رحيم زاير الغانم - النص والعالم في دراجة هوائية

حين يشرع القارئ في تأويل نص ما, فأن عليه الكشف عن شفرات في العالم/ النص الحقيقي, ليتمكن من تفسيره, فلا نص خيالي من دون نص حقيقي, يضاهيه في الأهمية ويزيد عليه في سعة الدلالة على اعتبار ان النصين يسبحان في فلك الخيال والطبيعة, وما من نص خيالي بلا شفرات يمكن للقارئ ملاحقتها كي يصل إلى تأويل للمعنى, وإلا كيف يمكننا من إنتاج معنى جديد, يحاكي الواقع, وهذا لا يمنع من ان (يكون النص عالما مفتوحا حين يستطيع المؤول اكتشاف ما لا يحصى من الترابطات) بحسب امبرتو ايكو/ (التأويل والتأويل المفرط), وقد يذهب الكثيرون من إمكانية اقتناص المعنى, متخذين من الإفراط في تأويل النص ذريعة من تحقيق الفهم المطابق للمعنى الذي أراده الناص, وقد ينشغل البعض كثيرا في قراءة النص كي يصل إلى تأويل ما, وقد يصطدم ان ليس هناك تأويلا نهائيا مادامت السطور تشي بالكثير من التأويلات, فمن يدرك ما جاشت به الصدور, ولم تحقق ما ذهبت إليه, فالشاعر قد يشرع بإنشاء نص, بحسب ثيمة اعد لها العدة لكن في لحظات الإبداع الشعري تنحرف بوصلته الخيال إلى إنشاء نص مغاير لما أراد, فما بالك بتأويل القارئ, هل يمكنه أدراك تأثير هكذا تعرجات وزحافات الثيم لصالح أخرى, لذا من الضروري الإقبال على النص الشعري من دون حكم قبلي, متخذين من الشفرات والعلامات الدالة في العالم الحقيقي متكأ, من اجل إنتاج معنى يتطابق إلى حد كبير مع المعنى الذي قصده الباث, لذا سنعمد في هذه الدراسة المقتضبة إلى تناول مجموعة ( دراجة هوائية) للشاعر عمر السرَّاي في ضوء ثيمة السواد وما ينتج عنها من رفض وإدانة لواقع معاش, وفي هذا فرز حقيقي للقسوة التي يفرضها العالم على النص.
(تعالي.. لأكتب لك على السبورة حكمة اليوم بالطباشير.. أجل..
بالطباشير فهو آخر ما تبقى من حلم زمن أبيض.. )
ان تأويل النص الشعري لا يتحقق إلا بالوصول إلى فك شفرات تنتمي إلى العالم الكبير على اعتبار ان النص الشعري هو العالم الصغير, إذا اعتبرنا ان النص (يتأسس على تشخيص علاقات التعاطف التي تصل الكون الصغير بالكون الكبير) ايكو, هذا من جانب ومن جانب آخر, يجب على القارئ ان ينفذ لفهم المعنى الذي قصده الشاعر وان قصرت الرؤية عن الوصول إليه تذهب إلى إنتاج معنى جديد فالنص الشعري وعبر سطوره يشي بتأويلات لا حصر لها, وهذا بالضبط ما نجده في المقطع الانف, إذ نلمح ترابط النص بالعالم عبر الكتابة والقراءة فالنص عالم صغير مكتوب ومقروء والعالم الحقيقي كذلك, عبر أحداثه المختلفة, الأحداث السوداء التي أغلقت آفاق المعرفة والتفاؤل والأمل, حتى ضاق بنا الأفق لنركن إلى بياض الطباشير, قبالة كل هذا السواد الذي اتسخت به أيامنا, يا ترى ماذا سنكتب, غير كلمات تُمسح في الدرس القادم بعد أول فرصة للراحة من هذا العناء, وان أتى الدرس الذي يليه هل نكتب عن واقعنا درسا ابيض؟, أو لنقل دروسا بيضاء, هل تفي لمواجهة سواد عالم حالك؟!

(مدينتنا. . التي يوِّزع فيها وكيل التموين كل شهر طمغةً سوداء
على جبهات رجالها.. /مدينتا.. التي تقطع الشارع كل وفاة أحدهم.. وكل موكب ..
/أو حسب المزاج.. )

لا نحتاج إلى الإفراط في التأويل مادام قد تحقق لنا كشفا للمعنى الذي ذهب إليه النص, والذي قد ينتج عنه تطابقا بين المعنيين, إلا انه سينتج معان عدة, فالنص لا يقف عند معنى ما, وما ثيمة السواد, الطاغية على المدينة إلا علامة دالة على الجوع والحزن والكمد مثل وكيل التمويل, إيقونة الشبع المتخيل, الذي لايرعوي عن ترك بصمة السواد التي لا تفارق جبهات الرجال (طمغة سوداء), وشوارع سوداء كذلك, فهي لا تفتح يوما إلا وتقطع لأيام عدة, لكثرة النافقين من الجوع, ولا خلاف على المواكب المرفهة التي تواصل تقطيع أوصال المدينة أو حسب المزاج وفي هذا تكريس للسخط الذي يقف أمامه الشاعر موقف الرفض والإدانة لواقع مرير, واقع المدينة والإنسان في أيامنا وفي هذا الالتصاق بالواقع, كشف لقسوة عالمنا الكبير, إذ لم يبالغ العالم الصغير/ النص/ المدون, فهو مرآة عاكسة للواقع المرّ.

( بأني وان صليت خمسا../ سأحافظ على تقليدي الأوسط../ بأن أئدك متى ما أشاء../ فلا تسألي../ بأي ذنب قتلت..! )

على القارئ إلا يعتمد قراءة أولى وثانية فحسب بل يجب ان يحسن قراءة النص الزاخر بالمعنى, فهكذا نصوص تحقق له حسن الوقوف على الكلم الدال, فكلما أعاد القراءة كلما اثري بالفهم, ولا يتحقق له ذلك, ما لم يوسع أفق التوقع ليتم له كشف الترابطات العظيمة بين النص والعالم ( ومن يدعي اكتشاف المعنى المزعوم يكون على يقين من أنه ليس المعنى الحقيقي حيث يكون ذلك الأخير هو الأبعد ) ايكو, في قراءة فاحصة للنص, نجد الموقف من حكم ألما قبل حاضرا وبقوة بعدما كان اليقين بأنه ولى لغير رجعة في كسر لجمود التوقع, نعم هو إنتاج لمعنى جديد أسس بأثر جاهلي, أنتج لنا سوادا بأثر فكري رسخته عادات و تقاليد متأصلة في البنية المجتمعية, وما شعارات حقوق الإنسان التي صدّعت رأس العالم, إلا مواء قط صغير, لم يرتقِ إلى مستوى الافتراس الحاصل عبر سواد التجهيل, وفي هذا إدانة ورفض جليين للواقع المعاش.

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى