معن مصطفى الحسون - رجل وامرأة

اللقاء

مصادفة التقيا. في أحد المقاهي. كان المقهى خالياً إلا منهما. جلس كل منهما على طاولة بعيداً عن الآخر. تبادلا نظرات حائرة. مرت لحظة صمت. لا أحد -سوى الله- يعلم ما دار بخلد كل منهما. حاول كل منهما للوهلة الأولى اصطناع اللامبالاة. فطلب كل منهما فنجاناً من القهوة. ثم جعلا يحتسيان القهوة بصمت وقد أصابهما حياء من نظرات النادل إليهما. حيث كان هذا الأخير يرمقهما بنظرات ذات مغزى. جعل كلاً منهما يحتسي القهوة الساخنة ويدخن سيجارة ثم يختلس النظرة إلى الآخر. يختلسها اختلاساً. وكان النادل ما زال يرقبهما اختلاساً هو الآخر. أحس كل منهما أنه يكاد يحترق شوقاً للقاء الآخر. لكن نظرات النادل الصامتة كانت شوكة في الحلق. غصت الأنفاس. تهدجت. واستمر الصمت سيداً على كل شيء. وحين فرغا من احتساء القهوة. عاد الصمت والحيرة يطرقان بابيهما. فكر الرجل طويلاً فيما ينبغي فعله. وفكرت المرأة بالموقف المحرج الذي وضعت نفسها فيه. ثم فكرت بنظرات النادل. وبأشياء أخرى غريبة عنها.

خطوة إلى الأمام

عندها. وبعد أن استطال الصمت حتى غدا صراخاً جوانياً طاغياً. نهض الرجل. توجه بخطوات ثابتة نحو المرأة التي جعلت تعد خطواته ودقات قلبها.

وصل الرجل إلى طاولة المرأة. انحنى بكل أدب واحترام وهو يقول:

-هل تسمح سيدتي بمشاركتي في تناول فنجان من القهوة الساخنة.

تلكأت المرأة واضطربت. لكنها تماسكت وردت بخبث.

-لقد سبق لي أن تناولت قهوتي للتو.

لكن الرجل عنيد. وهو فوق ذلك داهية. قال:

-إذاً كأساً من النبيذ الأحمر.

الخمرة!.. قالت المرأة في سرها. أنا سكرانة دون خمرة. ولكن لا بأس.

ثم تساءلت:

-إذاً يرغب السيد في مجالستي.

انحنى الرجل باحترام فروسي وهو يردد:

-هو ذا بالضبط يا سيدتي.

ثم حانت من كل منهما التفاته نحو النادل. كان هذا الأخير يقف غير بعيد عنهما يرقب ما يحدث بصمت مطلق.

وافقت المرأة بعد تردد قصير. واتجها إلى طاولة ثالثة. طاولة جديدة.

قال كل منهما في سره:

-كأن ثمة قوة خفية تسير الأحداث. إن هذه الأرمونية غير طبيعية.

ثم قال كل منهما في سره:

-لعلها الغريزة!

ثم تساءل كل منهما في سره:

-لعله الله.

الصفقة

قال الرجل للمرأة:

-أنت جميلة

ارتبكت المرأة وقالت في سرها:

-لعلها الخمرة!

ثم ردت:

-وأنت أيضاً لا تخلو من وسامة ثم إنك مفتول العضلات.

مرت لحظة صمت. قطعها الرجل بقوله:

-لم لا نعقد صفقة بيننا. ها أنت ذي ترين أن المقهى خالٍ. وليس ثمة أحد سوانا. وهذا النادل صامت. لا تستغربي فهو قد يبقى صامتاً إلى الأبد. إن هذه هي بالضبط مهمته.

ردت المرأة:

-من يدري؟ هل تعتقد حقاً أنه سيبقى صامتاً إلى الأبد؟

ارتبك الرجل. لكنه تماسك وقال:

-آمل ذلك.

قالت المرأة:

-ما هي إذاً هذه الصفقة التي تريد عقدها معي؟!

رد الرجل بخبث:

-ألا تريدين أنت أيضاً أن تعقدي صفقة معي؟!

ارتبكت المرأة. لكنها عادت وأجابت بلا مبالاة:

-هذا جائز.

قال الرجل بصرامة:

إذاً لنبني برجاً.

تساءلت المرأة باستغراب:

-وما نفع البرج؟

قال الرجل:

-يمكننا أن نقطن فيه. وهو سيقينا من الحر والبرد. وسننجب أطفالاً لا حصر لهم ولا عدد ثم نعيد تشكيل الكون حسب رغبتنا.

تساءلت المرأة:

-أرى أنك قد أعددت كل شيء مسبقاً!..

ابتسم الرجل وقال:

-لم يكن تفكيري بصمت عبثاً.

قالت المرأة:

-حسناً أني أوافق

لكن كلاً منهما شعر في داخله أن هذه الإجابة متسرعة بعض الشيء. لذا مرت لحظة صمت فكرت المرأة في تسرعها بحيرة بالغة. وفكر الرجل باستغلال الموقف فقال دون أن يعطيها مهلة إضافية للتفكير.

-ولكن ستكون لكل منا مهامه المنوطة به.

شعرت المرأة أنها تغرق في بحيرة لا قرارة لها. لكن الأوان كان قد فات. إنها مضطرة الآن لمتابعة اللعبة حتى النهاية. وقد شعرت في الوقت نفسه أن ثمة خدراً أصاب قدميها. فتخلصت من حذائها بغية تحرير القدمين. ثم أجابت وهي تكاد لا تعي ما تقول:

-أنا أيضاً أعتقد أن لكل منا مهامه الخاصة به.

شعر الرجل أنه يسيطر على الموقف تماماً. قال:

-المنزل يحتاج إلى تنظيف. إلى إعداد طعام. إلى عناية بالأطفال وهذه كلها سوف تكون من اختصاصاتك.

بردت أطراف المرأة. وشعرت بعجز تام. لكنها تمتمت:

-وأنت؟!

رد الرجل:

-أنا من سيكدح طول النهار. منذ الصباح وحتى المساء ليفوز بلقمة عيش له ولكِ ولأطفالنا إن هذا عمل شاق. والنساء كما هو معروف غير قادرات على بذل الجهد في سبيل كسب القوت اليومي وتأمين مستقبل الأولاد.

عندئذ. أسقط في يد المرأة. وشعرت مرة أخرى أن ثمة قوى خفية تعبث بها. فكرت في كلام الرجل. في تكوينها الجسماني. للأسف لم تفكر المرأة في هذه اللحظة بالذات بأن للعقل طاقات تفوق طاقات الجسد. فانهارت أمامه بغتة وهي تردد:

-إني موافقة.

عندئذٍ تأبط كل منهما ذراع الآخر. وخرجا من المقهى. وكان النادل ما زال يرقبهما بصمت.

في أعلى قمة البرج

كانا مضطجعين على سرير ضيق. متلاصقين. وكانا عاريين.

قالت المرأة:

-لقد أنجبنا الكثير من الأولاد. وقد نالت منا وعثاء السنين.

قال الرجل بثقة:

-ما زلنا شابين. ما زلت جميلة وما زلت قوياً.

ثم قال:

-لنقاوم

وردت المرأة:

-لنقاوم

ثم ما لبثت أن تنبهت إلى أمر شديد الأهمية وقالت:

-أحتاج إلى قليل من المكياج والصباغ لأعود صبية جميلة تسر ناظريك.

قال الرجل وهو أشبه بالحالم:

-إني أفكر في تغيير العالم.

قالت المرأة:

-أحب ممارسة الحب معك كما كنا نفعل أيام زمان.

قال الرجل:

أحب الدخول في حرب مقدسة.

قالت المرأة:

-أريد ثياباً جديدة. يجب أن تشتريها لي.

قال الرجل:

-أحتاج إلى بعض الأسلحة لتجنيد الأولاد من أجل خوض معركة مقدسة تهدف إلى تغيير العالم.

قالت المرأة:

-لقد ملأت التجاعيد وجهي.

وقال الرجل:

-لقد عم الفساد في الأرض ونحن بحاجة إلى دين جديد.

رددت المرأة بإلحاح:

-أحتاج إلى ثياب جديدة. إلى مساحيق جديدة. إلى حب جديد. إلى لذة جديدة وأبدية. إلى عطفك وحنانك. هذه هي جنتي.

قال الرجل:

-أحتاج إلى التفكير في الميتافيزيقيا. إلى ابتكار أخلاق ونظم وقوانين تحدد العلاقة بين الإنسان والإنسان بين الإنسان والطبيعة بين الإنسان والله.

الثورة والفراق

قالت المرأة:

-إننا مختلفان.

رد الرجل:

-لا أعتقد

قالت المرأة:

-لقد خدعتني

قال الرجل:

-هذه هي طبيعة الأشياء.

قالت المرأة:

-كم أكرهك.

وقال الرجل:

-كم أحبك.

قالت المرأة:

-أنت سادي وأناني

وقال الرجل:

-أنت جميلة وساذجة وغبية

وهكذا افترقا. وكل منهما يحمل بين أضلاعه ألماً ممضاً.

اللقاء الأخير

صدفة التقيا. في نفس المقهى. كانا عجوزين. وكان ثمة نادل. النادل نفسه لكنه تحول إلى عجوز هو الآخر. وكان المقهى خاوياً إلا منهما. دعاها إلى طاولته. فلبت الدعوة وهي تقول:

-هذه المرة ليست كسابقتها.

قال الرجل بمرارة وأسف:

-أعلم ذلك

قالت المرأة العجوز:

-لقد لعبت بي طويلاً. وقد أزهقت كل شبابي وصباي من أجلك.

قال الرجل:

-لست مذنباً.

تساءلت المرأة:

-من هو المذنب؟!

قال الرجل:

-لعله الحظ

ردت المرأة:

-لا أؤمن بالحظ ولم تعد تنطلي عليّ ألاعيبك

قال الرجل: لعل الله قد كتب عليك ذلك

ردت المرأة:

-الله أرحم من أن يفعل ذلك بي وبك

عندها صرخ الرجل بغضب:

-لعله هذا النادل. الخسيس. الواطئ

ضحكت المرأة ضحكة مرعبة ثم تمتمت:

-ما زال النادل صامتاً.

عندئذٍ تقدم النادل نحو الرجل والمرأة. ثم همس بكل لطف وأدب واحترام:

-أرجو منكما دفع الحساب. لأن المحل سيغلق بعد قليل. هذه تعاليم البلدية وأنا آسف لذلك أشد الأسف.

عندها صرخ كل من الرجل والمرأة:

-إنه الكاتب

وهنا كفّ الكاتب عن متابعة الحكاية. وانتهى النص.

1998



معن الحسون

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى