أيمن خالد دراوشة - شجرة القطف

إنه دوار الهجر.. كأنه في مركب صغير وسط العاصفة هكذا غاب الضوء عبر المجهول،. كأن فراغ الأفق يهبط من حوله، فأصبح ورقة يابسة في مهب الريح، كل شيء فاتر، ولا صخرة تميت الذكريات، هو الآن في زهد دائم فلا الأساطير توقظه ولا حكايات الرواة.

كأنه السم القاتل. تراه وتعرف أسراره وتدرك نتائجه.... ولكنك تقبل عليه علي الرغم من ذلك كله، كأنه النهاية التي لم تعد مؤجلة ولا مستحيلة،. بل ممكنة وأكيدة. كأن الليل بكل خفاياه وقسوته وآهاته قد أثقل علي قلبه وكتم أنفاسه وحوله إلي كائن مسحوق، مجهول، معدوم الحركة والوجود.

كأنما مسه الجنون.. فلا يدرك شيئا مما يقول أو يفعل. كأنما الزمن قد توقف. وكأنما الحياة كلها قد شنقت هكذا أحس وهو يستمع إليها، رافضا أن يصدق رفضها القبول به زوجا، كانت الكلمات قتيلة فوق لسانها الذي جف وتخشب، وملامحها تبوح وتكتم معا...

كأنما تقول وتؤجل، وكأنما تذبحه وتداويه، تجعله في حالة ظمأ إلي صوتها الذي يتقطر آهات ورمل صحراوي يملأ فمها.. كان الوضوح شمس حياتها. كانت الصراحة أقدس كلمة يعتمدانها في مسيرة أيامهما الجميلة.

سألها:

- لم انتظرت كل هذه السنوات، بكل ما فيها من جراح وترقب وأوجاع. سأنتظر أنا.. أنا سأنتظر هذه المرة، عشرا، عشرين عاما وأكثر.. حتي نلتقي هل توافقين؟ وانتظر أن تبارك صبره، مثلما بارك صبرها من قبل.

قال: نحن شركاء في الحزن وشركاء في الفرح.. فلماذا لا نكون شركاء في الانتظار؟ سألها.. ألا تذكرين شجرة القطف التي تمتد جذورها إلي الأعماق، تلك الشجرة الساحلية ذات الأزهار الأرجوانية والسيقان الثلجية الناصعة وبريقها الذي يخطف الأبصار...

واندفعت تجيب، منصرفة عن صمتها! ألا تذكر أن هذه الشجرة التي تحدثت عنها كيف كانت تبكي عندما هجرها الناس قبل أن يكتشفوا جمالها، ألم يلعب الأطفال حولها فزهت بابتساماتهم العفوية المشرقة، وملابسهم المبللة بالماء، ألم تتحول شجرة القطف إلي أمل وتفاؤل..

ومضت تقول بعد لحظة صمت:

اجتمعت الأشجار يوما في حديقة واسعة.. وأقرت اخيتار النخلة ملكة علي كل الأشجار. رفضت النخلة،

قالت: من يحلي الأفواه التي اعتادت المر؟

فاختاروا عندئذ شجرة التوت.. فرفضت هي الأخري،

قالت: من أين يأكل الأطفال بعد أن يتعبوا من اللعب تحت ظلي؟

وتوجهوا إلي شجرة التين.. فرفضت قائلة: أنا الشجرة المباركة الشهية في كل الفصول.. لا أريد أن أتكيء علي الكسل. ورفضت شجرة البرتقال وشجرة التفاح...

قاطعها قائلا:

- ألم تقبل كل الأشجار بمهمة القيام بدور الملكة..

- بل وافقت شجرة واحدة هي شجرة القطف لكن بشروط.. فقد اشترطت علي كل الأشجار أن يستظلوا بظلها لأنها ملكة الأشجار من غير منافس..

- أجاب: إذا أريدك شجرة قطف..

- أجابت لكن شجرة القطف لا ترضي..

- صرخ:

أنت شجرة القطف ولك أن تزدهي بجمالك فأنت من تنمو الأكمات في حضنك، وتمثلين الجمال وروعة المشهد ومرح الأطفال، ومأوي الحشرات..

أحس بابتسامتها العريضة.. أراد أن يبوح لها.. وخشي أن يفقدها إلي الأبد.. أما هي فأرادت أن تبوح له وخشيت أن تفقده للأبد..

صرخ الصمت بصوت عال.. سأرحل!

- لكنك ولدت هنا بين أشجار القطف التي نقدسها معا في وجودنا وأعماقنا فلا تشوه هذه الشجرة..

كانت الشمس في قلب السماء وحرقة الضوء تبدد كل جزئيات الظلمة.

- امسك أصابعها بقوة، وصاحا معا: فليبارك الله شجرة القطف وليحفظها من كل سوء فهي التي جمعتنا لنبقي إلي الأبد، وعند شجرة القطف فلنتعاهد أن نحيي وطننا وألا نختلف أبدا..

وسارا بين أشجار القطف منتشيين برائحتها، فيما كانت الشمس تتألق منذرة بيوم جديد..


أيمن خالد دراوشة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى