محبوبة خليفة - ماريانا لاتسي.. قصة قصيرة ‎

وقف الصبي في منتصف الزقاق ليحدِّد مجال رؤيته جيداً وليتأكد ويعود ليخبرها بما رأى. كان النهار ساكناً لا ريح فيه، وكان الوقت شتاءً. شتاء هذا العام يشبه خريفه، مزن خلَّب وسحاب ركامي بلا مطر وسماء في معظم الوقت صافية زرقاء، والراية ساكنة تلتف حول العصاة القصيرة في خمولٍ ودعة لا تشي بشيء.

‎هذا الحال لن يعجب أمه التي تطلب منه كل نهار وعند عودته من المدرسة أن يطالع الراية ويخبرها بما رأى. ستحزن وربما ستكتئب، إذن لا داعي للتهويل، بعض خيالٍ لن يؤذي احد.

‎طرق الباب فاسرعت ملهوفة، قبَّلهاومازحها بسؤاله المعتاد (شنو غدانا؟) وترد كالمعتاد: ستجد ماتحب هذا إذا كانت سعيدة ،وستقول له: (كول اللي تلقاه) اذا كان مزاجها سيء.

‎هذه المرة بادرها بالإجابة قبل أن تلقي على مسامعه سؤالها اليومي؛ ترفرف ترفرف كلهم بخير أنا جائع ،فتحتضنه وتقبله وتساعده في تغيير ملابسه ويذهب مسرعاً لطبقه ليلتهمه…

‎درنة في بداية ستينيات القرن الماضي في شتاءٍ عادي ورتابة المدينة الصغيرة لا جديد في نهاراتها التي تبدأ مع أول شعاع ترسله شمس الله، وينتهي بعد أن تلملم ماتبقى من ضياء وتتسلل خلف الأفق تتدثر بألوان الوداع ،شفق احمر يُلهم من به مسٌ من شِعر أو سحرُ فرشاة أو لوثة عودٍ، وفي درنة يضاف لهؤلاء نفخة (زمارة) تنطلق مودِّعَةً نهار المدينة بنغمٍ يحمل آلام تراكمت يسلِّمُها جيل لجيل،تتردد بين أصابع كل من يحمل هذه الآلة الصغيرة. ينفخ أوداجه ويطلق زفرة داخل القصبتين القصيرتين -لا يتعدى طولهما بعض سنتيمترات- المربوطتين برباط جلدي ملون ويلعب بأصابعه على فتحاتها فتصنع الأنفاس نغماً يحيِّر كل من يستمع إليه. من ألّف هذه النغمات؟ ومن حفظها من الإندثار؟ ومن علّم هؤلاء الصبية هذه اللعبة؟ لا أحد يجيبك فأغلب أولاد المدينة يولدون بأصابع تجيد الحركة بين فتحات الزمارة لتهب الفرح والآهات…

‎ودَّعت (درنة) حجاج ذلك العام بالزغاريت والتهليل، الكل لوَّح (لماريانا لاتسي)* ودعا، وغنت البنات (ياباخرة ياماريانا يرعاك المولى سبحانه)!!

‎يعود الجمع إلى بيوتهم التي تختبر القلق والترقب لمعرفة أخبار أحبابهم وهم على ظهرها، في رحلة طويلة عبر البحر الأبيض المتوسط ثم تعرج من بورسعيد عابرة قناة السويس التي يختلط فيها ماء البحرين-الأبيض والأحمر- ويمر عبرها آلاف العابرين ومن بينهم حجاج المدن المطلة على ذلك الساحل الممتد من طنجة وحتى بلاد الشام ومنهم حجاج تلك المدينة الوديعة اللطيفةوالهادئة…

‎سوف لن يعرف أهل الحجيج وأقاربهم اخبارهم إلا بعد وصولهم بأسابيع -إن كان بعضهم سعيد الحظ-.. سيتفاجأ بصوتٍ يحبه عبر الراديو يبلغ السلام لعائلته فرداً فردا. فيصيح الجمع حول الجهاز الكببر وكأن حبيبهم قد خرج منه ومد يده للسلام. اما البعض الآخر فلن يعرف شيئاً إلا من تلك الراية التي تنتصب فوق بيوت من قصد ذلك المكان أو هكذا ظنوا وتواترت هذه الظنون حتى تحولت لشبه يقين، أو من برقيات تطمئن القلوب الخائفة هذا إن فعل بعض أحبائهم غير أن الكثيرين لا يهتمون أو لا يعرفون فوسائل التواصل قليلة، والهواتف غير متاحة لكل البيوت، غير أن صبينا كان حصيفاً، وذو حكمة، ظل يردد نفس الجملة على مسامع والدته، كلما عاد من المدرسة؛(ترفرف ياأمي) فينشرح البال وتنطلق الأسارير وتقبل على الصبي هاشةً باشّة…

‎لا تخرج كثيراً وإلى أين ستخرج؟ تتمشى في شوارع مدينة تحبها ولا تعرفها؟ لا بالطبع لن يحدث هذا.. لم تخرج النساء يوماً لنزهة فهن يخرجن مهنئاتٍ أو معزيات أو لزيارة أسرهن. يعرفن وقع خطاهن خطوةً خطوة، لن يغيرن المسار ولا يجرؤن ولا تعرف أقدامهن غيره. ستخرج والدته متلحِّفَة بجردها الأبيض الناصع البياض العابق بروائح البخور والمسك الدرناوي، ميممةً الجانب الأيمن من الزقاق مهتديةً بعين واحدة تطل بها على الدنيا من حولها! وتعدُّ الأبواب التي ستمر بها وعند الباب الخامس ستتوقف وتطرقه وسيُفتح لها وتحضن زوجات أشقائها وتدلف الى (وسط الحوش) حيث يمتد حصير كبير بشكل مستطيل وقد رُصَّت حوله طراريح* ملونة وعدالة الشاهي في أحد أركانه و(حمَّاس الكاكاوية) يُقلب محتواه بيدٍ ماهرة تقلب ولا تحترق…

‎هي تشتاق للوادي وتخشى أن يقبل الظلام -ونهارات الشتاء قصيرة- قبل أن تلقي نظرة من خلف سياج سانية بيتهم. تركت الجلسة وعبرت البهو الداخلي منطلقة إليها، كان المكان يضج بالخضرة بكل أنواعها. كل بيت في المدينة يزرع ولو القليل لتلبية احتياجاته. هذه السانية المليئة بالخيرات تحيطها أشجار التوت والرمان والمشمش ودوالي العنب التي تمول المطابخ بأساس المطبخ الدرناوي العريق والمحاطة بسياج تلتف حوله شجيرات الياسمين ساكنة حدائق المدينة وجناناتها الصغيرة…

‎تلتقي بجيرانهم.. تشعر بحب غامر للسيدات وقد جلسن تحت شجرة التوت.. تعلو ضحكاتهن ويتبادلن الحكي ورائحة الشاهي المعطّر تؤنسهن فتشتاق لوجه كانت صاحبته تزين هذه الجلسة بجمالها وحضورها الطاغي. تُطمئن نفسها القلقة بأنها ووالدها وزوجها بخير، تحييهن ويدعونها للجلوس معهن وتعتذر إلى وقت إخر وتعبر السانية إلى مستوى منحدر ببعض درجات تنزلهن لتمر بسانية أصغر بها نخلات تحبهاوتعرف جودهاوبركتها…

‎تسرع للسور المرتفع وتتلفت بحثاً عن صندوقها وتجده في مكانه فتصعد وتلقي نظرة عليه. إنه يشق المدينة لنصفين وتصطف حوله بيوتها من الجانبين ويستمتع سكان الضفتين بسحر المكان، وخاصة في شتويات سنين بعينها،حيث يندفع بمياهه الطينية وصوته الهادر عابراً إلى البحر الذي يحضن المدينة من غربها إلى شرقها.. فتربض وادعة بينه وبين تلال تؤنس فرحها وتبهج ساكنيها بطلتهاالفريدة.. فتتلون شواطئه بذلك اللون ويلهوا أهل الوادي وشاطيء البحر وتسعدهم هذه التبدلات.. غير أنه وتتذكر ويرتعش القلب لصورٍ إستحضرتها لغضبته وزمجرته ذات مساء ولازالت المدينة وأهلها يستعيدون ماجرى ببعض أسى وخوفٍ من غضبات مماثلة.. (تطلق نظرها)* لبرهة وتعود إلى جلسة العشية مع أشقائها وزوجاتهم، ثم تستأذن عائدةلبيتها، تمد الخطى المحسوبة وتقترب من البيت وفجأة تتذكرها وترفع رأسها نحوها لتطمئن ويا لهول ما رأت، ويا لهول ما رأت، الراية تلتف حول العصى بلا حركة. شعرت بألمٍ يعتصر قلبها وسرى الخوف والرعب ببدنها وعادت باكية وكأنها تنعى حجاج ذلك البيت زوجها وأمها وأبيها…

‎لم تنم تلك الليلة ولا الليالي التي تلتها ولم تعد تصدق الصبي وأخباره وتبدل الحال وحامت على البيت غيوم الأسى وزفرات الحزن والخوف…

‎لم تكن أيامها التي تلت تلك الزيارة تشبه أيامها قبلها واقترب الخوف حدَّ الهلع وتساءلت ماذا لو؟.. وتعود من توهان فكرها وتوبخ حالها لما كل هذا الرعب كل البيوت براياتها تعاني خمول تلك الخرقة وعدم رغبتها في الرفرفة لكن ساكناته يمرحن ويخرجن للزيارات ولا يلقين بالن لأسطح بيوتهن ولا لتلك العصا وما تحمله. ستون يوماً مرّتْ على ذلك البيت الواجم ولا شيء يبدد كدره…

‎تقترب الأيام ويزداد وجيب القلب ولا تجد بداً من تجهيز البيت للإستقبال أو للحزن. يأتيي من يساعدها ويعينها على الصمود فلا شيء يستحق كل هذا القلق…

‎تكثر الحركة في الزقاق ويخرج الصبي ليلهو مع رفاقه ويتبادلون الشكوى من حال بيوتهم القلقة.. لكن الآمال الكبيرة تسري بينهم سوف يحصلون على طواقي وجلابيب بيضاء وبعض ألعاب غريبة يحضرها الحجاج في العادة مسدسات تثير الضجيج وتضيء المكان بألوانها والبنات سيحصلن على العقود الملونة والغوايش والكبار لهم السبحات واللوبان وأغطية الرأس…

‎قلق لدي الكبار وبهجة عند صغارهم لكن الإنتظار واحد وطويل بلا أخبار إلا من برقيات قليلةلا تحكي كل شيء…

‎حل يوم دخول (ماريانا ل اتسي)الميناء وذهب الصبي مع أقاربه لاستقبال العائدون. كان الصباح في بداياته والشمس الشتائية الباردة تشرق على استحياء وتتموضع في طرف قصي خلف (عقبة الفتايح) وتتسلل ببطء إلى السماء الزرقاء…

‎تقترب القطعة البحرية الضخمة من الميناء وتلقي مراسيها ويظهر على سطحها حجيج درنة. تفحَّص الصبي الوجوه مرتعباً فمخاوف امه تلاحقه هذا الصباح وهو لا يعرف ماذاسيقول لها هذه المرة، فحبل الكذب قصير، أقصر من المسافة مابين سلم الباخرة وباب بيته، ولن يتمكن من خداعها مرة أخرى. لكنه وفي وسط وساوسه وقلقه لمح ثلاثة وجوهٍ يحبها هم ماغيرهم، وجه جدته وجده الأثيرين ووجه والده صاح جذلاً وانتظر اقترابهم ورمى نفسه في حضن أبيه وشكى له مما فعلت به أمه وتلك الراية الغريبة فابتسم الرجل…

‎عاد ثلاثتهم للزقاق الطويل الذي تصطف فيه بيوت عزيزة على قلب الصبي.. صبايا ذلك الزقاق يصفقن فرحات: (ياحجاج إن شاءالله بعودة .. واتجيبولنا شاش الدودة)*.. بعض من تلك البيوت تحمل على سطحها رايات كراية بيته. لكنَّ بيتاً بعينه سينزل الراية ولن يضعها على (قصعة العصيدة) فصاحبه أتم رحلته في ذلك المكان القصي وتدثّر بأرضه…

‎"م"

‎* (ماريانا لاتسي): باخرة يونانية كانت تقل الحجاج في الستينات.
‎* (تطلق نظرها): بمعنى تروِّح عن نفسها.
‎* (شاش الدودة): أقمشة الحرير.
نشرت في (السقيفة الليبية) بتاريخ21/2/2019

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى