جون أبدايك - التودد الى الزوجة.. ترجمة جودت جالي

آه ياحبيبتي... أجل. ها نحن نجلس هنا أمام النار، على ألواح أرضية واسعة دافئة فيما يتناول الأطفال طعامهم بيننا جالسين على شكل هلال. أنا والبنت نتقاسم نصف بينت من البطاطا المقلية على الطريقة الفرنسية وأنت والولد تتقاسمان آخر. وفي الوسط، الطفل الرضيع الذي لا يشاركنا شيئا، وقد وُضع في مهده الهزاز، يصنع انعكاسات بينه وبين نفسه مثل جوهرة، ويمص رضاعته ببراعة متجهمة، وعيناه الأنانيتان المتأملتان تسرقان ألقا من وسط اللهب. وأنت ... أنت تدعين تنورتك... التنورة السوداء نفسها التي ركبت الدراجة هذا الصباح وأنت ترتدينها وإندفعت بجمال مظهر المرأة الناعم لتعزفي على بيانو مدرسة الأحد العتيق نغمات صعبة، أنت تدعين هذه التنورة السوداء تنزلق عن ركبتيك المرتفعتين الى أسفل فخذيك... ينزلق فخذاك نحو الأعلى في جغرافية جسدك الكاملة بحيث ينكشف بياضهما الداخلي الموازي لدفء النار ولناظري.
آه ... يوجد سطر ﻠ(جويس) أحاول إستعادته من كهوف (عوليس) الأسطورية التي لم تستكشف تماما.. (من أجل أن يسعد قلب بليزس بويلان يطقطق رباط جورب في وكر عميق بدبلن) ماذا؟ تمطق شهواني.. تلك هي الكلمة الحاسمة (تتمطق تمطقا شهوانيا على فخذها الأنثوي القابل للتمطق) ... شيء من هذا القبيل. أي رجل رائع ليشعر هذا الشعور! ... تمطق المرأة الشهواني.. وهو رائع أيضا لأنه يحس لغة الحياة السحرية المتطلعة الخصبة، اللغة المستعصية على التفسير والدحض وهي تحيا حياتها الداخلية، أية حيوية تلبست التفكير وجعلته عالما بأن إضافة Wo الى الرجل Man خلق امرأة Woman ؟ إن هذا هو الإختلاف بالضبط. اﻠ Wالرحبة و اﻠ Oالمرحبة.. رحم.. يبدو الأطفال في جلستنا الهلالية، وهم بحجمهم هذا، وكأنهم يخرجون منك نحوي بأصابع وعيون مبتلة، بمسحة لون برونزي، ثلاثة أطفال، خمسة أشخاص، سبع سنين مضت منذ أن تزوجت امرأة رحبة دافئة، توددت وتزوجت.. زوجة! سكين كلمة، مع كل وجعها الحاسم، لم تنه ذلك التودد.. هذا شيء يثير دهشتي.
نأكل لحما... لحما إنتزعته دافئا من يدي عاملة الهمبرغر قليلة الخبرة وقت العشاء على بعد ميل، في مكان يعج بالضراوة ويسدر في الوحشية وتملأه رائحة اﻠ(كروم)، هددني شبان خطرون يتلفظون بنكات قذرة، وسعى شيوخ نحوي بأيدٍ دفأتها القهوة. وفقت في تدبر أمر محفظتي وإنطلقت في طريقي عائدا. كانت حقيبة الكعك السمينة الرمادية دافئة بجانبي في السيارة الباردة، فيما كانت تبعث حرارة أكثر منها إلحاحا الحقيبةُ الأصغر التي تحوي علبتي المقلي الفرنسي الكرتونيتين الصغيرتين. عدت عبر هواء الشتاء الأسود الى نار الكهف الحميم حيث إستقبلني التهليل والترحيب.
حيوان الآيل... فاغر الفم والقطن ينتأ منه، يتمدد خلفيميتا بموازاة كتفيّ، وها أنت الآن الى جوار اﻠ Oالأبيض للماعون الذي ينبذ فيه الأطفال صارخين بإشمئزاز حلقات البصل نصف الشفافة التي جاءت معصورة في الهمبرغر، تدنين أصابع قدميك إنجا أقرب الى النار فينكشف البياض الرمادي لأقصى باطن ساقك. والرباط المرن أبدا يطقطق بإهمال متمطقا تمطقا شهوانيا إزاء قلبي المختبئ.
من كان سيخطر بباله؟ زوجة رحبة، هناك في الخلف، في الإرتجاف الأبيض لمراسيم الزواج (ألحظ بطرف عيني، برغم الترحيب المخبل للنداءات المتوعدة، إهتزاز زهور ستيفانوتيس* وهي تلتصق بخصرك). لايمكن لسبع سنين أن تبعدنا عن البداية عبر كل تلك الأفرشة الدافئة ونحو نفس الغاية المرتعشة. تتغير الخلايا كل سبع سنين ونزولا حتى أصغر ذرة يظهر إنقطاع غريب واضحا كأنما الله يأبى إلا تجديد الكون كل لحظة. (آه يارب.. ياأيها الرب العزيز. ياصديق طفولتي الشاهق. لن أنساك رغم أنهم يتفوهون بما يبعث الرعب في نفسي. إنهم يقولون بأن نوافذ الكاتدرائيات الوردية ماهي إلا رموز مهبلية( ساقاك مكشوفتان تماما مثلما تنكشفان حين ترتدين زي السباحة تواقة للغوص في إضطراب الحرارة الكهرماني. حسن... نفثة لهب خضراء تنطلق جانبا وهي تصرخ من جيب زند الخشب الصمغي وتتمايل الظلال البرتقالية بحياة طلقة..
- هل تذكرين كيف رسمت مدفأة الكيروسين نافذة وردية على السقف في شهر العسل؟
- إششاه....
يتجه حنكك نحو ركبتيك وتنسحب قصبتا ساقيك... إنسحب كل شيء. ربما لم يكن يوجد بالنسبة اليك شيء كثير تتذكرينه: دم مراق على نحو فاضح، خرق من كل نوع.

- أبرد مما كنا نتوقع من حزيران.
- ماما... ماهو البرد... ماذا قلت؟
سألتك البنت لافظة الكلمات بغضب وهي عازمة أن لا تزل الكلمات على لسانها فتجعلها تتعثر وتثير ضحكنا.
- بيت سكناه أنا وأبوك مرة.
- لا أحب ذلك!
قالها الولد ورمى نصف كعكة ملونة بخردل الشرتروزيه على الأرض. تلتقطينها وأنت تسألين سؤالا متأملا جميل الكآبة.
- أليس هذا مضحكا؟ هل يوجد على أي من البقية خردل؟
- أكره ذلك!
يلح الولد. إنه الآن في الثانية من العمر وهو يختطف ما يقدر عليه من اللغة التي لا تحصى وهي بالنسبة اليه مجموعة من المقابض المبهمة السميكة.
- خذي.. يمكنه أخذ حصتي... إعطيني حصته!
أناولك الهمبرغر. تأخذينه. يأخذه منك. يتصاعد ترقرق من عرفان الجميل. لم يعد يمتدح بطولة إحضاري العشاء غير جهدك. تحسين إحساسا ماكرا... تحسين أني أدركت علمك بأملي في أن أوجه طاقتك لبذل أكثر إنتشاءا. نشعر بكل ما بيننا... بكل ترقرق. كائن أو غير كائن. إنه شيء مرهق، فمغازلة زوجة تقتضي عشرة أضعاف القوة المطلوبة للفوز بفتاة لا خبرة لها. تتغير النار مبعثرة أجزاء جريدة تحمل شبح حبر رسالتها بلون وردي مشع. تلمين ساقيك ساحبة التنورة فوقهما مجددا. يمتص الطفل ثمالة رضاعته بضوضاء آزة كأنها تنهدات زنود خشب أنهكتها النار. يسقطها أرضا مع الخداع الكريه لرغوتها الفارغة ويبدأ البكاء. ينفتح فمه الأناني ويتمزق غشاء رضاه اللذيذ فتأخذينه بين ذراعيك وتنهضين. أنت تحبينه أكثر مني.
من كان يفكر أنه ما أن أريق الدم فإن أي حاجز لم يهدم، وأنك تعودين عذراء كل مرة؟ فارعة وجميلة وغامضة ونائية ولطيفة. نضع الأطفال في الفراش بعكس ترتيب ولادتهم. أنا صبور وأبوي وطيب بلا حدود. ها أنت تعرفين. نراقب الأكياس الورقية وعلب الكارتون وهي تشتعل على وسائد الجمر المتنفس. القراءة ومشاهدة التلفزيون وأكل البسكويت اليابس. لا يهم. تحل الساعة الحادية عشرة ولأجل لحظة واخزة تقفين على بساط غرفة النوم بردائك التحتاني وتحلين ثوب النوم...آه ... بياض خصب للحم شهي لذيذ. تقرأين في الفراش عن (ريتشارد نيكسون)، إنه يسحرك وأنت تكرهينه، تعرفين كيف هزم (جيري فورهيس) وضحى بالسيدة (دوغلاس) وكيف لعب الورق في البحرية رغم أنه من أتباع مذهب الكويكرز، تعرفين كل خدعه الشيطانية وتصرفاته الوضيعة... آه يا ربي سهل للرجل المسكين الخلود للنوم. لا أحد منا كامل.
- هي... دعينا نطفئ النور.
- إنتظر إنه على وشك تجريم (هيس). شيء غريب إن الكتاب يقول بأنه يتصرف بنزاهة.
- أنا واثق من هذا.

أمد يدي الى مفتاح النور.
- لا ... إنتظر حتى أنهي هذا الفصل... أنا واثقة أن هناك شيئا مهما في نهايته.
- ياحبيبتي.... كان هيس مذنبا.. كلنا شهوانيون ونموت دون أن نتوب.
ولقد توددت اليك كلماتي المزوقة ذات يوم.
أضطجع بإتجاه ظهرك المحدب الرقيق. تقرأين وأنت مضطجعة على جنبك، ويالها من خدعة سريرية. ألمح الصفحة من خلال شعرك مادة بيضاء كوتد بلوري. إنزلق فجأة... إنزلق الكتاب من يدك. أنت نائمة... آه.... خدعة ماكرة.. ماكرة. أفكر في الظلام... ماكرة. مصابيح السيارات الأمامية تنزلق تلقائيا كشقوق ضياء مروحية على الجدران والسقف. قمة المدفأة النفطية التي تنتصب في وسط الغرفة تسدد الى الأعلى نافذتها الوردية الكبيرة من خلال ثقوبها ذات الشكل التويجي. فيما كان اللهب يخفق على الفتيلة المدورة كانت النجمة الرقيقة لشبه الظل تتحرك وتتماوج كأنها رسمت على حرير سحب برقة أو نفخ بلطف. لونها دم لطيف غير واضح. إننا ندفع الثمن دماء غالية من أجل بيوتنا المسالمة.
تبدين لي في الصباح قبيحة وهذا يبرد حنقي عليك. ضوء إفطار صباح الإثنين الباهت يحيل بشرتك الى شحوب مبقع ويبدد ما في إمتلائك من حسن ويجعل ثوب الحمام التي ترتدينه أنبوبا رخوا ملوثا يصطفق على جسمك كاشفا كشفا يغم النفس تقويرة فستانك الشاحبة. البشرة ما بين نهديك صفرة حزينة. أشرب بقدح القهوة نخب كآبتك فكل تغضن وأثر خفيف عليك هو إنتصاف لي منك وإنتقام. يتذمر الأطفال... تتعطل محمصة الخبز. سبع سنين إستهلكت هذه المرأة.

الرجل... ينطلق خارجا للعمل وهو يصارع للحصول على الحق في المرور منحرفا على طرف حدود السرعة القانونية الدقيق والصلب، يخرج من التشوش والوداعة وإمتقاع اللون والترهل المنزلي الى داخل المدينة، عالمه من حجر، العملة الرابحة، مناورة التجريدات، ﺠﻌل كل شيء عديم الرحمة يعمل، آه يا مباهج المهنة البليدة العنيدة!
أعود ورأسي محشور في ماكنة، أنا أحتاج من الناحية العملية أسابيع لأشرح لك متاعب عقلي، أضيع الأمسية العمياء كلها في عبارات وأرقام، تقدمين لي طعام العشاء كخادمة... بل أدنى من خادمة، لأني عرفتك. يلمسني الأطفال بوجل كما يلمسون عارضة شاهقة مثبتة الى هيكل لايفهمون إرتفاعه. ينسحبون للنوم بسلام. نتركهم يمرون بهدوء متقابل منك ومني، تعود أفكاري لتشغيل نفس الدوائر الخفية على نفس القضبان المهنية المتصالبة بنفس الزوايا الحادة المتواصلة، تحدثين خشخشة بالكتاب الذي يتحدث عن نيكسون. تختفين في الطابق العلوي، تضج في دورة المياه أنابيب الماء. كأني وجدت في رأسي مفتاح التشغيل العاطل أخيرا. أضغط عليه. لا يعمل... أضغط... إنه عاطل. يزداد ذهني تشوشا وأدور في الغرفة بلا هدف ودماغي ممخض بالسجائر.
هكذا فوجئت وأنا أستدير حين جئت في الساعة العاشرة المليئة بالمعنى إلي بقبلة معجون أسنان وأنت ندية ومراهقة ورشيقة الحركة.
المغزى الخطير لهذه القصة هو أن هدية متوقعة لا تستحق عناء تقديمها.

=============

*ستيفانوتيس نبتة ذات زهور عطرية موطنها الأصلي في جزيرة مدغشقر. (المترجم)

مصدر القصة: مجموعة Pigeon Feathers, john updike, 1962

جون أبدايك (1932 - 2009) روائي وشاعر وناقد أمريكي. مشهور بأسلوبه النثري الغنائي المتقن الصعب على الترجمة. عمل أبدايك محررا في مجلة نيويوركر من عام 1955 إلى غاية 1957، وبنى شهرته الأدبية على كتاباته في المجلة نفسها. ظهرت موهبته أولا من خلال رسم الكاريكاتير ثم تركه بعد فترة واتجه إلى كتابة الشعر ثم القصة القصيرة ثم الرواية ، واستمر فن الكاريكاتير في الظهور من خلال كتاباته فلا تزال آثارها تتغلغل في كتاباته القصصية والشعرية والروائية، وبدأت شهرته في الظهور عندما انضم لمجلة نيويوركر سنة 1955 وحتى العام 1957 ، وبقي يرسل لها كتاباته حتى نهاية حياته. كتب سلسلة روايات عن شخصية بإسم (رابت) وحاز عنها على جوائز عديدة، وله مجاميع قصصية منها (نفس الباب) و(ريش الحمام) وغيرها. قصة (التودد الى الزوجة) من مجموعة (ريش الحمام) وكانت قد نشرت أولا في مجلة ذي نيويوركر سنة 1960. هذه الترجمة التي مضى عليها ثلاثين عاما تقريبا (سنة 1989) منذ أن نشرت لأول مرة بعنوان (إغواء الزوجة) في جريدة القادسية أخضعتها للتدقيق والتنقيح لغرض نشرها ضمن هذه المختارات.
عن مختارات (التودد الى الزوجة) 2018 ترجمة جودت جالي

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى