محمد علام - نهايات صغيرة.. قصة قصيرة

الحصول على مقعد في قطار العاشرة صباحًا المتجه إلى العاصمة، يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، خاصة إذا ما كان قطارَ الدرجة المميزة، الذي تتدفق إليه الجلاليب الصعيدية في تدافع مع قمصان شباب المدن والبنطلونات الجينز، وتتداخل هذه الفوضى الأزيائية مع جونلات الفتيات الملفوفات في عباءات واسعة أو في خمارات وأحجبة بأربطة مختلفة، أما الفتيات الجبارات، اللواتي يقتحمن هذا العالم بشعورهن، يأخذن رُكنًا وحدهن، يكفي أن تصعد واحدة منهن القطار لتلمح شبيهاتها فتنضم إلى ركنهن، غالبا ما يكونا من طلبة الجامعات، وغالبًا ما يكون ركنهن حديث الشباب المتكدس وراء باب العربة، أو باب الحمام.

الحصول على مقعد في هذا الزحام منعدم التنسيق؛ يُعدُّ أعجوبة الأعاجيب، والأعاجيب لن تتركني طويلًا لأهنأ بالجلوس وحدي في مقعد، أمدد قدمي على المقعد الذي أمامي بكل أريحية، فالقطار حينما يبدأ سيره ينطلق من بلدتي، وأكون أول الركاب، لكن سرعان ما تتدافع الجموع من كل بلدة نمر بها، وما هي إلا دقائق حتى كان الناس يتوزعون في الممرات بين العربات وبين المقاعد ووراء المقاعد، وفوق المقاعد أيضًا، حيث كان اثنان ينامان فوقي على حاملة الحقائب.

يجلسُ أمامي شابان يبدو عليهما أنهما حديثي التجنيد، الرأس حليقة، الذقن ملتهبة، سمراوان بلسعة على الجبهة، يتحادثان في صوت منزعج عن أمور كثيرة لا أهتم لها.

في هاتفي أخبارٌ عديدة عن أصدقاء عرفتهم في أرض الواقع، وأصدقاء أكثر لم ألتقيهم من قبل، ولا أعرف شيئًا عنهم سوى ما يشاركونه علنًا. لا رسائل جديدة في صندوق رسائلي، آخر رسالة أرسلتُها كتبتُ فيها:

أنا الآن في الطريق، وقد تحرك القطار منذ قليل، وحسب قوانين المسافة والسرعة فإن أمامي ساعتين وأكون في المحطة.

الآن يرتمي رجلٌ بجواري، كأن فيلًا ألقى بجسده، فشعرت بهزة مضاعفة في المقاعد بالإضافة لاهتزاز القطار نفسه. روائحُ عديدة جاءة معه، تجشأ ثم مسح فمه بظهر يده، ويبدو أنه من الأفضل لي ألا أفكر فيما تكون هذه الروائح.. التفت إلي وسألني: ماذا تفعل؟

سؤال وجيه في الحقيقة وهو يكشفُ عن مدى ضعف موقفي، فأنا لا أعرف ما أفعله الآن، كل ما أفعله أنني أستقبل أخبار أناس لا أنتظرها، وهذا شيء لن يقنع ذي الجلباب الصعيدي والشعر الباهت السواد، قلتُ له: لا شيء. وأغلقت هاتفي وانتبهت له. قطب حاجبيه، ثم أخرجَ عُلبة سجائره وامتدت يده لي بسيجارة، قلتُ له:

لا شكرًا.
لكنك تُدخن.

حسنًا كيف أشرحُ له أنني عاهدتُ فتاة أحبها على أنني سأقلع عن التدخين، إن الصعايدة لن يستوعبوا مثل هذه الأمور. قلت له أنني أحاول أن أتخلّص منها. لكن يده مازالت ممدودة بالسيجارة وهو يحدجني بنظرة، يبدو أنه انزعج، قال: لكنك غير جاد. أخذتها منه وأشعلتها، نفث دخانه بكثافة في سقف العربة ثم قال:

لي ابن في مثل سنك.. أنت في الجامعة أليس كذلك؟

لم أرد، دخان السيجارة يعتملُ في حلقي بصورة لا آدمية..

كان من المفترض على ولدي أن يكون في آخر سنة في الجامعة، لكنه لم يحترم نفسه، اشترى جيتارًا وأخذ يجوب الأفراح هنا وهناك..

هؤلاء الريفيون لديهم تصورات صارمة حول المهن التي يجب أن يشتغلها المرء..

يعتمدُ على ما شيدته من ثروة بشق الأنفس..

أود لو أسأله من أين أتيت بهذه السجائر القذرة؟ أخرجتُ هاتفي وأخذتُ أمرُّ سريعًا على صفحات الأصدقاء، وفجأة اختطفني خبرٌ من حديث الرجل تماما، لم أعد أسمعه، خبر وفاة شاب في منتصف العشرينيات، أشعر بقلبي يعمل كمطرقة بالكهرباء، صحيح أنني لم ألتقه من قبل، لكن كان بيننا حديث واحدٌ تقريبًا، فتحت رسائله لأحاول أن أتذكر آخر ما تراسلنا بشأنه، كان يطلب مني في آخر ما كتب لي أن أحادثه فور نزولي للعاصمة، كان ذلك منذ مدة طويلة، صحيح أنني زرتُ العاصمة أكثر من مرة، لكنني لم أحادثه أبدًا، لا أعرفُ لماذا، لكن أعتقد أنني لم أعد في حالة تسمح باكتساب صداقات جديدة..

إنني في الطريق إلى العاصمة الآن، ولم يكن في نيتي أن أحادثه أيضًا، إنه لم يكن في تفكيري بأي حال، لكنني أشعر بالعار الآن.. تُرى كيف يمكن للمرء أن يستقبلَ خبر وفاة شخص في عربة قطار؟ أين يمكنني أن أختبئ وأبكي؟ الجدران المعدنية تحاوطني من كل جانب، فجأة انتبهت للضجيج من حولي مما يعبر عن تزايد الزحام والفوضى، ولاحظتُ غياب صوت الرجل، وثِقلًا على كتفي، انتبهتُ فوجدته قد أراح رأسه على كتفي وراح في النعاس، الجنديان أمامي أيضًا نائمان وكل منهم يفتح فمه للشخير الطالع في تناغم، أنظر للرجل وهو ينام على كتفي كأنه ينام على مخدة في سريره، أود لو أصفعه بيدي على قفاه المخطط بتعاريج الجلد، هاتفي ينبهني لرسالة:

سأنتظرك على طريقة الأفلام القديمة التي تحبها،
على رصيف المحطة،
أحبك.

لم أستطع أن أكتب شيئًا، زاد الثقل على كتفي للغاية، وتضاعف الشخير المتصاعد إلى أذني، نظرتُ للرجل كان قد توقف شخيره وسال لعابه على قميصي، انتفضتُ وأنا أزعق فإذا به يسقط على المقعد الآخر دون أن يُحرك ساكنًا. أنظار ما يقرب من مئتي شخص تحدق نحو البؤرة التي أقفُ فيها، الهدوء الذي احتل المكان كان مخيفًا جدًا..

عندما وصل القطار إلى المحطة، كان الرجل قد لُفَّ وجهه في شال أبيض، يحمله بضعة ركاب ويهبطون به القطار متقدمين الجميع، هي واقفة وعيونها تلمحني وأنا أطأ الرصيفَ، الأرضُ تميد بي، ترفع يدها، وأشعر أن ما بيننا أبعد بكثير مما قطعه القطار..


محمد علام


* محمد علام: نهايات صغيرة

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى