أدب السجون محمود الورداني - عصا عم بركات..

مضت الحياة علي النحو الذي أشرتُ إليه في العدد الماضي، وإلي جانب الندوات والمحاضرات، كانت هناك إذاعة يومية يديرها زملاء يتمتعون بصوت مخيف في قوته مثل أمير سالم، وكان هناك أحد الزملاء الذي لاتستطيع أن تفرّق بينه وبين السادات وكانت له فقرة مسائية ثابتة، فضلا عن أخبار الحبسة ومانكون قد توصلنا إليه من أخبار الخارج، علي الرغم من أنه من بين مكاسبنا السماح بإدخال الصحف والمجلات.
أما زملاؤنا الفاجومية مثل تيمور الملواني وأمير سالم وسمير حسني وخالد الفيشاوي وأسامة خليل فقد سكنوا معا في زنزانة كتبوا عليها من الخارج بخط غليظ: زنزانة العظماء!!
أتذكر أيضا أننا أقمنا احتفالا صاخبا خارج العنبر وفي المكان نفسه الذي كنا نأخذ طابور الشمس فيه، ربما في ذكري توقيع اتفاقية كامب ديفيد، حرقنا خلاله علم العدو الصهيوني، واستمر الاحتفال طوال اليوم هتافا وخطبا حماسية وأغاني.
لم أكن حتي ذلك الوقت قد قرأت تاريخ الجبرتي، وهو مالم أسامح نفسي عليه، خصوصا أن الاقتباسات التي قرأتها منه كانت تدير الرأس، لذلك أرسلت إلي عبده جبير ليوفره لي وسرعان ما أرسله. كانت هناك كتب عديدة في الحبسة ولم تكن هناك أية مشكلة في القراءة.
كذلك بدأ نزولنا أمام المحاكم للإفراج بعد انقضاء مدة الحبس الاحتياطي أو استمرار حبسنا، وفي الطريق إلي المحكمة لم نكن نكف عن الهتاف والخبط علي جدران السيارات التي تقلنا، وبادر مرافقونا من ضباط الحراسة بتحرير محاضر ضدنا، لذلك فإن كثيرا من زملائنا الذين تأمر المحكمة بالإفراج عنهم، كان يعاد حبسهم في اليوم نفسه علي ذمة محاضر جديدة.
وفي أحد الأيام فوجئنا أن زملاءنا العائدين من المحكمة، لم يعودوا وحدهم، بل معهم إيراد جديد، تمثل في عم بركات والد زميلنا صابر بركات وهو شيخ تجاوز السبعين، وبرفقته شاب صغير السن لايكف عن إثارة الهرج ويرفع عقيرته بالصياح.. كان ذلك الشاب الذي لم يتجاوز العشرين عاما آنذاك هو محمد هاشم .. نعم صديقنا محمد هاشم مؤسس دار ميريت بعد ذلك بسنوات.
وماكان قد حدث في المحكمة أن والد صابر حضر ليري إبنه، وحضر محمد هاشم مع والدة تيمور الملواني التي جاءت بدورها لتحضر محاكمة إبنها، وعندما اقترب الأهالي من القفص، ليس بالطبع من أجل أن يحرروا المساجين بل لتبادل الأخبار وما إلي ذلك، وقع الاعتداء. ليس من المتصور بطبيعة الحال أن يعتدي شيخ تجاوز السبعين بعصاه التي كان يتكئ عليها، أو صبي في العشرين من عمره، أو والدة تيمور الملواني علي جحافل الحرس.
أتيح لي في أعقاب ذلك الحادث مباشرة أن أنزل للتحقيق، وشاهدت بعيني عصا عم بركات، وقد تم تحريزها ووضعها في مكان بارز في أحد دواليب مكتب السيد وكيل النائب العام، وكان هناك اتجاه قوي لعمل قضية اعتداء علي السلطات والعياذ بالله.
كان عم بركات من أكثرنا نشاطا وانخرط معنا علي الفور في التمرينات الرياضية الصباحية، وفي نقاشاتنا، وكان أحد نجوم الحياةالعامة، إلا أن صابر بركات اعتبر – ومعه كل الحق- القبض علي والده وحبسه معنا أمرا مهينا، وبادر بدخول إضراب عن الطعام حتي الإفراج عن والده، وتكهرب الجو، وكنا ننوي أن يتوسع الإضراب ويدخله زملاء جدد كل يوم، وأبلغنا زملاءنا في الخارج..
وبعد شد وجذب تم الإفراج عن عم بركات وخرج في مظاهرة واحتفال صاخب أقمناه له، بينما بقي محمد هاشم معنا..
في الأسبوع القادم أستكمل إذا امتد الأجل..

* كتابة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى