هدى بوحمام - موت في غرفة الولادة!..

تعتبر تجربة الولادة من أهم التجارب التي تخوضها أي امرأة في العالم؛ فالعالم كله يتفق على أن الولادة وما جاورها من حمل ورضاعة وحيض هي أشياء بيولوجية تُميزنا نحن النساء عن الجنس الأخر، بغض النظر عن موجات الاتجاهات الجنسية والعاطفية التي صارت تُشكل صعوبة في تصنيف أجناس الناس حسبَ ما نراه من الخارج. ليس كل امرأة تدخل إلى غرفة الولادة تخرُج و بيدها مولودة أو مولود؛ فهناك أحزان حتى في التجارب التي نعتقد أنها دائماً تكون سعيدة.

رأيت الكثير من الأحداث و عشت الكثير من الأحاسيس داخل غرفة الولادة، ولكنني سوف أشارككم قصة واحدة فقط؛ قصة مختلفة عن باقي قصص الولادة، تحمل في ثناياها الكثير من المعاني والأحاسيس، تحتضن بيتًا دافئا بأصدق معاني الأمومة تحت سقف باردٍ بأقسى خيبات الأمل و باب مُتأمّل بذراعين مفتوحتين. حديثي الْيَوْمَ سيكون عن أُمٍّ قررت حمل طفلتها في أحشائها رغم معرفتها بأنها لن تعيش بعد الولادة -هذا إن لم تُولد ميتة-.

عرفت الأُم في وقت مبكّر من فحصها قبل الولادة بأنّ جنينها لا يتوفر على السائل الأمنيوسي المحيط به بسبب غياب خلقي للكليتين معاً. وعُرضت عليها إمكانية إزالة الجنين في الوقت الذي تم تأكيد التشخيص بأن طفلتها " غير متوافقة مع الحياة" ولكنها رفضت قائلة: " أنا سأحمل طفلتي في أحشائي مادامت فترة الحمل هي الفترة الوحيدة التي تستطيع العيش فِيهَا" لم أستطيع تحديد مشاعري آنَ سماعي لهذه الجملة: هل هو حُزْن على تلك الأُم المسكينة التي لم تكتمل فرحتها بأول تجربة أمومة لها؟ أم هو انبهارٌ باختيارها لتحمّل عناء الحمل والطلق والولادة رغم معرفتها أنها ستعود إلى بيتها خاوية الوفاض؟ أم هو شعور بالشفقة عليها لأنني شعرت بأملها الذي تُحاول إخفاءه ودعواتها إلى معجزة لإنقاذ طفلتها بالرغم من تأكيد الأطباء للنتيجة؟ لا أعلم ماذا كانت أحاسيسي بالضبط ولكنّني كنت أتألم! فلطالما كنت أرى في قسم الولادة بريق الأمل؛ قسم النهايات السعيدة المليئة بالبالونات والكثير من الحب..

لن أقوى على رؤية تلك الملابس اللطيفة من جديد، لن أقوى على الاعتذار لهما لأنّنا نُرسلهما من غرفة الولادة بدون بالونات وورود ومولودة

كانت الأُمّ ذات الخمسة وعشرين سنة مستلقية على سرير الولادة والأب بجوارها، يده في يدها، مثل باقي الثنائيات التي أستقبلهم في يوم الولادة. أحضرا معهما حقيبة الولادة أيضا، اتبعت عيناي فضولي المندفع ولمحتُ في تلك الحقيبة ملابس أطفال زهرية بلمسات حب لطيفة.. فغِبت عن الواقع مجددا وغرقت في تساؤلات لا إجابة لها وأحاسيس تتخبط في بعضها البعض: هل يعتقدان أن طفلتهما ستعيش إلى أن تلبس طقماً من هذه الملابس المختارة بعناية؟ هل يعرفان أنها حتى وإن ولدت حيّة لن تستطيع ارتداء هذه الملابس الجميلة مثل ما يتخيّلان؟ لن تستطيع التنفس لوحدها، سيخطفها طاقم العناية المشددة سرعان خروجها من رحم أمها.. لن يستطيعان حتى رؤيتها!

بدأنا بإجراءات الطلق الصناعي، وتركنا الغرفة على أن نعود مجددا عند انتظام تقلصات الرحم الذي يسبق الولادة. قررنا كفريق عمل أن نُقلِّل من وقتنا في الغرفة معهما كي نعطيهما مجالاً لقضاء أخر لحظاتهما مع طفلتهما معاً. احترمت كثيرا محاولتهما لإظهار تقبّلهما لهذا الوضع وأبهرني بصيص الأمل الذي كنت ألمحه في عينيهما، ولكن تَأكُّدي من أن الطفلة لن تعيش كان يذبحني؛ تمنيت للحظة لو أنني لم أكن أعرف أكثر ممّا يعرفان، لَكنتُ استطعت أن أشاركهما ذاك الأمل، لتمسكنا بيه معاً... لكنّني أعلم.. أعلم أن طفلتهما لن تتمكن من ارتداء ما جهّزاه لها.

غادرتُ المستشفى والأُمّ لم تلد بعدُ. هذا يعني أنَّني لن أحضر ولادتها، يعني أننّي لن أُجبر على رؤية هذين الأبوين وهُمَا يودّعان طفلتهما إلى الأبد في أول يوم حياة لها، يعني أنَّني لن أعيش هذه التجربة القاسية، ويعني أيضا أننّي سأفكّر فيهما أكثر لأنني سأتخيل كلّ ما يمكن أن يَحدُث بتفاصيل قاتلة وسأدْعي أن يحدُث الأفضل! فأُذكِّر نفسي أن الطفلة ستموت حتى في أفضل الأحداث... في صباح الْيَوْمَ التالي، علمت أن الطفلة المُنتظرة وُلدت ميتة، مع أن قلبها كان ينبض إلى أخر لحظاتها في رحم أمها.

لم أسأل عن حالة الأُمّ والأب لأنها ليست بحالة يصعُبُ تخمينها. لم أتجرأ حتى على زيارتهما والاطمئنان على صحة الأُم المتعبة من مشقّة الولادة والأشياء الأخرى.. لأنني أعلم أنّني لن أقوى على رؤية خيبة الأمل في أعينهما، لن أقوى على رؤية تلك الملابس اللطيفة من جديد، لن أقوى على الاعتذار لهما لأنّنا نُرسلهما من غرفة الولادة بدون بالونات وورود ومولودة.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى