سعيد منتسب - فاطمة المرنيسي.. الأنوار تتقدم بخطوة

أول عمل قرأته للمرنيسي، بشكل كامل، هو «نساء على أجنحة الحلم»، وأدركت أن «النساء كن مشغولات باختراق الحدود، مهووسات بالعالم الموجود خارج الأسوار، يتوهمن أنفسهن طيلة النهار متجولات في طرق خيالية». فهل كانت الكاتبة إحدى تلك النساء اللواتي ظللن يغزلن القيد حين كانت الأسوار ترتفع حول البيوت، وحول المدينة؟
في نظري، ليس هذا الكتاب مجرد سيرة ذاتية، بل عملا تخييليا منشغلا ببناء «رفض تفوق الذكور» و»خُلِق الجميع متساويين»، وهو الانشغال نفسه الذي رأيناه في كل كتابات فاطمة المرنيسي، منذ «الجنس كهندسة اجتماعية» و»العالم ليس حريما» و»سلطانات منسيات» و»الحريم السياسي».. إلخ. فهذه الكاتبة الفذة لم تتفاد قط الحفر في ما يزعج، وكانت تدري أن «المرأة تركب مخاطر كبيرة حين تستعمل أجنحتها». لم تستعمل مظلة للوقاية من الرصاص، وكانت دائما بالمرصاد لما قد يصبح قيدا.
كانت فاطمة المرنيسي تفهم جيدا ما معنى القيد، وما معنى الحجاب، وما معنى الحريم، وما معنى إصاخة السمع للعجائبي، وما يؤسس «سلطة الذكورة» من رموز وعلامات وأساطير وحكايات وسير شعبية.
لقد أدركت المرنيسي، منذ البريق الأول، أنها ممتلئة حتى آخرها بالأحلام والأمنيات، وأنها تفور بنزوع نحو تقمص الريش. وهكذا جاءت كتاباتها ثورة مهموسة وقوية على تلك القلعة التي تتوارى خلفها «نساء على أجنحة الحلم». كانت تكتب أفكارها ومشاعرها، كامرأة مثقفة وذكية، بأسلوب ساخر (أحيانا) يصلح لتقويض الإيديولوجيات الجاهزة. فكانت كتاباتها، تبعا لذلك، مشدودة إلى الدفاع والهجوم بلغة واضحة وميسرة، وغامرة بالتأمل والحكي وقوة الملاحظة والقراءة.
لم تستفز فاطمة المرنيسي الخصم، ولم تكن منشغلة بذلك، ما دام قد اكتشفت «هشاشة الرجال وخوفهم من الهجر، وأن ذلك هو سبب مغالاتهم في التحصين». الرجال مطاردون بكيد النساء. ألا يخبرهم القرآن بأن «كيدهن لعظيم»؟ هذا هو إطار التفكير العربي الذي كان يهدد شهرزاد. الرجل ليس حرا، وكل تصرفاته تتكئ على إحساسه القوي بالتهديد. وهذا تفكير غير مبهج. «لن يخطر ببالي قط أن أربطه بشيء مبهج»، كما تقول المرنيسي عن الحريم.
وأزعم أن فاطمة المرنيسي خرجت إلينا ناضجة كأنها لا تحتاج إلى تاريخ، وأنها معترك فكري منشق عن العادي. امرأة معتقة، ولا أظن أن أي حركة نسائية مغربية (أو عربية) لم تأكل من خبزها. وكثيرون، هنا وهنالك، لم ينتبهوا إلى أن لها جلدا آخر، وأن كل أفكارها تتولد كالشرارة، وأنها صيادة مفارقات صعبة، وأنها تجيد وضع السؤال في الشرك، تماما كما استطاعت شهرزاد أن تضع «شهوة الرجل» في قمقم «الإمتاع والمؤانسة»؛ فشهرزاد ليست هي الحطب سريع الاحتراق، بل هي «المرأة الأعلى»، فعلا وصدقا، في التمثل العربي والإسلامي، بينما تمثل في نظر الغرب الجنس والتشهي والترميز العنيف للهيمنة الذكورية في المجتمع الشرقي. تقول المرنيسي إن مفهوم الحريم في الشرق «ارتبط بالتاريخ وفي قصور الخلفاء ومن يحيط بهم من علية القوم وهذا الحريم هو مفهوم مكاني وزماني محدد، أي أنه محدد في مناطق وبقع محصورة في فترة زمنية محصورة، أما المرأة العربية الإسلامية خارج هذين الإطارين: الزمان والمكان، فإنها بنت وأخت وزوجة وأم تحظى بالرعاية والاحترام على الرغم من الفقر والفاقة في بعض الجوانب وأن مفهوم الحريم في الشرق هو مفهوم مغلق بالزمان والمكان».
لقد فتحت فاطمة المرنيسي، على نحو غير مسبوق، الباب على مصراعيه، بدون حذلقة أو أقنعة، لنلج نحن فضاء «الحريم»، ذلك الكيان المقصى والمهمش والمرموز الذي دارت حوله نصوص أدبية إيروتيكية تقدح الشهوات الحبيسة، لكنها أخفقت في تمثيل التراتب الثقافي داخل هذا الفضاء، ولم تجرؤ على الدخول في تفاصيله النفسية، وفي كشف نمط العلاقات السائدة فيه، وفي تأشير العلاقة المتكسرة بينه وبين العالم الخارجي الذي يحتل الرجل (الذكر) المركز الأساسي فيه.
تحدثت فاطمة المرنيسي عن الدين والجنس؛ وعن المرأة، وكانت صرخة فكرية قوية لتحريرها من مرتبة العبيد والجواري، ودافعت عن حق النساء في التعليم والعمل والسفر والتنقل بكل حرية خارج الحدود، وحاربت فكرة الحريم (حتى الغربي)، وتعدد الزوجات وملك اليمين، وغاصت عميقا في التراث لتجعل الرجل يشعر بخوفه. فالمرأة، في نهاية المطاف، ضحية خوف الرجل، كما تخبرنا الباحثة؛ وهذا ما وقفت عليه حين استضافتها كلية الآداب بنمسيك بالدار البيضاء في بداية التسعينيات، حين عاينت أن الظلام الأصولي الكثيف كان يخشاها، ولهذا لم يسمح لها بالكلام، ولا بلقاء الطلبة الذين كانوا يتأهبون لنقاش في غاية العمق والأصالة. كان الطلبة الإسلاميون يصرخون، بينما كانت «الأنوار» تبتعد بهدوء بخطوة عن ذلك الجنون. وكانت فاطمة المرنيسي تبتسم، وفي كامل لياقتها العلمية، تحاول أن تحاور «الزعماء الملتحين» بينما كانوا هم ينفذون مخطط المنع بالصراخ والتكبير والضجيج.

2/2/2017
أعلى