رحيم زاير الغانم - النص بين مخيلتي الناص والقارئ

ان ما تنتجه المخيلة الشعرية من نص, لا يقف عند عتبة هذه المخيلة, بل أنها تتواصل مع مخيلة متلقيها/ القارئ, بفعل ما تحققه المسافة الجمالية كونها نقطة التقاء هاتين المخليتين, لذا يجب التنبه إلى الآثار التي يتركها النص على مخيلة القارئ النموذجي, لتحفزه على التحليق, ضمن أفق ومخيلة النص, وكذلك ضمن السياق العامل للمنتج الإبداعي, والتراكم المعرفي, وما يحدثه من فهم, الذي بدوره يحقق الوصول إلى المعنى الذي قصده الناص, وهذا لا ينفي تأويلا ثاني أو ثالث للمعنى, إذ ان النص الشعري, لا يخضع لتأويل واحد ينسحب على تأويلات أخرى, أو انه يضفي سبغة ما على مخيلة كل قارئ, لما لشفرات النص الشعري القدرة على تزويد المخيلة النقدية للمؤول بمعانٍ متعددة, لذا لا غرابة ان نجد القارئ (س) مثلا لو حظي بفرصة تمكنه من قراءة النص الشعري (ص) مرة ثانية , بعد ان اكتسب خبرة في قراءة النصوص, فأنه عندما يأتي للنص المفترض (ص), في المثال, لا يَقدِمُ لنا وهو حامل نفس المعنى الذي وصل له في القراءة الأولى, مع العلم انه نفس القارئ المفترض(س) , أي أن تنامي المخيلة والمعرفة والذائقة الفنية لدى القارئ نفسه لها أثرها الفاعل في الوصول إلى المعنى أو إنتاج معنى جديد, وبحسب الظروف والخبرات المكتسبة, وكلما تحقق الاتصال بين القارئ والنص, تكلما أسس لعلاقات مستقبلية بينهما, حتى أننا نجد القارئ يتمكن بفطنته من كشف أسرار النص الشعري من خلال تمكنه من خرق أفق التوقع, وفي هذا مردود سلبي على النص, كون الرتابة حلت بلعنتها واعتاد القارئ نمطية الناص , إذ لم يأتِ بجديد, يتمكن به من إبهار القارئ, ليصنف هذا النتاج ضمن النصوص العادية/ النمطية, التي لا تحرك بحساسيتها وجدان القارئ, كونها فقدت المبادأة و والمفارقة ووضوح الأفكار والرؤى, وهذا يعود لنضوب مخيلة الناص بالمقارنة لتوقد, مخيلة القارئ, لتحسب للقارئ الرجاحة في هذه الجولة.
لكننا قد نسجل في أحيان أخر رجاحة كفة النص, من خلال تخييبه أفق توقع القارئ, كون الناص اجتهد في الخروج من عنق توقع القارئ, متخذا من تغيير أفق التوقع سبيلا للفرادة والمبادأة والمفارقة التي تعتبر من ميزات النص الشعري الحديث, وقد نلمح خيطية تُنبئ من تمكن القارئ من توقع افق النص, لكنه سرعان ما يكسر هذا الأفق, وهذا النص هو المبتغى من الدراسة, كل ما سيتم تناوله في مجموعة ( هجير الهواجس ), للشاعر حامد عبد الحسين حميدي, كإجراء لإثبات ما تم ذكره آنفا.

(مسافة موؤدة .. تكدست
على نثار جريح,
للسراب شرنقة, أسقمتها
انحناءات الهديل...) ص13

من مواصفة النص الشعري الحديث انه يصل إلى متلقيه عبر ما فيه من إيحاء وتوهج مفردة, وعدم اتصاله بما سبق إنتاجه, وهذا ما يدغدغ مخيلة القارئ, للاسترسال مع النص الذي كما يبدو لأول وهلة بنزعة خيطية, لكنها غير منسابة إلى الرتابة, إذ ان فَخاخ النص عجلت بكسر أفق التوقع, فالمسافة الموؤدة التي تتكدس على نثار الجريح, في انزياح أضفاه الناص, شكل كسرا لأفق التوقع, أردفه بسراب شرنقة أسقمتها انحناءات الهديل, في خرق يُثيرُ تساؤلاً: من أين للسراب شرنقة؟ قطعا, ان العين التي اضمحل في افقها الأمل, صارت تتصور للسراب شرنقة, بعدما انحنى هديل الحمام, فبعده لا مسلمة دائمة البقاء, فلا يمكن احتفاظ الأشياء بموجبات ديمومة حدوثها.

(خارجاً
تلملمُ بقايا السواد
تنثر أحزانك المتحجرة,
..في كأسٍ مثقوب
خرافتك الماطرة
تنزلق, من وراء النافذة) ص 21

حين تتواءم مخيلة الناص والقارئ, تنتج لنا معنى جديد, أو قل معان عدة, مادام المؤول حاضر لفك شفرات النص الشعري, التي تمنح القارئ النموذجي, مِثل هكذا فرصة, عندما تأخذ من الطبيعة شفرات من اجل ترصين النص بها, وما نجده من بقايا السواد ونثر الأحزان المتحجرة, كدلالة لثباتهما في مخيلة الفرد كنسق جمعي, ألفَ هاتين الثيمتين في النصوص الشعرية, لكن المفارقة ان الشاعر تمكن من جمعهما بشطرين متجاورين, غير معتبر بكشف أفق التوقع, إذ انه انتظر هو الآخر, بعدها ببث شطر مفارق, جمع من خلاله, السواد والأحزان المتحجرة, في كأس مثقوب, متكئ على خرافة ماطرة, لكنها هذه المرة تنزلق من وراء النافذة, في كسر لأفق توقع القارئ المواكب لنتاج الناص.

( وأنحني في جوفه,
الصمتُ الهرم..
يتوكأ على عكازه,
يمسحُ أدمعه على جدار الظلام,
وأنين الغربة
ينساب في قبضة الريح,
أفعوانا...) ص29

ان النص الشعري المفارق, ينتج معنى مفارقا أيضا, يحمل ذات الأهمية والتوجه, ولذا يحتاج إلى قارئ, بمواصفة تلقي هكذا نص بمحمولات هائلة, تحتاج من القارئ التأمل والتريث في إصدار الحكم القاطع, من اجل إنتاج المعنى, فالنص على هكذا مستوى من تبني مشروع كسر أفق توقع القارئ يحتاج لقارئ لا يؤمن بالحكم القبلي, أو لنقل أكثر روية وصبرا إنصافا للنص, فمن ينحني في جوف الصمت, الهرم!؟ ليتوكأ على عكازه؟! أنه كسر توقع من نوع خاص, مع العلم ان الشاعر جمع الصمت, والهرم وهما في تجاور دلالي نوعا ما, بل انه يذهب بعيدا في كسر أفق توقع القارئ, عندما يمسح أدمعه في جدار الظلام, وأنين الظلام, ولا غرابة ان انساب في قبضة الريح أفعوانا.

(في منامهم: رأيت
عناقيد من الطفولة,
تخرج من شرانق الحياة
تشرب هوس البقاء
رمالها على جدار) ص73

ان مخيلة القارئ حاضرة لمحاكمة النص الشعري, مادامت المخيلة منضبطة بأطر نقدية, فلا سبيل لمخيلة الباث إلا إنتاج نص شعري يتوافق مع هذه القدرة, وبذا يمكننا عده الرقيب الايجابي, الذي يحمل حسا بالمفردة والجملة الشعرية أو بالنص الشعري, كبناء فني متماسك, لذا يُنتج النص وفي الحسبان, تصاعد البناء الفني للنص الشعري, مع مفارقة الرتابة الخيطية التي قد تشيع نوعا من الملل, التي تحفز الناص إلى إنتاج نص يحمل سمة الفرادة, فرؤية العناقيد في المنام تصرف المخيلة إلى خيطية نصية متعارف عليها, كعناقيد العِنَب, لكن النص غاير التوقع, عندما حرف بوصلته من الاعتياد إلى المفارقة, في جملة (عناقيد من الطفولة), وما خروجهم من شرانق الحياة إلى معنى أشمل مُثِلَ في جملة (تشرب هوس البقاء), وفي هذا خروج من عالم الأحلام/ الرؤية إلى الدخول في عالم الرؤى وبث الأفكار, وما فيه من إنتاج لمعنى المواجهة والتحدي, مع التقييد التام بالمعنى الافتراضي الذي أفاض من المنام, لكنه ضمن أطر الحياة التي امتدت سلطتها إلى عوالم أخرى.
نخلص إلى ان الناص يسعى من إنتاج نصه الشعري إلى مد جسور التواصل بين النص والقارئ, عبر مخيلته ومخيلة القارئ, على اعتبار ان الناص, عندما ينتج نصا شعريا وضع في حسبانه نوعية متلقيه, واجتهد في صنع نص شعري مطابقٍ لما يستهدفه القارئ, وهذا بالطبع خاضع لمخيلة ناضجة, بحيث أن بمقدوره صناعة نص يراعي مستوى قارئ محدد/ القارئ النموذجي, ولا يقف عند هذا الحد بل يتعداه إلى خرقه لأفق التوقع, في تغييب تام لأفق توقع القارئ, مما يضفي على النص الشعري سمة الفرادة والمغايرة والتي من شأنها استنهاض حساسية وجدان القارئ, التي هي امتداد لحساسية وجدان الشاعر, لنجد توقد المخيلة حاضراً في النص الشعري, في نأيٍ عن الرتابة أو ما يمارس من قتلٍ نصوصي بالمجان.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى