نبيل محمود - محمود درويش وكتابه في حضرة الغياب.. هواجس شاعر أم نبوءة؟

(فتمتمتَ: كنا نبحث عن بيت، وصرنا نبحث قبر.) ص144

(أتيت ولكنني لم أصلْ.
وجئت، ولكنني لم أعُدْ!) ص147

عندما تكون الكتابة حمّى وجود، وهاجس موتٍ وغيابٍ وتغييب.. (ظلام، ظلام، ظلام. نجاةُ اللون من التأويل...) ص41.. على سرير الغياب وفي حضرة الألم، الشاعر يتذكر ويهذي ويتنبأ!.. لا يتنبأ بموته الخاص وغيابه الخاص كفرد، بل يتنبأ بالأسوأ! بضياع وطنه وتغييبه من خريطة الوجود.. الوطن الذي لطالما زرعه وسقاه قصيدةً فقصيدة.. فهل كان الشاعر يأمل في أن تزهر يوماً تلك القصائد، ويعود الشعب المشرّد يوماً، ليقطف من ثمارها الوطن الضائع؟! (.. وستهرب مما أنت فيه إلى عالم متخيَّل بحبر على ورق. أما الأغاني، فلن تسمعها إلاّ من راديو الجيران.) ص45.

لكن حسابات السياسة أدهى من حساسية الشاعر. فما حيلة الشاعر إزاء تحالفٍ مشبوهٍ بين الظلم والظلام لنظامٍ عالميٍّ بات متوحّشاً، يبتلع كل يوم، ورقةً من لوائح إعلانات الحرية وحقوق الإنسان؟ نظامٌ عالميٌّ ينكث بوعوده العقلانية، وينكص ويحتكم إلى الأساطير في رسم خرائطه السياسية الجديدة. (الأسطورة تغزو، والغزو يعزو كل شيء إلى مشيئة الرب الذي وعد ولم يخلف الميعاد. كتبوا روايتهم: عدنا. وكتبوا روايتنا: عادوا إلى الصحراء. وحاكمونا: لماذا وُلدتم هنا؟ فقلنا: لماذا وُلد آدم في الجنة؟) ص48.

وبعد حياةٍ حافلةٍ بمقاومةٍ محاصرةٍ ومأزومة. وتاريخٌ يكاد لا يتميّز فيه الخاص عن العام. وقضيةٌ تلتبس فيها الحدود بين الأصدقاء والأعداء، وتتقاطع فيها أهواء المتاجرين بنقاء الثوار، تتفاقم الأزمات والارتحالات والانكسارات. يتقلّب الشاعر بين الذكرى والحنين والمنفى، في صالة العمليات، وتختلط بتأثير المخدّر الحقائق بالهلوسات... (.. فاتصلتْ بالطبيب في ساعة متأخرة من الليل لتسأله إن كنت قد جُنِنْتَ حقاً. فطمأنها إلى أن ما تراه هو هلوسةٌ ناتجة عن جرعات التخدير العالية قائلاً: إن لا وعيه هو الذي يقاوم الموت. ولكن استعدوا لما هو أسوأ!) ص116. وما هو الأسوأ في هذا العالم المحكوم بالقوة الجائرة وسطوة المال؟ وبماذا يعلّل الشاعر النفس؟ وهو الذي ذابت كل الحدود بين همه الخاص والهم العام، ولم يعد الخلاص بالنسبة إليه شخصياً، ولم يعدْ منفصلاً عن الخلاص العام؟ (الحنين أنين الحق العاجز عن الإتيان بالبرهان على قوة الحق أمام حق القوة المتمادية... أنين البيوت المدفونة تحت المستعمرات، يورثه الغائب للغائب، والحاضر للغائب، مع قطرة الحليب الأولى، في المهاجر والمخيمات.... وشكوى الزمن المفقود من ساديّة الحاضر.) ص125.

إن رؤية الشاعر غير رؤية السياسي، وقضية الشاعر غير قضية السياسي، وسيظل التوجّس والارتياب من ألاعيب السياسة ومطباتها، يقلقه حتى وإن بدت للساسة فرصةً يظنونها سانحةً للوصول إلى الهدف بأقل الخسائر. إن رؤية الشاعر هي رؤيا! (.. عودة، استقلال، دولة، سلام، سيادة، سجّاد أحمر، وزارة، رئاسة – كلمات تشير إلى الشيء عن بعد ولا تعبّر عنه ولا تشبهه.) ص138. لذلك لن يقتنع بسهولة بالبراغماتية التي تحكم عالم السياسة. وبسلام غير متكافئ، حتى وإن سمّوه بالسلام العادل. وستظلّ الوساوس والهواجس تؤرّقه، والقلق لا يبارحه من استدراج خادع خبيث. فالشاعر بحدسه تكاد تقوده رؤيته إلى ما يشبه النبوءة. لكنه ولأنه صوتٌ مفرد بين أصوات، قد يساير ما يراه طريقاً ملغوماً بالخديعة. هكذا نرى اليوم أن الشاعر كم كان محقّاً في توجّسه وهواجسه. فالشاعر يرى أعمق وأبعد. ولكن التيار العام أقوى من جميع حدوسه وحججه. (تتساءل: أي داهية قانوني أو لغوي يستطيع صوغ معاهدة سلام وحسن جوار بين قصر وكوخ، بين حارس وأسير؟) ص146.

وها هي هواجس الشاعر تتحوّل، اليوم، إلى واقع. تحت عنوان ملفّق لا يجيده سوى دهاة السياسة المظلمة، والمتاجرون بالمال مقابل الحقيقة. (صفقة القرن) لتغييب وطن وتفتيت شعب كامل، وشطبهما من خريطة العالم والتاريخ، بحجة إحياء أسطورة؟ (صفقة القرن) أم هي (نطحة ثور) النظام العالمي الجائر؟

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى