يوسف فاخوري - صديق الموتى

أعرف أنكم لن تصدقوني. كل يصدق نفسه ولو بالوهم. أو حتى الكذب. لكني أصدق نفسي، لأن لها رائحة ذكية. أن تعيش داخلك حيث خارجك مجرد أحداث تقع، تجعل الصداع يقفز الى الرؤوس كدواء لمرض لم يدرك. العالم يشغى من حولي. لا أسمع إلا طنيناً خافتاً. أنا صديق الموتى، انهم لا يفزعون، هادئون، ولهم اصوات دافئة، أصوات الأحياء مزعجة، لهم أصوات صراصير وضعت أمام مكبر صوت عالي الحساسية، ونسي شخص ما أن يغلقه.
دافئاً كان صوت أمي.. ما زلت أذكره، له طعم الفجر، ورقة النبيذ في صيف حار، ماتت حين لم أستطع البكاء. ظل الصوت داخلي، الشفقة في عيون الناس على طفل كانت تلطمني، فكان الصمت، حين يتكلم الناس أصمت، حين يصمتون اتكلم، كلامي للا أحد، لأن الفراغ صديقي، أنا للفراغ هبة إلهية.
حين بلغت زوجوني، فأنجبت ابناء، لكنهم لم يكونوا سوى رعشة على ظهر قلبي، أتأملهم يمرحون، فلا أراهم إلا قططاً وأرانب تقفز، لهم ناعم الوبر في الحس، وزهر قرنفل على الشفتين، أحياناً أراهم فراشات تحوم حولي، تحط على رموشي، مثل همسة، وتحلق، صار أبي مثل غبار، رأيته يوماً يتفتت الى ذرات دقيقة، أدق من غبار الدقيق، وتلاشى.
وضعوني في وظيفة، تضع في يدي راتب أول كل شهر، أعطه لزوجتي، صرت حارس الأموات في مشرحة، أصبحت صديق الموتى، ولهم أعطيت صوتي، حكايات الموتى تبهجني. كلها خيال وبلا أطماع، حتى من كان خبيثاً على قيد الحياة، يصير أرق من فرخ ضفدع يحاول قفزته الأولى، الموتى منحوني سخرية عذبة، فأصبحت أسخر من الحياة وأحلق في الحكايات، الأحياء يحبون سماع حكاياتي ويضحكون، لا اهتم، لكن يغضبني ضحكهم، أدرك انهم فقراء بالحياة، لأنهم لا يرون ما أرى.
الموتى لهم حنين، ليس للعودة الى الحياة، بل لتلك الأماني التي لم يبلغوها، أو لتلك الأشياء المفتقدة لكنهم ينسون، أراهم يستمتعون بالصرخات تصل اليهم زغاريد، ويبتهجون، عالمهم ثري لأن قبض الريح أغنى من ملء اليد، الصمت كامل، حتى أنه ينطق.
تنجذب الحيوانات لي، كأن شعاعاً يهديها إليّ، أحدق في عيونها، وأرى نسيجاً من ضوء يتشكل ويتثنى، تمرغ رأسها في حضني وتصدر أصواتا لها ألوان، كل لون بصوت، كل لون له جدائل.
أتوقف قليلاً، أتأمل نفسي من داخلي، يومي لحظة هي أنا، لحظة تبتدىء بي وتنتهي اليّ، أنا من خمر وثمر، زرعوني يوماً فلم تطلع نبتتي أفقاً، غلتي غاصت عميقاً وتمددت، صارت تتنفس ملء الأرض، أنا الليل في عميق ظلمته شعاع لا يشق طريقاً، لكنه يخفق قليلاً، وينحني لشيء طيب، أنا لا أدركه، لكنه يتذبذب، ويدق رأساً وقلباً.. كيف؟
لي وجه لا أدركه، ربما استطيع أن أتحسسه، أخافه احيانا دون رؤيته، قد أحن إليه وأحتضنه كطفل وليد، أنظر في المرآة أحسه قلباً يتدفق، ليس دماً، لهباً، أتحسس رأسي، فتنضح رائحة شمع وبخور، تُرى..
كان جسدي صدى لي. حين أنظره أستشف غربتي منه، أحيانا اتنفسه، ويغطس شيء ثقيل عميقاً، لا أدري.
يوماً غنى شاعر قصيدة، وجدتني على وجه القصيدة التي لم يدرك الشاعر، رغم حرارة الغناء.
يوماً قال لي أحد أصدقائي الموتى (لا تحتمل وجهك. وجهك ضدك. خيانتك المعلنة، فلا تعلنه، هو ضمانتك لحياة تسري كالدخان، ونسبة ضئيلة من...« ولم يكمل. مات.
لم أحلم أبداً، النوم ملء الجفون، والقلب وما وراء. هل يحلم من كان الحلم حياته إلا...
أسموني (سرِو)، وكانوا ينادوني هكذا، أحياناً كنت أتساءل سر من؟ سري.. سر من أتى بي وراح غباراً، سر التي ذهبت حين كان جفني ثقيلاً، ولم أستطع البكاء، أم سر غامض أحمله ولم أدرك، خطيئة ما، فرحة لم تعلن عن خوافي، صمتت، هفت، رفت، تجلت، خافت قليلاً، رغبة فرح من نوع ما، غضب لم يكتمل، أو لوحة في الأفق ساعة الغروب ذابت.
ينتابني نصف إله غائر فيّ، وقلبه في الأفق معلق بي، بي خوف وحيد أخجل أن أعلنه، أهمس لخوفي (أن تسقط ورقة زهر دون رغبتها، تلك جريمة) في المشرحة جنتي، رغم العواء والصرخات زرعت كل أنواع الزهور.
تنظرون إليّ نصف ابتسامة وبعض سخرية، أنا حلم لم تعرفوه، ولن تدركوه، أنتم هناك أراكم، بعض خوف، قلق دائم، صمت لا يعرف مصيراً، لون يتحدر، ضجة تخاف الموت فتستدعي فاحش حياة، رغبة ناقصة، امتهان وجود.
انا الناقص في عيونكم أكتمل بظلالي، يجتاحني غنى لم يبلغه أحد منكم، وأحتمل نفسي صمتاً، أفراسكم بلا أجنحة، أنا فرسي وأجنحتي، قليل من التمهل يحملني على همس الريح، وقفت على سحابتي امام سؤالي الذي لم أدركه، تراجعت قليلاً، سألت السؤال، من السائل فينا ومن المسؤول، صمت أطل، ولم أدرك، ولم يفهم، لكن عصفوراً يلهث في الريح نقر قلبي، فلم أعد أسأل، ولم يعد.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى