاول ألا أقع أو أبكي حتي لاأطرد, ولم يكن وضعي في المجموعة يسمح لي بضم ماري التي يتجنبها الجميع, ربما لأنها لاتتحكم جيدا في جسدها, فتدهس أقدامنا بعنف, أو تدفعنا فنقع وتنتهي اللعبة قبل أن تبدأ بالبكاء.

كانت الواقفة أمام عنبر آخر طويلة, حافية وشعرها مهوش, عيناها جاحظتان ولامعتان, كأنها تعرفني, حين انقضت علي يدي تقبلها وبكت بلا دموع وشهقت بجفاف طالبة جنيها تجيب به سجاير فقدت توازني لحظات فسندتني إحدي البنات, ونهرتها المختصة بعنف:

حاسبي ياجاموسة.. هتوقعي المدام, خشي جوه.

فعاودت النظر لي بعينين ملونتين وزجاجتين بهما شراهة الاحتياج إلي النيكوتين, فيما كانت ماري رغم خشونتها غير المتعمدة ذات عينين سوداوين لامعتين.

عنابر الحريم كثيرة والظل شحيح, ورغم الرطوبة وشمس أغسطس الحارقة والتصاق شعري برقبتي ووجهي, فإ حماسي لم يفتر, فحالة الذهول تلازمني منذ قالت نانسي إن ماري هنا وأشارت إلي المكان, قالت الخبر ببساطة لاتتناسب مع جسامته, خاصة وقد عرفت أن أختها الوحيدة ساندرا التي كانت تزورها ماتت, فأوقفت السيارة علي جانب شارع العروبة, وملت بجزعي ورأسي علي عجلة القيادة, فقالت نانسي وهي تربت كتفي: إيه ياعبيطة؟ ده الكلام ده من عشرين سنة! منذ هذه اللحظة وهي تلوح لي واقفة ترفع يديها باذعان لأعلي ووجهها للحائط, أو تمد كفيها لتتلق ضربات ميس شطورة بحافة المسطرة أمام عنبر آخر, استندت المختصة بيديها علي حافة الباب ونادت برعيق:

اللي اسمها ماري هنا تخرج بره!

تزاحمن حول المختصة, فكررت النداء, فأشرن جميعا إلي واحدة تجلس القرفصاء, وتضم قدميها إلي صدرهاو فتبدو ضئيلة هشة ونائية, وجهها ممصوص يشبه وجوه القديسات في الأيقونات القبطية, ترتدي ترينينج أحمر وتضم شعرها الأسود الطويل للخلف علي هيئة ذيل حصان, زغدتها المختصة, فرفعت وجهها بهدوء, فبدت صغيرة لاتتعدي العشرين, تركتها يائسة ولكن ظل وجهها حاضرا في ذاكرتي ونظرتها المعذبة عصية علي النسيان.

أمام العنبر الأخير, لم أستطع مجرد الاقتراب, فقد بدا من الخارج خافت النور في عز الظهر, موحشا رغم ازدحامه, تهب منه رائحة صنان, ثقيلة خانقة, وفيما انشغلت بتأمل قطة تتسرب من العنبر, تقدمت باتجاهي كشبح, وصاحت بصوت واضح النبرات: حنان جمال.

لم أتصور أن ينطق اسمي بهذا الشكل, وبنفس الدرجة التي كانت تناديني بها باندهاش, في مدرسة الراهبات, كانت فرحة تتكلم بلا توقف عن أشياء متباينة, وتمرر كفها البضة علي شعري وتقول دون أن تنتظر إجابة: أنا حلوة؟ مش كده؟ فأهز رأسي وأبتسم, حتي فاجأني سؤالها المباغت:

ـ فين ساندرا؟.. هه؟ فين ساندرا؟

ارتبكت, وقلت: رجلها بتوجعها فسألت دون أن تنتظر إجابة:

هي هتيجي لما تخف؟..مش كده..؟ هتيجي تاني؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى