محمد المطرود - كرة القدم بدون معلّم

محمد المطرود


قرأتُ في بداية حياتي ثلاثة كتب: "تعلّم الإنجليزية في خمسة أيام"، وأخذت منه I love you وthank you وwhat والعد من واحد إلى عشرة.

"السحر الأسود في جلب الحبيب الأوحد"، تعلّمت منهُ "حشنش حنشنش جوا الحشيش خشخش"، وبدلاً من أن أجلب بنت الجيران التي كانت تجلس معي في نفس المقعد الدراسي، صارت تشيح بوجهها عني، أي انقلب السحر على الساحر.

"الكاراتيه بدون معلم" تشاطرتُ فيه على أقراني، قلّدت "بروس لي" في تسريحته، وأخرجت فريقاً من الفتية إلى البرية، وصرت مدرّباً قبل أن أنهي قراءة الكتاب، أي صرتُ معلماً قبل أن أكونَ تلميذاً. وهنا كان فراقي مع هؤلاء الحمقى الذين يركضونَ خلف كرة، ولطالما ظنّنتُ أنّ رؤوسهم هي الكرات التي تتدحرج، وتوهمتُ لوقت طويل أن أربعاً وعشرين كرة، إذا احتسبتُ حكم الساحة، تتقافزُ كالسعادين في مساحة ضيقة من الأرض.

وكانت الرؤوس تختلفُ في حين أن لا لباساً موحّداً يلبسه الفريقان في تلك القرى البعيدة المعمّدة بالفقر والغبار. الموحّد كان في باحة المدرسة "المريول" المائل إلى البني، وتحية الصباح و"قائدنا إلى الأبد" وشعار: "كن مستعداً لبناء المجتمع العربي "الموّحد" والدفاع عنه.. الجواب: مستعد دائما". وعرفنا في ما بعد أننا كنا مستعدين للعب آنذاك وتحويل جماجمنا إلى كرات صغيرة، ولم نكن أبداً على استعداد لبناء أبراج "موحدة" فوق طاقة احتمالنا.

كنتُ أتخيلُ عدواً مفترضاً، قد يكون وحشاً، أو خرافة، فذهبت في شأني إلى ما يسمىَّ برياضة "الدفاع عن النفس" وحزتُ أحزمة في رياضة قاسية وجوائز محلية، قوَّتني، وجعلتني أفرضُ شروطي في ألعاب أخرى. حتى أن مدرّس التربية الرياضة في الثانوية ضمني إلى منتخب كرة الطائرة، رغم جهلي الشديد بهذه اللعبة. وفي الفترة الأبكر كنتُ إذا جئتُ الملعب فأنا قلب الهجوم ورأس الحربة، وإذا كانت هناك ضربة جزاء للخصم أكون أنا حارس المرمى، وإذا كانت لنا ضربة الجزاء فأنا من يسدّدها، على أنني لا أصدُّ كرة في حالة وجودي كحارس للمرمى، ولا أهزُّ شباك الخصم في التسديد.

إلى أن حدث وجئت متأخراً إلى مبارة بين فريقنا وفريق قرية مجاورة، ولأنه لا قدرة للتخلّي عن أي من اللاعبين فقد اقتضى الأمر بانسحاب حَكَم الساحة وتنصيبي حَكَماً، في نوع من الترضية. وفور دخولي، وقبل الصافرة الأولى مني، جاءتني رمية من أحدهم، شعرتُ أن الكرةَ الخفيفة صارت كتلة حديد التصقت بجزء من جبهتي وعيني وأنفي. وللحظة اسودَّت الدنيا وسال سائل حار تلمسته بأصبعي وفمي، مقلداً بطلاً ما رأى دمه. ركضتُ خلف الجاني وركلته، ثم تحوّلت المباراة إلى معركة. تناسى الجميع الكرة وتحولوا إلى مدافعين عن أنفسهم. كان ذلك اليوم يوم اعتزالي الملاعب.

"وما الدهر إلاّ من رواة قصائدي/ إذا قلتُ شعراً أصبح الدهر منشدا"، قالها المتنبي حين كان "مالئ الدنيا وشاغل الناس"، قبل أن ينحيه الزمن من خلال تحويل السؤال من "من هو" إلى "ما هو" مالئ الدنيا وشاغل الناس؟

تحوّل الناس إلى الاجتماع معاً في صناديق كبيرة تسمىَ "ستادات"، أو التلطي خلف شاشات عملاقة، من أجل الرهانات والخلافات. واعتداء بعضنا على بعض لفظاً ولكماً، يجعلني، على أقل تقدير، متابعاً ومتحمساً للمونديال، ومناقشاً غير سيّء، رغم جهلي الكبير بأسماء اللاعبين والأندية، فالمعلومة الآن تأتي على طبق من الراحة، ولا حاجة للركض خلفها، ركض الحمقى في قريتي.


* شاعر من سوريا

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى