دراسات في التراث ألف ليلة وليلة - حكاية بدور بنت الجوهري مع جبير بن عمير الشيباني

ومما يحكى أن أمير المؤمنين هارون الرشيد أرق ليلة من الليالي وتعذر عليه النوم ولم يزل ينقلب من جنب إلى جنب لشدة أرقه فلما أعياه ذلك أحضر مسروراً وقال: يا مسرور انظر إلى من يسليني على هذا الأرق فقال له: يا مولاي هل لك أن تدخل البستان الذي في الدار وتتفرج على ما فيه من الأزهار وتنظر إلى الكواكب وحسن ترصيعها والقمر بينها مشرف على الماء قال له: يا مسرور إن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي إن في قصرك ثلاثمائة سرية لكل سرية مقصورة فأنت تأمر كل واحدة منهن أن تختلي بنفسها في مقصورتها وتدور أنت تتفرج عليهن وهن لا يدرين قال: يا مسرور القصر قصري والجواري ملكي غير أن نفسي لا تهفو إلى شيء من ذلك، قال: يا مولاي مر العلماء والحكماء والشعراء أم يحضروا بين يديك ويفيضوا في المباحث وينشدون الأشعار ويقصون عليك الأشعار ويقصون عليك الحكايات والأخبار قال: ما تهفو نفسي إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي مر العلماء والندماء والظرفاء أن يحضروا بين يديك ويتحفوك بغريب النكات قال: يا مسرور إن نفسي ما تهفو إلى شيء من ذلك قال: يا مولاي فاضرب عنقي. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة التاسعة والستين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن مسرور قال للخليفة: يا مولاي فاضرب عنقي لعله يزيل أرقك ويذهب القلق عنك، فضحك الرشيد وقال: يا مسرور انظر من بالباب من الندماء فخرج مسرور ثم عاد وقال: يا مولاي الذي على الباب علي بن منصور الخليع الدمشقي قال علي به فذهب وأتى به، فلما دخل قال: السلام عليك يا أمير المؤمنين فرد عليه السلام وقال: يا ابن منصور حدثني بشيء من أخبارك. فقال: يا أمير المؤمنين هل أحدثك بشيء رأيته عياناً أو شيء سمعت به فقال أمير المؤمنين: إن كنت عاينت شيئاً غريباً فحدثنا به فإنه ليس الخبر كالعيان قال: يا أمير المؤمنين اجل لي سمعك وقلبك قال: يا ابن منصور هاأنا سامع لك بأذني ناظر لك بعيني مصغ لك بقلبي قال: يا أمير المؤمنين إن لي كل سنة رسماً على محمد بن سليمان الهاشمي سلطان البصرة فمضيت إليه على عادتي فلما وصلت إليه وجدته متهيئاً للركوب إلى الصيد والقنص فسلمت عليه وسلم علي وقال لي: يا ابن منصور اركب معنا إلى الصيد فقلت له: يا مولاي ما لي قدرة على الركوب فأجلسني في دار الضيافة وأوصى علي الحجاب والنواب ففعلوا. ثم توجه إلى الصيد فأكرموني غاية الإكرام وضيفوني أحسن الضيافة فقلت في نفسي: يا لله العجب إن لي مدة أقدم من بغداد إلى البصرة ولم أعرف أن في البصرة سوى من القصر إلى البستان ومتى يكون لي فرصة أنتهزها في الفرجة على جهات البصرة مثل هذه النوبة فأنا أقوم هذه الساعة وأتمشى وحدي لأتفرج وينهضم عني الأكل.

فلبست ثيابي وتمشيت في جانب البصرة ومعلومك يا أمير المؤمنين أن فيها سبعين درباً طول كل درب سبعين فرسخاً بالعراقي فتهت في أزقتها ولحقني العطش، فبينما أنا ماش يا أمير المؤمنين وإذا بباب كبير له حلقتان من النحاس الأصفر ومرخي عليه ستور من الديباج الأحمر وفي جانبه مصطبتان وفوقه مكعب لدوالي العنب وقد ظللت على ذلك الباب فوقفت أتفرج على هذا المكان، فبينما أنا واقف سمعت صوت أنين ناشيء عن قلب حزين يقلب النغمات وينشد هذه الأبيات:

جسمي غدا منزل الأسقام والمحن = من أجل ظبي بعيد الدار والوطن
فيا نسيمي قد هيجتماه شجـنـي = بالله ربكما عرجا عن سكـنـي
وعاتباه لعل العتب يعـطـفـه = وحسناً القول إذ يصغي لقولكما
واستدرجا خبر العشاق بينكـمـا = وأولياني جميلاً من صنيعكمـا
وعرضا بي وقولاً في حديثكما = ما بال عبد بالهجران تتلفـه

فقلت في نفسي: إن كان صاحب النغمة مليحاً فقد جمع بين الملاحة وحسن الصوت ثم دنوت من الباب وجعلت أرفع الستر قليلاً قليلاً وإذا بجارية بيضاء كأنها البدر في ليلة أربعة عشر بحاجبين مقرونين وجفنين ناعسين ونهدين كرمانتين رقيقتان أقحونتان وفم كأنه خاتم سليمان ونضيد أسنان يلعب بعقل الناظم والناثر كما قال فيه الشاعر:

يا در ثغر الحبيب من نظمك = وأودع الراح والأقاح فمك
ومن أعار الصباح مبتسمـك = ومن بقفل العقيق قد ختمك
أصبح من قد رآك من طرب = يتيه عجباً فكيف من لثمـك

وبالجملة قد حازت أنواع الجمال وصارت فتنة للنساء والرجال لا يشبع من رؤية حسنها الناظر وهي كما قال فيها الشاعر:

إن أقبلت قتلت وإن هي أدبرت = جعلت جميع الناس من عشاقها
شمسـية بـدرية لـكـنـهـا = ليس الجفا والصد من أخلاقها

فبينما أنا انظر إليها من خلال الستارة وإذا هي التفتت فرأتني واقفاً على الباب فقالت لجاريتها: انظري من بالباب فقامت الجارية وأتت إلي وقالت: يا شيخ أليس عندك حياء وعيب فقلت لها: يا سيدتي أما الشيب فقد عرفناه وأما العيب فما أظن أني أتيت بعيب، فقالت سيدتها: وأي عيب أكثر من تهجمك على دار غيرك ونظرك إلى حريم غير حريمك، فقلت لها: يا سيدتي لي عذر في ذلك فقالت: وما عذرك فقلت لها: إني رجل غريب عطشان وقد قتلني العطش فقالت قبلنا عذرك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة السبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: قبلنا عذرك ثم نادت بعض جواريها وقالت: يا لطف اسقيه شربة بالكوز الذهب فجاءتني بكوز من الذهب الأحمر مرصع بالذهب والجوهر ملآن ماء ممزوج بالمسك الأذفر وهو مغطى بمنديل من الحرير الأخضر فجعلت أشرب وأطيل في شربي وانا سارق النظر إليها حتى طال وقوفي ثم رددت الكوز على الجارية ووقفت فقالت: يا شيخ امض إلى حال سبيلك فقلت لها: يا سيدتي أنا مشغول الفكر فقالت: فبم؟ فقلت: في تقلب الزمان وتصرف الحدثان، قالت: يحق لك لأن الزمان ذو عجائب ولكن ما الذي رأيته من عجائبه حتى تفكر فيه فقلت لها: أفكر في صاحب هذا الدار لأنه كان صديقي في حال حياته فقالت لي: ما اسمه فقلت: محمد بن علي الجوهري وكان ذا مال جزيل فهل خلف أولاداً فقالت: نعم بنتاً يقال لها: بدور وقد ورثت أمواله جميعها فقلت لها: كأنك ابنته ، قالت: نعم ، وضحكت ثم قالت: يا شيخ قد أطلت الخطاب فاذهب إلى حال سبيلك ، فقلت لها: لا بد من الذهاب ولكني أرى محاسنك متغيرة فأخبريني بشأنك لعل الله يجعل لك على يدي فرجاً فقالت لي: يا شيخ إن كنت من أهل الأسرار كشفنا لك سرنا ، فأخبرني من أنت حتى أعرفك هل أنت محل للسر أولا، فقد قال الشاعر:

لا يكتم السر إلا كـل ذي ثـقة = والسر عند خيار الناس مكتـوم
قد صنت سري في بيت له غلق = وقد ضاع مفتاحه والبيت مختوم

فقلت لها: يا سيدتي إن كان قصدك أن تعلمي من أنا فأنا علي بن منصور والخليع الدمشقي نديم أمير المؤمنين هارون الرشيد، ، فلما سمعت باسمي نزلت من على كرسيها وسلمت علي وقالت لي: مرحباً بك يا ابن منصور والآن أخبرك بحالي وأستأمنك على سري: أنا عاشقة مفارقة فقلت: يا سيدتي أنت مليحة ولا تعشقين إلا كل مليح فمن الذي تعشقينه قالت: أعشق جبير بن عمير الشيباني أمير بني شيبان وقد وصفت لي شاباً لم يكن بالبصرة أحسن منه فقلت لها: يا سيدتي هل جرى بينكما مواصلة أو مراسلة؟ قالت: نعم إلا أنه قد عشنا باللسان لا بالقلب والجنان لأنه لم يوف بوعد ولم يحافظ لي على عهد فقلت لها: يا سيدتي وما سبب الفراق بينكما قالت: سببه إني كنت يوماً جالسة وجاريتي هذه تسرح شعري فلما فرغت من تسريحه جدلت ذوائبي فأعجبها حسني وجمالي فطأطأت علي وقبلت خدي وكان في ذلك الوقت داخلاً على غفلة فرأى ذلك فلما رأى الجارية تقبل خدي ولى من وقته غضبان عازماً على دوام البين وأنشدت هذين البيتين:

إذا كان لي فيمن أحب مشـارك = تركت الذي أهوى وعشت وحيدا
فلا خير في المعشوق إن كان في الهوى = لغير الذي يرضى الـمـحـب مـزيدا

ومن حين ولى معرضاً إلى الآن لم يأتنا من عنده كتاب ولا جواب يا ابن منصور فقلت لها: فما تريدين قالت: أريد أن أرسل إليه معك كتاباً فإن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيك مائة دينار فقلت لها: افعلي ما بدا لك فقالت: سمعاً وطاعة ثم نادت بعض جواريها وقالت: آتيني بدواة وقرطاس فأتتها بدواة وقرطاس فكتبت هذه الأبيات:

حبيبي ما هذا التبـاعـد والـقـلا = فأين التغاضي بيننا والتـعـطـف
وما لك بالهجران عني معـرضـاً = فما وجهك الوجه الذي كنت أعرف
نعم نقل الواشون عـنـي بـاطـلاً = فملت لما قالوا فزادوا وأسـرفـوا
فإن تك قد صدقتهم في حـديثـهـم فحاشاك من هـذا ورأيك أعـرف
بعيشك قل لي ما الذي قد سمعـت = فإنك تدري ما يقال وتـنـصـف
فإن كان قولاً صح أنـي قـلـتـه = فللقول تأويل وللقـول مـصـرف
وهب أنه قول من الـلـه مـنـزل = فقد بدل التوراة قـوم وحـرفـوا
وبالزور قد قيل في الناس قبـلـنـا = فها عند يعقـوب تـلـوم يوسـف
وهاأنا والواشي وأنـت جـمـيعـاً = يكون لنا يوم عـظـيم مـوقـف

ثم بعد ذلك ختمت الكتاب وناولتني إياه فأخذته ومضيت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدته في الصيد فجلست أنتظره فبينما أنا جالس وإذا به قد أقبل من الصيد فلما رأيته يا أمير المؤمنين على فرسه ذهل عقلي من حسنه وجماله فالتفت فرآني جالساً بباب داره فلما رآني نزل عن جواده وأتى إلى واعتنقني وسلم علي فخيل لي أني اعتنقت الدنيا وما فيها ثم دخل بي إلى داره وأجلسني على فراشه وأمر بتقديم مائدة من الخولنج الخراساني وقوائمها من الذهب عليها جميع الأطعمة وأنواع اللحم من مقلي ومشوي وما أشبه ذلك، فلما جلست على المائدة. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الحادية والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن علي بن منصور قال لما جلست على مائدة جبير بن عمير الشيباني قال: مد يدك إلى طعامنا واجبر خاطرنا بأكل زادنا فقلت له: والله ما آكل من طعامك لقمة واحدة حتى تقضي حاجتي قال: فما حاجتك؟ فأخرجت إليه الكتاب فلما قرأه وفهم ما فيه مزقه ورماه في الأرض وقال لي: يا ابن منصور مهما كان ذلك من الحوائج قضيناه إلا هذه الحاجة التي تتعلق بصاحبة هذا الكتاب فإن كتابها ليس له عندنا جواب فقمت من عنده غضبان فتعلق بأذيالي وقال: يا ابن منصور أنا أخبرك بالذي قالته لك وإن لم أكن حاضراً معكما فقلت: ما الذي قالته؟ قال: أما قالت لك صاحبة هذا الكتاب أن أتيتني بجوابه فلك عندي خمسمائة دينار وإن لم تأتني بجوابه فلك حق مشيتك مائة دينار قلت: نعم قال: اجلس عندي اليوم وكل واشرب وتلذذ واطرب وخذ لك خمسمائة دينار فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته ثم قلت: يا سيدي ما في دارك سماع قال لي: إن لنا مدة نشرب من غير سماع ثم نادى بعض جواريه وقال: يا شجرة الدر فأجابته جارية من مقصورتها ومعها عود من صنع الهنود ملفوف في كيس من الإبريسم ثم جاءت وجلست ووضعته في حجرها وضربت عليه إحدى وعشرين طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأطربت بالنغمات وأنشدت هذه الأبيات:

من لم يذق حلو الهوى مع مـره = لم يدر وصل حبيبه من هجـره
وكذاك من قد حاد عن سنن الهوى = لم يدر سهل طريقه من وعـره
مازلت معترضاً على أهل الهوى = حتى بليت بـحـلـوه وبـمـره
شربت كأس مراره متـجـرعـاً = وخضعت فيه لعبـده ولـحـره
وكم ليلة بات الحبيب منـادمـي = ورشفت حلو رضابه من ثغـره
ما كان أقصر عمر ليل وصالنـا = قد جاء وقت عشائه مع فجـره
نذر الزمان بأن يفرق شمـلـنـا = والآن قد أوفى الزمان بـنـذره
حكم الزمان فلا مرد لحـكـمـه = من ذا يعارض سيداً في أمـره

فلما فرغت الجارية من شعرها صرخ بها سيدها صرخة عظيمة ووقع مغشياً عليه فقالت الجارية: لا آخذك الله يا شيخ، إن لنا مدة نشرب بلا سماع مخافة على سيدنا من مثل هذه الصرعة ولكن اذهب إلى المقصورة ونم فيها فتوجهت إلى المقصورة التي أشارت إليها ونمت فيها إلى الصباح وإذا أنا بغلام أتاني ومعه كيس فيه خمسمائة دينار وقال: هذا الذي وعدك به سيدي ولكنك لا تعد إلى هذه الجارية التي أرسلتك وكأنك ما سمعت بهذا الخبر ولا سمعنا فقلت: سمعاً وطاعة.

ثم أخذت الكيس ومضيت إلى حال سبيلي وقلت في نفسي: إن الجارية في انتظاري من أمس والله لا بد أن أرجع إليها وأخبرها بما جرى بيني وبينه لأنني إن لم أعد إليها فربما تشتمني وتشتم كل من طلع من بلادي فمضيت إليها فوجدتها واقفة فلما رأتني قالت: يا ابن منصور إنك ما قضيت لي حاجة، فقلت لها: من أعلمك بهذا فقالت: يا ابن منصور إن معي مكاشفة أخرى وهو أنك لما ناولته الورقة مزقها ورماها وقال لك: يا ابن منصور مهما كان لك من الحوائج قضيناه لك إلا حاجة صاحبة هذه الورقة فإنها ليس لها عندي جواب فقمت أنت من عنده مغضباً فتعلق بأذيالك وقال: يا ابن منصور اجلس عندي اليوم فإنك ضيفي فكل واشرب وتلذذ واطرب، وخذ لك خمسمائة دينار فجلست عنده وأكلت وشربت وتلذذت وطربت وسامرته وغنت الجارية بالصوت الفلاني والصوت الفلاني فوقع مغشياً عليه فقلت لها يا أمير المؤمنين: هل أنت معنا فقالت لي: يا ابن منصور أما سمعت قول الشاعر:

قلوب العاشقين لها عيون = ترى ما لا يراه الناظرون

ولكن يا ابن منصور ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا وغيراه. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثانية والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن الجارية قالت: يا ابن منصور ما تعاقب الليل والنهار على شيء إلا غيراه ثم رفعت طرفها إلى السماء، وقالت: إلهي وسيدي ومولاي كما بليتني بمحبة جبير بن عمير أن تبليه بمحبتي وأن تنقل المحبة من قلبي إلى قلبه.

ثم إنها أعطتني مائة دينار حق طريقي فأخذتها ومضيت إلى سلطان البصرة فوجدته قد جاء من الصيد فأخذت رسمي منه ورجعت إلى بغداد، فلما أقبلت السنة الثانية توجهت إلى مدينة البصرة لأطلب رسمي على عادتي ودفع السلطان إلي رسمي ولما أردت الرجوع إلى بغداد تفكرت في نفسي أمر الجارية بدور وقلت مر أمر: والله لا بد أن أذهب إليها وأنظر ما جرى بينها وبين صاحبها فجئت دارها فرأيت على بابه كنساً ورشاً وخدماً وحشماً وغلماناً فقلت لعل الجارية طفح الهم على قلبها فماتت ونزل في دارها أمير من الأمراء فتركتها ورجعت إلى دار جبير بن عمير الشيباني فوجدت مصاطبها قد هدمت ولم أجده على باب داره وجعلت أفيض العبرات وأندبه بهذه الأبيات:

يا سادة رحلوا والقلب يتـبـعـهـم = عودوا تعد لي اعيادي بـعـودكـم
وقفت في دراكم أنعي مساكنـكـم = والدمع يدفق والأجفان تلـتـطـم
أسائل الـدار والأطـلال بـاكـية = أين الذي كان منه الجود والنـعـم
اقصد سبيلك فالأحباب قد رحـلـوا = من الربوع وتحت الترب قد ردموا
لا أوحش الله من رؤيا محاسنـهـم = طولاً ولا عرضاً ولا غابت لهم شيم

فبينما أنا أندب أهل هذه الدار بهذه الأبيات يا أمير المؤمنين وإذا بعبد أسود قد خرج إلي من الدار فقال: يا شيخ اسكت ثكلتك أمك ما لي أراك ندب هذه الدار بهذه الأبيات فقلت له: إني كنت أعهدها لصديق من أصدقائي فقال: وما اسمه؟ فقلت: جبير بن عمير الشيباني قال: وأي شيء جرى له الحمد لله هاهو على حاله من الغنى والسعادة والملك لكن ابتلاه بمحبة جارية يقال لها السيدة بدور وهو في محبتها مغور من شدة الوجد والتبريح فهو كالحجر الجلمود والطريح فإن جاع لا يقول لهم أطعموني وإن عطش لا يقول اسقوني فقلت: استأذن لي في الدخول عليه. فقال: يا سيدي أتدخل على من لا يفهم فقلت: لا بد أن أدخل إليه على كل حال مستأذناً ثم عاد إلي آذناً فدخلت عليه فوجدته كالحجر الطريح لا يفهم بإشارة ولا بصريح وكلمته فلم يكلمني فقال لي بعض أتباعه: يا سيدي إن كنت تحفظ شيئاً من الشعر فأنشده إياه وارفع صوتك به فإنه ينتبه لذلك ويخاطبك فأنشدت هذين البيتين:

أسلوت حب بدور أم تتجـلـد = وسهرت ليلك أم جفونك ترقد
إن كان دمعك سائلاً مهمـولة = فاعلم بأنك في الجنان مخلـد

فلما سمع هذا الشعر فتح عينيه وقال: مرحباً يا ابن منصور قد صار الهزل جداً فقلت له: يا سيدي ألك بي حاجة، قال: نعم أريد أن اكتب إليها ورقة وارسلها معك فإن تأتيني بجوابها فلك علي ألف دينار وإن لم تأتني بجوابها فلك علي حق مشيتك مائة دينار فقال له: افعل ما بدا لك. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الثالثة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن ابن منصور قال فقلت له: افعل ما بدا لك فنادى بعض جواريه وقال ائتيني بدواة وقرطاس فأتته بما طلبه فكتب هذه الأبيات:

سألتكم بالله يا سـادتـي مـهـلاً = علي فإن الحب لم يبق لي عقـلا
تمكن مني حـبـكـم وهـواكـم = فألبسني سقمـاً وأورثـنـي ذلا
لقد كنت قبل اليوم أستصغر الهوى = وأحسبه يا سادتي هينـاً سـهـلا
فلما أراني الحب أمواج بـحـره = رجعت لحكم الله أعذر من يبلـى
فإن شئتم أن ترحموني بوصلكـم = وإن شئتم قتلي فلا تنسوا الفضلا

ثم ختم الكتاب وناولني إياه فأخذته ومضيت به إلى دار بدور وجعلت أرفع الستر قليلاً قليلاً على العادة وإذا بعشر جوار نهد أبكار كأنهن الأقمار والسيدة بدور جالسة في وسطهن كأنها البدر في وسط النجوم أو الشمس إذا دخلت علي الغيوم وليس بها ألم ولا وجع فبينما أنا أنظر إليها وأتعجب من هذا الحال إذ لاحت بها التفاتة لي فرأتني واقفاً بالباب فقالت لي: أهلاً وسهلاً بك يا ابن منصور ادخل فدخلت وسلمت عليها وناولتها الورقة فلما قرأتها وفهمت ما فيها ضحكت وقالت يا ابن منصور ما كذب الشاعر حيث قال:

فلأصبرن على هواك تجلداً = حتى يجيء إلي منك رسول

يا ابن منصور هاأنا أكتب لك جواباً حتى يعطيك الذي وعدك به فقلت لها: جزاك الله خيراً فنادت بعض جورايها وقالت: آتيني بدواة وقرطاس فلما أتتها بما طلبت كتبت إليه هذه الأبيات:

ما لي وفيت بعهدكم فغـدرتـم = ورأيتموني منصفاً فظلمـتـم
باديتموني بالقطيعة والـجـفـا = وغدرتم والغدر باد مـنـكـم
ما زلت أحفظ في البرية عهدكم = وأصون عرضكم وأحلف عنكم
حتى رأيت بناظري ما ساءنـي = وسمعت أخبار القبائح عنـكـم
أيهون قدري حين أرفع قدركم = والله لو أكرمتم لـكـرمـتـم
فلأصرفن القلب عنكم سـلـوة = ولأنفضن يدي يأساً مـنـكـم

فقلت لها: والله يا سيدتي أنه ما يقرأ هذه الأبيات إلا وتفارق روحه من جسده فقالت لي: يا ابن منصور بلغ بي الوجد إلى ها الحد حتى قلت ما قلت فقلت لها: لو قلت أكثر من ذلك الحق لك ولكن العفو من شيم الكرام فلما سمعت كلامي تغرغرت عيناها بالدموع وكتبت إليه رقعة يا أميرالمؤمنين ما في ديوانك من يحسن أن يكتب مثلها وكتبت فيها هذه الأبيات:

إلى كم ذا الدلال وذا التجنـي = شفيت وحقك الحساد منـي
لعلي قد أسأت ولسـت أدري = فقل لي ما الذي بلغت عني
مرادي لو وضعتك يا حبيبي = مكان النوم من عيني وجفني
شربت كؤوس حبك مترعات = فأن تراني سكرت فلا تلمني

فلما فرغت من كتابة المكتوب. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الرابعة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن بدور لما فرغت من كتابة المكتوب وختمته ناولتني إياه فقلت لها: يا سيدتي إن هذه الرقعة تداوي العليل وتشفي الغليل ثم أخذت المكتوب فنادتني بعدما خرجت من عندها وقالت لي: يا ابن منصور قل له: إنها في هذه الليلة ضيفتك ففرحت أنا بذلك ومضيت بالكتاب إلى جبير بن عمير. فلما دخلت عليه وجدت عينه شاخصة إلى الباب ينتظر الجواب، فلما ناولته الورقة فتحها وقراها وفهم معناها فصاح صيحة عظيمة ووقع مغشياً عليه، فلما أفاق قال: يا ابن منصور هل كتبت هذه الرقعة بيدها ولمستها بأناملها قلت: يا سيدي وهل الناس يكتبون بأرجلهم فوالله يا أمير المؤمنين ما استتم كلامي أنا وإياه إلا وقد سمعنا شن خلاخلها في الدهليز وهي داخلة، فلما رآها قام على أقدامه كأنه لم يكن به ألم قط وعانقها عناق اللام للألف وزالت عنه علته التي لا تنصرف.

ثم جلس ولم تجلس هي فقلت لها: يا سيدتي لأي شيء لم تجلسي، قالت: يا ابن منصور لا أجلس إلا بالشرط الذي بيننا فقلت لها: وما ذلك الشرط الذي بينكما قالت: إن العشاق لا يطلع أحد على أسرارهم، ثم وضعت فمها على أذنه وقالت له كلاماً سراً فقال: سمعاً وطاعة، ثم قام جبير ووشوش بعض عبيده فغاب العبد ساعة ثم أتى ومعه قاض وشاهدان فقام جبير وأتى بكيس فيه مائة ألف دينار وقال: أيها القاضي اعقد عقدي على هذه الصبية بهذا المبلغ.

فقال لها القاضي:قولي رضيت بذلك فقالت: رضيت بذلك، فعقدوا العقد ثم فتجت الكيس وملأت يدها منه وأعطت القاضي والشهود ثم ناولته بقية الكيس فانصرف القاضي والشهود وقعدت أنا وإياها في بسط وانشراح إلى أن مضى من الليل أكثره فقلت في نفسي إنهما عاشقان مضت عليهما مدة من الزمان وهما متهاجران، فأنا أقوم في هذه الساعة لأنام في مكان بعيد عنهما وأتركهما يختليان ببعضهما، ثم قمت فتعلقت بأذيالي وقالت: ما الذي حدثتك به؟ فقلت ما هو كذا وكذا فقالت: اجلس فإذا أردنا انصرافك صرفناك فجلست معهما إلى أن قرب الصبح فقالت: يا ابن منصور امض إلى تلك المقصورة لأننا فرشناها لك وهي محل نومك فقمت ونمت إلى الصباح فلما أصبحت جاءني غلام بطشت وإبريق فتوضأت وصليت الصبح ثم جلست فبينما أنا جالس وإذا بجبير ومحبوبته خرجا من حمام الدار وكل منهما يعصر ذوائبه فصبحت عليهما وهنيتهما بالسلامة وجمع الشمل، ثم قلت له: الذي أوله شرط آخره رضا فقال لي: صدقت وقد وجب لك الإكرام، ثم نادى خازنداره وقال له ائتني بثلاثة آلاف دينار فأتاه بكيس فيه ثلاثة آلف دينار. فقال لي: تفضل علينا بقبول فقلت له: لا أقبله حتى تحكي سبب انتقال المحبة منها إليك بعد ذلك الصد العظيم قال: سمعاً وطاعة اعلم أن عندنا عيداً يقال له عيد النواريز، يخرج الناس فيه وينزلون في الزورق ويتفرجون في البحر فخرجت أتفرج أنا وأصحابي فرأيت زورقاً فيه عشر جوار كأنهن الأقمار والسيدة بدور وعودها معها فضربت عليه إحدى عشر طريقة ثم عادت إلى الطريقة الأولى وأنشدت هذين البيتين:

النار أبرد مـن نـيران أحـشـائي = والصخر أليم من قلبي لمـولاتـي
إني لأعجب من تألف خـلـقـتـه = قلب من الصخر في جسم من الماء

فقلت لها: أعيدي البيتين والطريقة فما رضيت. وأدرك شهرزاد الصباح فسكتت عن الكلام المباح.

وفي الليلة الخامسة والسبعين بعد الثلاثمائة قالت: بلغني أيها الملك السعيد أن جبير قال لها: أعيدي البيتين فما رضيت فأمرت التونية أن يرجموها فرجموها بالنارنج حتى خشيت الغرق على الزورق الذي هي فيه ثم مضت إلى حال سبيلها وهذا سبب انتقال المحجبة من قلبها إلى قلبي فهنأتهما بجمع الشمل وأخذت الكيس بما فيه وتوجهت إلى بغداد. فانشرح صدر الخليفة وزال عنه ما كان يجده من الأرق وضيق الصدر.


صورة مفقودة
  • Like
التفاعلات: Maged Elgrah

تعليقات

لا توجد تعليقات.
أعلى